يعاني العالم منذ فبراير 2022 أزمة اقتصادية نتيجة الحرب الروسية - الأوكرانية، أسفرت عن تفاقم اضطراب سلاسل الإمدادات والتوريد وتباطؤ النشاط الاقتصادي، بالتزامن مع ارتفاع المستوى العام لأسعار السلع الغذائية والأساسية والمواد الخام، فضلاً عن ارتفاع تكلفة الشحن والنقل بمختلف أنواعه، مما رفع مستوى الضغوط التضخمية التي تواجهها الدول كافة حول العالم، لا سيما تلك التي تعتمد على الاستيراد في تأمين احتياجاتها من الغذاء والطاقة.
وتأتي تلك التأثيرات الملموسة نظراً لأهمية الدولتين المتحاربتين لأسواق الغذاء والطاقة في العالم، حيث تسببت الحرب في حدوث حالة من الشلل لحركة التجارة، خاصةً الحبوب، في البحر الأسود، وهو ما ساهم في امتداد عواقب تلك الحرب إلى العالم بأسره. وأملاً في تجنب أزمة غذائية عالمية حادة، وقّعت روسيا وأوكرانيا، في 22 يوليو 2022، اتفاقاً برعاية تركيا والأمم المتحدة بشأن استئناف تصدير الحبوب والأسمدة لمدة 120 يوماً حتى 19 نوفمبر 2022، قبل أن يتم تمديد الاتفاق في 17 نوفمبر لمدة 4 أشهر أخرى، كإجراء حيوي ومدعوم أممياً لضمان تدفق الإمدادات الغذائية إلى الأسواق العالمية.
وفي هذا الإطار، ثمة مخاوف دولية من عدم صمود اتفاق تصدير الحبوب، خاصةً في ظل استمرار الحرب الروسية – الأوكرانية والتصعيد بين طرفيها، فضلاً عن أنه سبق أن علقت موسكو مشاركتها في هذا الاتفاق في أواخر أكتوبر الماضي.
انعكاسات إيجابية:
يحظى تمديد اتفاقية تصدير الحبوب بأهمية كبيرة بالنظر إلى مكانة روسيا وأوكرانيا في تجارة الغذاء العالمية؛ فكلٌ البلدين يُعد من أهم منتجي ومصدري المحاصيل الزراعية على مستوى العالم، خاصةً الحبوب والبذور الزيتية. ويستحوذ البلدان على نحو 27% من التجارة العالمية للقمح، و23% للشعير، و14% للذرة، وفقاً لبيانات مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية "الأونكتاد". ويُمكن استعراض تأثير هذا الاتفاق على الأمن الغذائي العالمي على النحو الآتي:
1- ضمان تدفق الإمدادات الغذائية إلى الأسواق العالمية: نصت اتفاقية تصدير الحبوب على رفع الحصار عن ثلاثة موانئ أوكرانية رئيسية تطل على البحر الأسود، مما سمح بتداول المزيد من المواد الغذائية مع ضمان وصولها إلى الأسواق في جميع أنحاء العالم، وهو ما ساهم في التخفيف من حدة انعدام الأمن الغذائي ومخاطر زيادة الفقر والجوع العالميين، حيث تعتمد العديد من الدول، وتحديداً في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، على الإمدادات الغذائية القادمة من البحر الأسود.
وبناءً على ذلك، بلغت صادرات أوكرانيا الإجمالية من الحبوب حوالي 11 مليون طن منذ يوليو 2022 وحتى نوفمبر من العام نفسه، وكانت أكثر الحبوب المشحونة هي الذرة بنسبة 43%، يليها القمح بنسبة 29%، ومن ثم منتجات عباد الشمس بحوالي 13%، لتحتل باقي الحبوب نسبة الـ 15% المتبقية، وفقاً لأحدث البيانات الصادرة عن كل من وزارة الزراعة الأوكرانية، ومجلس الاتحاد الأوروبي.
وكان نصيب اتفاقية الأمم المتحدة من صادرات الحبوب والمنتجات الغذائية الأوكرانية الأخرى نحو 9 ملايين طن، وفقاً لتصريح الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، في نهاية أكتوبر الماضي، مما يؤكد أن إعادة ربط أوكرانيا بالأسواق العالمية والإقليمية من شأنه أن يساعد في تعزيز الأمن الغذائي العالمي.
2- تراجع أسعار الغذاء: وجهت اتفاقية تصدير الحبوب إشارات فورية للأسواق العالمية أدت إلى تراجع أسعار المواد الغذائية والتي انخفضت لسبعة أشهر متتالية، مما حال دون وقوع حوالي 100 مليون شخص في الفقر المدقع، وفقاً لتقديرات البنك الدولي.
ويتبين من الشكل الموضح أعلاه أن مؤشر "الفاو" لأسعار الغذاء العالمية بدأ في التراجع الطفيف منذ أبريل 2022، لتتسارع وتيرة التراجع بحلول يوليو وحتى أكتوبر من العام نفسه والذي سجل نحو 135.9 نقطة، بتغيير طفيف عن القراءة المسجلة في شهري أغسطس وسبتمبر الماضيين، مما يعكس تحسناً في آفاق الإنتاج في أمريكا الشمالية وروسيا وكذلك استئناف الصادرات من موانئ البحر الأسود في أوكرانيا.
تحديات ماثلة:
عقدت الأمم المتحدة وروسيا مشاورات بشأن تمديد اتفاق تصدير الحبوب في الأسابيع الأخيرة، لتؤكد تركيا في 17 نوفمبر 2022 أنه تم الاتفاق على تمديد الاتفاقية لمدة 120 يوماً وفقاً للأحكام الحالية المعتمدة منذ يوليو الماضي. ومع ذلك، هناك العديد من العقبات أمام إمكانية صمود هذا الاتفاق في ظل استمرار الحرب الأوكرانية، يُمكن عرضها على النحو الآتي:
1- اللجوء إلى "تسليح الغذاء": قررت روسيا في أواخر شهر أكتوبر الماضي تعليق مشاركتها في اتفاق الحبوب، رداً على سلسلة من الهجمات الأوكرانية بواسطة طائرات من دون طيار على سفن روسية في خليج سيفاستوبول المُطل على شبه جزيرة القرم، قبل أن تعلن لاحقاً استئناف مشاركتها في الاتفاق. ودفع انسحاب موسكو من الاتفاق أسعار السلع الزراعية والغذائية إلى الارتفاع من جديد. وتدلل تلك الخطوة على احتمالية لجوء روسيا إلى ما يصفه البعض بـ "تسليح الغذاء"، وتعريض تنفيذ اتفاق الحبوب للخطر مرة أخرى، وذلك بهدف الدفاع عن مصالحها الخاصة أو للرد على أي هجمات أوكرانية محتملة ضدها.
2- معضلة تأمين الموانئ: يُمثل استمرار النزاع بين روسيا وأوكرانيا تحدياً رئيسياً أمام صمود اتفاقية الحبوب التي اُختبرت بعد نحو 24 ساعة من توقيعها، بعدما تعرض ميناء أوديسا للقصف. وعلى الرغم من عدم تأثر الاتفاقية بتلك الهجمة، فإن استمرار الحرب قد يزيد احتمالية وقوع مثل تلك الهجمات من جديد، بما يقلل من الفاعلية المحتملة للاتفاقية.
3- ضغوط سوق التأمين: فرضت الحرب الأوكرانية تكاليف إضافية لتأمين سفن الحبوب التي تغادر موانئ أوكرانيا، نظراً لارتفاع المخاطر المرتبطة بالإبحار في البحر الأسود في ظل استمرار الحرب. وقد ضاعفت الشركات أقساط التأمين للأعمال البحرية المتضررة من الحرب منذ فبراير الماضي، كما اعتبرت شركات التأمين البحري في لندن البحر الأسود وبحر آزوف مناطق عالية الخطورة، مما دفع تكلفة تأمين السفن في هذه المنطقة للارتفاع إلى مستويات قياسية.
عوامل حاكمة:
يتوقف نجاح واستمرار اتفاق تصدير الحبوب الأوكرانية بما يضمن تعزيز الأمن الغذائي حول العالم، على عدد من المحددات، يتمثل أبرزها في التالي:
1- تيسير تصدير الأسمدة الروسية: يرتبط نجاح اتفاق الحبوب بتحقيق شرط موسكو المتعلق بتصدير الأسمدة الروسية بسلاسة، حيث أكدت روسيا في مرات عديدة عدم احترام بنود الاتفاق الخاصة بتمكينها من تصدير الأسمدة، وكشفت وزارة خارجيتها أن نحو 280 ألف طن من الأسمدة محتجزة في الموانئ الأوروبية. وعلى الرغم من عدم استهداف صادرات هذا القطاع بصورة مباشرة بعقوبات غربية، فإنها لا تصل فعلياً إلى الأسواق العالمية بسبب العقوبات التي تقيد قطاع الشحن والتأمين ودخول الموانئ.
2- استقرار الإنتاج الزراعي الأوكراني: يواجه إنتاج المحاصيل الزراعية، لا سيما الحبوب، في أوكرانيا، صعوبات شديدة وسط ظروف الحرب الجارية. وتتوقع وزارة الزراعة الأوكرانية أن تنخفض مساحة الأرض المخصصة لزراعة الحبوب بنسبة تصل إلى 35% هذا العام، وسط عدم قدرة المزارعين على الحصول على مستلزمات الإنتاج والمعدات الزراعية، هذا إلى جانب مساهمة حالة عدم اليقين في تحول بعض المزارعين الأوكرانيين إلى زارعة الزيوت النباتية الأكثر ربحية بدلاً من الحبوب. وفي عام 2023، من المتوقع أن تنخفض المساحة المزروعة بالقمح في أوكرانيا بنسبة تتراوح بين 30% إلى 40%، طبقاً لتقديرات مجلس الزراعة الأوكراني، وبناءً عليه لن يتجاوز إنتاج المحصول أكثر من 15 مليون طن، أي أقل من نصف مستواه البالغ 32.2 مليون طن في عام 2021.
3- وجود ضمانات بعدم عرقلة الاتفاق: من الضروري أن تُقدم كل الأطراف المشاركة في اتفاق تصدير الحبوب، ضمانات كافية من أجل الالتزام ببنوده. إذ يرى الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أن من حق بلاده الانسحاب مرة أخرى من الاتفاق في حالة مخالفة أوكرانيا بنوده وفي حالة استخدام موانئها أو ممر الشحن الآمن لشن ضربات ضد موسكو، مع توجيه رسائل طمأنة روسية بالاستعداد لتزويد البلدان الفقيرة باحتياجاتها اللازمة من الحبوب في حالة اضطرارها للانسحاب مرة أخرى من اتفاق تصدير الحبوب.
حاصل القول، لا يُمكن إنكار أهمية اتفاق تصدير الحبوب الأوكرانية بالنسبة للأمن الغذائي العالمي المتضرر بشدة جراء استمرار الحرب بين دولتين يُنظر إليهما كسلة للغذاء العالمي، كما أن الاتفاق لا يقل أهمية بالنسبة لأوكرانيا المعتمدة بشكل أساسي على قطاع الزراعة الذي يُعد محركاً أساسياً للاقتصاد المحلي. ولهذا يتعين على جميع الأطراف الدولية المعنية أن تدعم الالتزام ببنود هذا الاتفاق، مع ضمان تيسير عملية تصدير الأسمدة الروسية، وتحفيز المزارعين الأوكرانيين على التوجه لزراعة الحبوب، بما يضمن صمود الاتفاق وتحقيق أقصى استفادة منه.