تُعد إيطاليا "المفوض الرسمي" للغرب في شأن الأزمة الليبية، لكنها تقف في حيرة من أمرها، بل وعجز إزاء ما يجري في ليبيا، خاصة في ظل تفاقم الأوضاع الأمنية والسياسية وتزايد نشاط تنظيم "داعش" في ليبيا، وتهديده لروما خلال الفترة الماضية.
ورغم أن روما دعت إلى تعبئة دولية واسعة لاحتواء هذا الخطر، وحضت أوروبا على جعل الأزمة الليبية أولوية، مؤكدة استعدادها لمحاربة الإرهاب في إطار الأمم المتحدة، لكنها لم تلبث أن تراجعت عندما أكدت أن الوقت لم يحن بعد للتدخل العسكري في ليبيا!
إيطاليا وليبيا ما بعد القذافي
بدأت أزمة الموقف الايطالي مع نشوب الثورة ضد الرئيس الليبي السابق معمر القذافي، الحليف والصديق المقرب من رئيس الحكومة الايطالية آنذاك سيلفيو بيرلسكوني، فقد تمكن بيرلسكوني خلال سنوات حكمه على مدى ٤ ولايات، من تأمين طائفة واسعة من المصالح السياسية والاقتصادية الإيطالية في ليبيا من خلال صيغة تعامل "خاصة" مع القذافي، إذ كان القذافي يُستقبل في روما بحفاوة بالغة تليق بالملوك ورؤساء الدول العظمي، ووصفه برلسكوني بـ"صديقي الرائع".
ووفقاً لذلك تم تسوية بعض المشاكل العالقة بين روما وطرابلس، من قبيل قضية التعويضات الإيطالية لليبيا عن فترة الاحتلال (1911- 1945)، وتسوية أزمة الديون الليبية للشركات الإيطالية، وكانت روما الضامن الفعلي لأن تلتزم طرابلس بالسلوك الحميد حين تم الترحيب بليبيا بحذر في المجتمع الدولي بعد نبذها الإرهاب والتخلي عن أسلحة الدمار الشامل.
لكن بعد اندلاع ثورة 17 فبراير 2011، ضد نظام القذافي، ورغبة الولايات المتحدة (المغلفة بقرار من مجلس الأمن) في التدخل العسكري في ليبيا للإطاحة بالقذافي وتسليح "الثوار"، فإن المصالح الإيطالية الحيوية في ليبيا باتت في دائرة الخطر، خاصة بعدما بادرت فرنسا وبريطانيا بشن ضربات جوية استباقية ضد جيش القذافي. وما لبث أن أرغم هذا الوضع إيطاليا على التدخل في القتال حتى سقط القذافي ونظامه، بعد تعليق معاهدة الصداقة التي وقعت عام 2008، والتي حظرت استخدام القواعد الإيطالية في أي عمل عسكري ضد ليبيا.
ومنذ ذلك الحين، سارت الأحداث في ليبيا نحو الفوضى السياسية والانفلات الأمني، لكن إعلان قيام إمارة إرهابية في ليبيا في صيف 2014، كان بمنزلة الحائط الذي ارتطمت به رأس صناع القرار في إيطاليا، فشعرت البلاد التي تمتلك نحو 8 آلاف كيلومتر من السواحل المفتوحة على المتوسط أنها في بؤرة النار المشتعلة. كما أن موقف شركائها الأوروبيين الذين تركوها تواجه نزيف الهجرة غير الشرعية وحدها ودون اكتراث، أضاف بعض المرارة لدى الإيطاليين.
وفي نوفمبر الماضي 2014، أكد وزير الخارجية الإيطالي، باولو جينتيلوني، أنه على أوروبا بأسرها تولي مسؤولية التعامل مع تهديد تنظيم "داعش" الإرهابي، معلناً انفصال العلاقات الأوروبية - الأمريكية المتعلقة بهذا الأمر. وكان هذا التصريح النادر من نوعه مؤشراً على مخاوف الإيطاليين من الخطط الأمريكية في ليبيا، والتي سعت واشنطن لتهدئتها طوال الوقت، خاصة عندما طلب الرئيس أوباما في مطلع 2013 من رئيس الحكومة الايطالية آنذاك، إنريكو ليتا، أن "تلعب روما الدور الرئيسي في استقرار ليبيا"، في وقت باتت فيه المصالح الإيطالية في ليبيا مهددة أكثر من ذي قبل.
أبعاد الموقف الإيطالي تجاه ليبيا
يرجع الاهتمام الإيطالي بليبيا إلي عدة أسباب واعتبارات:
1 ـ تاريخياً، كانت ليبيا مستعمرة إيطالية بين عامي 1911- 1945، وجغرافياً فإن المسافة الفاصلة بين جنوب إيطاليا وشمال ليبيا تبلغ نحو 300 كيلو متر فقط، أي أن إيطاليا تعتبر ليبيا المجال الحيوي((Lebensraum لها، ورمزاً لإحياء الأمجاد التاريخية للإمبراطورية الرومانية في جنوب المتوسط.
2 ـ سياسياً، عززت التطورات الأمنية في المنطقة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بعد موجة ما يسمي الربيع العربي نهاية عام 2010، المخاوف الإيطالية بوجود تداعيات سلبية على الأمن القومي الايطالي وعلى فعالية الدور الإيطالي في المنطقة.
3 ـ مساعي إيطاليا لإعادة تموضعها الجيو- سياسي وتعزيز علاقاتها مع الجوار المتوسطي، أخذاً بعين الاعتبار المبدأ التالي: الحل الرئيسي للأزمة الأمنية والاقتصادية الإيطالية (ومعها الأزمة الأوروبية) يكمن في التوجه نحو الضفة الجنوبية للمتوسط.
4 ـ محاولة روما تغيير السياسة الخارجية الإيطالية والأوروبية نحو تواجد أكبر على الساحة الدولية ودور أكثر فعالية في حل الأزمات من أوكرانيا إلى الشرق الأوسط، مع وجود فيدريريكا موغيرني على هرم السياسة الخارجية الأوروبية.
5 ـ اقتصادياً، فإن ثمة مصالح اقتصادية قوية بين طرابلس وروما، إذ تستورد إيطاليا 80% من احتياجاتها من الطاقة، ويذهب نحو 32% من إنتاج النفط الليبي إلى إيطاليا ليمثل 25% من وارداتها، كما تستورد إيطاليا نحو 12% من احتياجاتها من الغاز من ليبيا أيضاً، وتتنوع شبكة المصالح التجارية، بدءاً من قطاعات البنوك والمنسوجات والسيارات والمقاولات والسكك الحديدية والفضاء والطيران، وانتهاء بأندية كرة القدم.
6 ـ قبل كل هذا، فإن إيطاليا هي أكثر الدول الأوروبية والغربية تأثراً بالأزمة الليبية على صعيد الإرهاب والهجرة؛ إذ يتدفق مهاجرون إلى إيطاليا فارين من مختلف النزاعات، تمهيداً للانتقال إلى دول أوروبية أخرى، بمعدل يبلغ 400 مهاجر كل يوم خصوصاً من أفريقيا، ويمر 80% منهم عبر الأراضي الليبية، فضلا عن حوادث غرق مأساوية قبالة سواحل صقلية في غياب آلية إنقاذ أوروبية فعالة.
داعش تهدد روما
توالت تهديدات تنظيم "داعش" الإرهابي لإيطاليا خلال الأيام الماضية، وكان من أبرزها التسجيل المصور لذبح ٢١ مصرياً على أحد الشواطئ الليبية في طرابلس في 15 فبراير الماضي، والذي لوح فيه الإرهابيون بأنهم صاروا الآن" جنوب روما"، وأنهم "سيفتحون روما بإذن الله".
أصاب الايطاليين الذعر فور بث الشريط، وجاهر عدة وزراء بالحكومة الإيطالية بضرورة قيادة إيطاليا لتحرك عسكري في ليبيا، حيث:"
ـ أكد رئيس الوزراء الإيطالي، ماتيو رينزي، لقناة تي جي-1: "قلنا لأوروبا والمجتمع الدولي إنه يتعين علينا أن نستفيق لأن أمراً خطيراً جداً يحدث، ومن غير المنصف ترك تسوية كافة المشاكل لنا بذريعة أننا الأقرب.. إن الأمر يتطلب بعثة أقوى من الأمم المتحدة وإيطاليا مستعدة في هذا الإطار للاضطلاع بدورها من أجل الدفاع عن مبدأ الحرية في منطقة المتوسط".
ـ وفي مقابلة مع شبكة "سكاي تي جي 24"، اعتبر وزير الخارجية الإيطالي، باولو جنتيلوني، أنه "يتعين طرح مسألة القيام بالمزيد مع الأمم المتحدة بشأن ليبيا، إذا تعذر إيجاد وساطة بين المتحاربين"، مضيفاً أن "إيطاليا على استعداد للقتال في إطار الشرعية الدولية"، مؤكداً أنه "لا يمكن القبول بأن يكون هناك خطر إرهابي على مسافة بضع ساعات فقط من الإبحار من هنا".
ـ ندد وزير الداخلية الإيطالي، أنجيلينو ألفانو، بخطر قيام "خلافة إسلامية عند أبواب إيطاليا"، وقال إنه لا يجب إضاعة دقيقة واحدة، محذراً من أن يكون تقدم داعش أسرع من قرارات المجتمع الدولي. واعترف في تصريحات لصحيفة لاريبوبليكا، أن ايطاليا دفعت الفاتورة الضخمة للأخطاء التي ارتكبت في إدارة القضية الليبية.
ـ أعلنت وزيرة الدفاع الإيطالية، روبرتا بينوتي، في مقابلة مع صحيفة "إل ميساجيرو" في 15 فبراير الماضي، أن إيطاليا مستعدة لإرسال آلاف الرجال وتولي سريعاً قيادة ائتلاف يضم دولاً أوروبية ومن المنطقة، للتصدي لتقدم المتطرفين في ليبيا، والذين باتوا على مسافة 350 كيلومتراً من سواحلنا"، قائلة: "إذا كنا أرسلنا إلى أفغانستان (البعيدة) 5 آلاف جندي، ففي بلد يعنينا عن قرب مثل ليبيا، حيث يثير التدهور الأمني قلقاً أكبر لإيطاليا، يمكن لمساهمتنا أن تكون كبيرة وثابتة".
تراجع إيطالي
لم تنعكس هذه التصريحات المثيرة والقلقة في شكل أفعال حقيقية، بل لم تمض ساعات حتى تراجعت المواقف والتصريحات الإيطالية، فقد سكب رئيس الوزراء، ماتيو رينزي، الماء البارد في تصريحات له لمحطة "تي جي ٥" الإيطالية في ١٦ فبراير الماضي، عندما دعا إلى أن "تتخذ الأمم المتحدة إجراء"؛ لكنه استدرك قائلاً: "إن من المهم تفادي الإصابة بالهستيريا.. وإن أي إجراء يجب أن يكون تحت مظلة الأمم المتحدة".
ويبدو التراجع في الموقف الإيطالي، بوضوح، إذا تذكرنا تصريح رينتسي، نفسه، في مؤتمر صحفي له مع الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، أثناء زيارته للقاهرة في 2 أغسطس الماضي، والذي دعا فيه إلى دور قوي لمصر في منطقة المتوسط.. الوضع في ليبيا يحتاج إلى تدخل سريع وقوي لوضع حد للعنف"، مؤكداً أن بلاده: "ستطرح مسألة ليبيا على طاولة المناقشات في قمة حلف شمال الأطلسي"، وتبع ذلك زيارة الرئيس السيسي إلي ايطاليا في نوفمبر الماضي حيث تم الإعلان عن تحالف مصري إيطالي لمواجهة الإرهاب في المتوسط.
خيارات محدودة
لقد أثار هذا التراجع موجة انتقادات واسعة. لكن يبدو أن القيادة الايطالية فضلت تغليب الحلول السياسية في معالجة الأزمة الليبية المستفحلة، خاصة في ظل ضيق الخيارات السياسية والعسكرية المتاحة أمام إيطاليا، وذلك لعدة اعتبارات، منها:
1 ـ معارضة الولايات المتحدة للحل العسكري في ليبيا، فمن ناحية أولى، ورغم أن واشنطن لم تعلن صراحة عدم تأييدها للعملية العسكرية المصرية ضد عناصر "داعش" في ليبيا رداً على ذبح المصريين، فإن تأكيدها على تبني الخيار السياسي كأفضل سبيل للتعامل مع الموقف في ليبيا، يعبر عن رفضها للعملية العسكرية المصرية "المنفردة". ومن ناحية ثانية قامت واشنطن بـإجهاض الجهود المصرية لحشد القوى الأوروبية والعربية لبناء تحالف لمواجهة "داعش" في سوريا وليبيا، إذ سارعت واشنطن لإصدار بيان (1+5)، والذي وقعته مع كل من فرنسا وإيطاليا وألمانيا وإسبانيا وبريطانيا، وهي الدول التي تحاول مصر حشدها في جهودها لمحاربة الإرهاب في ليبيا.
2 ـ ثمة سياسات متعارضة لكبرى دول الاتحاد الأوروبي (بريطانيا وفرنسا وألمانيا)، بشأن كيفية التعامل مع الأزمة الليبية، وهي سياسات جزئية تستخدم فيها كل دولة قدرتها لتحقيق أكبر مكاسب ممكنة، خاصة في ضوء طموحات بريطانيا وفرنسا للحلول محل إيطاليا في ليبيا.
3 ـ قبل هذا وذاك، فإن الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها إيطاليا لا تسمح لها بالقيام بمغامرات عسكرية، في ميادين جد خطيرة، وخارج نطاق التحالف الأوروبي والأطلسي، وخارج الشرعية الدولية. لكن هذا لا يمنع الحكومة الإيطالية من القيام بعدد من التحركات لبث رسائل طمأنة للشعب الإيطالي، لكن هذه التحركات أقرب إلى "التشويح" العسكري.
4 ـ في بداية مارس الحالي، أجرت إيطاليا مناوراتها البحرية السنوية "البحر المفتوح" قرب سواحل ليبيا، وقال الأميرال، بيرباولو ريبوفو، إن المناورات لا ترتبط مباشرة بالأزمة في ليبيا، لكن ربما يساهم وجود قطع البحرية في المنطقة في تحسين الأمن!
5 ـ في 4 مارس الجاري، قام رئيس الوزراء الإيطالي ماتيو رنزي بزيارة موسكو، في محاولة إيطالية لإشراك روسيا في الملف الليبي.
وبالتالي يتأكد القول إن إيطاليا لا تمتلك سوى خيارات محدودة في التعامل مع التهديد الإرهابي الداعشي القائم في ليبيا، لكن مما لا شك فيه أن فضل الحلول السياسية، وخصوصاً إذا تزامنت مع أي تهديد حقيقي من داعش لإيطاليا سوف يقود إلى تغيير هذا الموقف الإيطالي الحذر بشدة حتى الآن.