عقدت قوى الحرية والتغيير السودانية اجتماعاً مع المكون العسكري، في 9 يونيو 2022، بناء على وساطة أمريكية – سعودية من أجل التوصل إلى تسوية للأزمة المعقدة في الخرطوم، حيث دعت مساعدة وزير الخارجية الأمريكية للشؤون الأفريقية، مولي في، والسفير السعودي لدى الخرطوم، علي بن حسن جعفر، إلى ضرورة عقد اجتماع بين طرفي الأزمة في البلاد.
موقف مأزوم:
لا يزال الداخل السوداني يشهد حالة من عدم الاستقرار منذ نهاية أكتوبر الماضي، بعد الإجراءات الاستثنائية التي اتخذها رئيس مجلس السيادة السوداني، عبدالفتاح البرهان، حيث تتواصل دعاوى التصعيد واستمرار الاحتجاجات المطالبة بالحكم المدني، مع تمسك قوى الثورة باللاءات الثلاثة، لا تفاوض ولا شراكة ولا شرعية، بيد أن الأسابيع الأخيرة شهدت بعض التطورات المهمة، التي يمكن عرضها على النحو التالي:
1- اجتماع غير رسمي بين طرفي الصراع: أجرى وفد من قبل قوى الحرية والتغيير اجتماعاً غير رسمي مع المكون العسكري، في 9 يونيو الجاري، بناء على الوساطة الأمريكية – السعودية لمحاولة التوصل إلى مسار للخروج من الأزمة الحالية. وضم هذا الاجتماع ممثلين عن المكون العسكري شمل كلاً من نائب رئيس مجلس السيادة، محمد حمدان دقلو، وعضوي المجلس، شمس الدين الكباشي وإبراهيم جابر، وعدداً من الممثلين عن قوى الحرية والتغيير، هم الأمين العام لحزب الأمة، الواثق البرير، وعضوا لجنة إزالة التمكين ومحاربة الفساد، طه عثمان، ووجدي صالح، فضلاً عن نائب رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان، ياسر عرمان.
وبررت قوى الحرية والتغيير موافقتها برغبتها في استمرار دعم واشنطن والرياض لها في مساعيها لإقامة نظام مدني كامل، مؤكدة أنها ستقدم مقترحاً محدداً أمام المكون العسكري وبحضور الوسطاء الخارجيين، يتمثل في إنهاء الإجراءات الاستثنائية التي أقدم عليها البرهان نهاية أكتوبر الماضي، وما يرتبط بها من قرارات وإجراءات لاحقة، مع تسليم السلطة للمكون المدني.
وفي هذا السياق، أعلنت السفارة الأمريكية في الخرطوم أن الاجتماع جاء بدعم من قبل السفارة السعودية وبحضور ممثلين عن واشنطن، وأن هذا الاجتماع لا يمثل بديلاً عن الآلية الثلاثية، ولكنه داعم لها.
2- تعثر اجتماعات الآلية الثلاثية: أكد تحالف قوى الحرية والتغيير رفضه المشاركة في الاجتماعات التي دعت إليها الآلية الثلاثية، في 8 يونيو الجاري، وتضم الآلية الثلاثية كلاً من الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي والمنظمة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيجاد)، وكان قد تم الإعلان عن تشكيلها في 27 أبريل الماضي.
وعلى الرغم من الدعم الغربي الواسع الذي حظيت به الآلية الثلاثية، فإن الأخيرة لاقت انتقادات داخلية واسعة في السودان، بدعوى أنها تضفي الشرعية على هيمنة المكون العسكري والإجراءات التي اتخذها البرهان في نهاية أكتوبر الماضي.
وكانت الآلية الثلاثية دعت إلى اجتماع في 8 يونيو الجاري بين المكونين المدني والعسكري، حضره قادة الجيش السوداني وعدد من الأحزاب السياسية وكذا الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا، لكن قاطعته قوى المعارضة الرئيسة، وفي مقدمتها قوى الحرية والتغيير وحزب الأمة وكذا أعضاء من لجان المقاومة.
وكان من المقرر استئناف جلسات هذا الحوار في 12 يونيو الجاري، بيد أن المتحدث باسم البعثة الأممية في السودان، فادي القاضي، أعلن، في 11 من الشهر ذاته، عن تأجيل الجولة الثانية من الحوار الذي أطلقته الآلية الثلاثية إلى أجل غير مسمى، بعد رفض قوى الحرية والتغيير المشاركة.
3- انقسامات داخل الحرية والتغيير: أثار حضور قوى الحرية والتغيير الاجتماعات الأخيرة مع المكون العسكري حالة من الانقسامات داخل قوى الحرية والتغيير، وكذلك بينها وبين بعض الأحزاب السياسية والنقابات. وبرز اتجاهان رئيسيان، يرى أحدهما أنه فيه مؤشرات إيجابية على إمكانية إنهاء الأزمة السياسية في السودان، فيما اعتبرها آخرون بأنها ترسخ هيمنة المكون العسكري، وتعزيز مكتسباته الداخلية.
تحولات مهمة:
عكست التطورات الأخيرة في السودان جملة من الدلالات المهمة التي يمكن عرضها على النحو التالي:
1- إعادة إحياء المشاورات المباشرة: يمثل عقد لقاء مباشر بين المكون العسكري والمكون المدني المعارض خطوة مهمة في إعادة المشاورات المباشرة بين الطرفين، بعدما ظلت قوى الحرية والتغيير متمسكة بموقفها الرافض للحوار مع المكون العسكري منذ نهاية أكتوبر الماضي، كان آخرها الموقف الأخير الرافض للاجتماعات التي ترعاها الآلية الثلاثية. وربطت بعض التقديرات تغير موقف الحرية والتغيير بالموقف الحيادي الذي تتبناه السعودية إزاء مختلف الأطراف في السودان، الأمر الذي قد يجعلها طرفاً مقبولاً في الوساطة، فضلاً عن وجود صورة نمطية باتت سائدة لدى الولايات المتحدة والشركاء الدوليين بأن ثمة موقفاً متعنتاً تتبناه قوى الحرية والتغيير يدفع لاستمرار الأزمة السودانية.
وما ساعد على الوساطة كذلك استمرار الرفض الداخلي للإجراءات التي اتخذها قائد مجلس السيادة، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، في أكتوبر الماضي. وبالتالي يبدو أن كلا الفاعلين في الداخل السوداني يسعيان إلى التوصل إلى تفاهمات، وليس أدل على ذلك من اختيار قوى الحرية والتغيير الواثق البرير وياسر عرمان وطه عثمان ممثلين عنها في لقاء المكون العسكري، كون هذه الشخصيات لها تفاهمات مع الأخير، مما يعزز من إمكانية التوصل إلى اتفاق.
واتساقاً مع هذا الطرح، رجحت بعض التقديرات أن خطوة الإعلان عن تأجيل اجتماعات الآلية الثلاثية لأجل غير مسمى يأتي لتوفير مناخ ملائم للمساعي الراهنة التي تقودها واشنطن والرياض، والتي تلقى قبولاً أكبر لدى طرفي الصراع، في ظل الضمانات التي تمتلكها الدولتان والتي بمقدورها المساعدة على حلحلة الأزمة الراهنة، وضمان تنفيذ أي توافقات يتم التوصل إليها، وكذا المساعدة في تخفيف حدة الأزمة الاقتصادية المتفاقمة في السودان.
2- مقاربة جديدة: يلاحظ أن هناك مطالبات بوقف المبادرات الأممية وطرد المبعوث الأممي، فولكر بيريتس، بدعوى التدخل في الشؤون الداخلية للخرطوم، ولعل ذلك ما دفع الولايات المتحدة إلى تبني مقاربة جديدة في السودان تعتمد على الانخراط المباشر بدلاً من الاعتماد على الدور الأممي.
ويتسق مع هذه المقاربة الجديدة، إقرار الكونجرس الأمريكي مشروع قرار يدين الإجراءات الاستثنائية التي اتخذها البرهان بوصفها انقلاباً عسكرياً على السلطة الانتقالية، ومطالبة المجتمع الدولي بالضغط على الجيش السوداني لتسليم السلطة للمدنيين. وبناء عليه، يبدو أن الإدارة الأمريكية لن تلجأ لفرض مزيد من العقوبات على الخرطوم، وستعمل بدلاً من ذلك على تقديم المسار السياسي لمحاولة إيجاد صيغة توافقية جديدة في الخرطوم.
3- إشكالية الأطراف المشاركة في المباحثات: على الرغم من اتفاق قوى الحرية والتغيير على الدخول في مباحثات مقبلة مع المكون العسكري عبر الوساطة الأمريكية – السعودية، فإنه لاتزال هناك إشكالية تتعلق بالأطراف التي سيكون بإمكانها المشاركة في الجلسات المقبلة، وما إذا كان المكون المدني بتكويناته المتداخلة قادراً على صياغة رؤية مشتركة محددة، أم أن هذه الانقسامات الداخلية ربما تؤثر على فاعلية هذه المباحثات.
انعكاسات محتملة:
يبدو أن ثمة تأثيرات مباشرة للوساطة السعودية – الأمريكية الراهنة في السودان، والتي يمكن عرضها على النحو التالي:
1- احتمال حدوث بعض الاختراقات: طالب الوسيطان، الأمريكي والسعودي، من تحالف قوى الحرية والتغيير تقديم رؤية شاملة ليتم بحثها خلال الاجتماعات المقبلة، خاصةً بعدما أعلن المكون العسكري عن موافقته على طرح رؤية متكاملة يتم التشاور بشأنها.
وفي هذا السياق، تم الاتفاق على تشكيل لجنة مشتركة تتولي تنظيم الاتصالات المقبلة وبلورة رؤية محددة بشأن كيفية تجاوز حالة الانسداد الراهنة، حيث تضم هذه اللجنة عضو مجلس السيادة، الفريق شمس الدين الكباشي، كممثل عن المكون العسكري، والقيادي في قوى الحرية والتغيير، طه عثمان، ممثلاً عن المكون المدني.
2- تخوفات من موقف الشارع: تتمثل المعضلة الحقيقة في موقف الشارع من هذه الخطوة، وما إذا كانت هذه الخطوة ستزيد من حدة الغضب الداخلي وفقدان الثقة في القوى المدنية، مع احتمالات تأجيج مزيد من الاحتجاجات والعنف، أم أن الشارع السوداني سيقبل بالتفاوض بين المكونين المدني والعسكري.
3- تعزيز التنسيق الأمريكي – السعودي: تعكس المعطيات الراهنة تنامي مستويات التنسيق بين واشنطن والرياض، وذلك قبيل الزيارة المرتقبة للرئيس الأمريكي، جو بايدن، إلى السعودية منتصف يوليو المقبل، وهي التي ستؤطر إلى مرحلة جديدة من التعاون بين البلدين.
وتجدر الإشارة إلى أن المبعوث السعودي الخاص لمنطقة القرن الأفريقي، أحمد بن عبدالعزيز قطان، كان قد قام الأسبوع الماضي بجولة في المنطقة، التقى خلالها عدداً من الأطراف الرئيسية في الأزمة السودانية، ويبدو أن هذه اللقاءات تضمنت طرح ملامح الوساطة السعودية، والتي لاقت دعماً واسعاً من قبل الولايات المتحدة فيما بعد، بل أن الأخيرة انخرطت بشكل مباشر كطرف ثانٍ في الوساطة، من خلال الزيارة المطولة التي قامت بها مساعدة وزير الخارجية للشؤون الأفريقية، وذلك تمهيداً لانخراط أمريكي أوسع خلال الفترة المقبلة مع تولي المبعوث الأمريكي الجديد لمنطقة القرن الأفريقي مهام عمله.
وفي هذا السياق، ربطت بعض التقديرات بين التعاون بين السعودية والولايات المتحدة وتصديق السودان، في 30 مايو الجاري، على ميثاق إنشاء مجلس الدول العربية والأفريقية المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن، بما يؤشر إلى مزيد من التعاون بين الخرطوم والرياض، مقابل احتمالات تراجع في السودان عن إقامة قاعدة عسكرية روسية على سواحلها المطلة على البحر الأحمر.
وفي الختام، تتجه الأمور صوب الاستمرار في المشاورات المباشرة بين المكون العسكري وتحالف قوى الحرية والتغيير، تحت مظلة الوساطة الأمريكية – السعودية، وعلى الرغم من التحديات الداخلية المتعددة أمام نجاح هذه الوساطة، بيد أن السياقات الإقليمية الراهنة ربما تعزز من إمكانية إحداث تقدم في تسوية الأزمة السودانية.