استضافت العاصمة الروسية، موسكو، في 16 مايو 2022، قمة منظمة معاهدة الأمن الجماعي، التي تضم، إلى جانب روسيا، كلاً من بيلاروسيا وأرمينيا وكازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان. ولا شك أن الظروف التي عُقدت فيها هذه القمة، معقدة سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، سواء على الصعيد الإقليمي أو العالمي. كما أن أعضاء المنظمة، فضلاً عما لديهم من تحديات داخلية، فإن البعض منهم منخرط بشكل مباشر في واحدة من أكبر الأزمات منذ نهاية الحرب الباردة، وربما منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ممثلة في الحرب الروسية – الأوكرانية؛ التي مازالت نتائجها النهائية لم تتضح بعد.
دلالات التوقيت:
يحمل توقيت قمة منظمة معاهدة الأمن الجماعي في موسكو دلالات، من بينها ما هو مرتبط بالماضي، والحاضر. فعلى صعيد الماضي البعيد، فإن القمة تأتي بعد مرور 30 سنة على توقيع معاهدة الأمن الجماعي في عام 1992، ولم تكن قد مضت حينها إلا شهور قليلة على تفكك الاتحاد السوفييتي. وكان لافتاً الإشارات الكثيرة من قِبل قادة دول المنظمة في قمتهم الأخيرة إلى ذلك باستخدام مصطلح الفضاء السوفييتي السابق. كما أن القمة تأتي بعد مرور 20 عاماً على تحول معاهدة الأمن الجماعي إلى منظمة تطورت هياكلها عبر عقدين من الزمن.
أما بالنسبة لدلالات الماضي القريب، فإنها تتمثل في كونها أول قمة تُعقد بعد التطورات التي شهدتها كازاخستان في يناير 2022 عندما اندلعت احتجاجات شهدت أعمال عنف، على أثرها طلبت كازاخستان من المنظمة إرسال قوات حفظ سلام استناداً إلى توصيف ما حدث على أنه بمنزلة "عدوان خارجي" يستدعي مساعدة باقي الدول الأعضاء، بما في ذلك المساعدة العسكرية. وبالفعل، كانت هناك استجابة سريعة من الدول الأعضاء، وتم إرسال هذه القوات التي لم تمكث في كازاخستان إلا أياماً قليلة، وأُعلن بعدها عن إنجاز المهمة، وعودة الاستقرار إلى البلاد. وكانت هذه هي المرة الأولى التي تقوم دول المنظمة بإرسال قوات إلى إحدى الدول الأعضاء بناءً على ميثاق المنظمة. وقد حازت هذه العملية على ثناء كبير من الدول الأعضاء، لذا قررت القمة الأخيرة منح أوسمة لكل من شاركوا فيها.
وفيما يتعلق بالوقت الراهن، فإن الحرب بين روسيا وأوكرانيا، ومن خلفها الولايات المتحدة ومعظم الدول الأوروبية وحلف شمال الأطلسي "الناتو"، تعد الشغل الشاغل في العالم كله وليس بالنسبة لدول منظمة معاهدة الأمن الجماعي فقط. وبالتالي فإن هذا الواقع بأبعاده الاستراتيجية لا يخفي دلالات عقد هذه القمة في ذلك التوقيت، حيث إنها ربما تمثل نوعاً من الحركة الجيوسياسية الروسية المُضادة للغرب في فضاء آسيا الوسطى، في إطار تداعيات الحرب الجارية في أوكرانيا، حيث تسعى موسكو إلى كسر العزلة المفروضة عليها، وإظهار قدرتها على الحركة في محيطها الاستراتيجي، وحشد الحلفاء في مواجهة الغرب الذي يصر على مواجهة روسيا في أوكرانيا عبر تقديم كل أشكال الدعم للأخيرة بما فيها السلاح، بالإضافة إلى فرض سلسلة من العقوبات الصارمة على موسكو.
ويُلاحظ هنا أنه باستثناء رئيسي روسيا وبيلاروسيا، فإن أحداً لم يذكر أوكرانيا بشكل صريح في الجلسة العلنية لقمة منظمة معاهدة الأمن الجماعي، بل أن الرئيس فلاديمير بوتين عندما ذكر هذا الملف قال إنه سوف يتحدث عن تفاصيله في الجلسة المغلقة، بينما أسهب الرئيس البيلاروسي، ألكسندر لوكاشينكو، في الحديث عن الأزمة الأوكرانية الحالية. فيما لم يذكر البيان المشترك الصادر عن القمة أوكرانيا بشكل صريح، وإن كان قد تحدث عن قضايا ذات صلة مباشرة بتلك الأزمة.
مخرجات القمة:
تضمن البيان الصادر عن قمة منظمة معاهدة الأمن الجماعي مجموعة من القضايا، على رأسها كيفية تعامل المنظمة مع الوضع الجيوسياسي الراهن عبر تكثيف التعاون العسكري والسياسي، وتشكيل نظام فعّال للأمن الجماعي، والتصدي للتحديات والتهديدات.
وفي هذا الإطار، لُوحظ في كلمات قادة الدول التفاوت الكبير بين أجندة التحديات، فإذا كان من المفهوم أن نظرة روسيا للتحديات أعم وأشمل بحكم مكانتها ودورها العالمي وليس الإقليمي فقط، فإن بيلاروسيا تحدثت عن التحديات المرتبطة بالعلاقات مع الغرب أكثر أو ما يمكن تسميته بالحدود الغربية لدول المنظمة ممثلة في حدود كل من روسيا وبيلاروسيا. وطالب الرئيس لوكاشينكو بأن يكون هناك مستوى أكثر من الوحدة في التعامل مع تلك التحديات، تماماً كما يحدث على الجانب الأوروبي. ومن جانبهما، ركز الرئيسان القرغيزي صدير جاباروف، والطاجيكي إمام على رحمن، أكثر على تلك التحديات المرتبطة بالحدود الجنوبية لدول المنظمة، وتحديداً ما يتعلق بأفغانستان وما يدور فيها.
وأشار الرئيس الكازاخي، قاسم جومارت توكايف، إلى أن الموقف الدولي الراهن لا يبعث على التفاؤل، واعتبر أن التهديدات الأمنية والعسكرية والسياسية تحيط بحدود دول المنظمة. بينما لم يخف رئيس وزراء أرمينيا، نيكول باشينيان، والذي تتولى بلاده الرئاسة الدورية للمنظمة، امتعاضه من مستوى تعامل المنظمة مع قضية بلاده مع أذربيجان، وإن كان قد استثنى روسيا. ويبدو أن رئيس وزراء أرمينيا كان يقصد نمط تصويت دول المنظمة في المحافل الدولية عندما أشار إلى أنه غير متناسق، مشدداً على أن تلك القضية قديمة وتحتاج إلى مناقشات مستفيضة.
وطالما ذُكر موضوع التصويت في المنظمات الدولية، فإنه فيما يتعلق بالقرارات التي اتخذتها الجمعية العامة للأمم المتحدة تجاه الحرب في أوكرانيا، والتي كانت تتضمن إدانات ضد موسكو، فإن بيلاروسيا وحدها هي التي ظهرت دائماً في خانة الدول المعارضة لتلك القرارات، بينما امتنعت باقي الدول الأعضاء في منظمة معاهدة الأمن الجماعي عن التصويت، باستثناء القرار الخاص بتعليق عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان والذي عارضته باقي الدول الأعضاء، علماً بأن أرمينيا لم تظهر ضمن المؤيدين أو المعارضين أو الممتنعين عن التصويت، بما يعني أنها قد تغيبت عن جلسة التصويت. ومع ذلك، فقد تضمن البيان الختامي لقمة منظمة معاهدة الأمن الجماعي إشارة إلى "الرضا عن مستوى تنسيق السياسة الخارجية حول البنود الرئيسية في جداول الأعمال العالمية والإقليمية".
وعلى الرغم من أن ما يجري في أوكرانيا لم يُذكر صراحة في بيان القمة، فإن قضايا ذات صلة مباشرة بالأزمة قد نالت نصيبها من الاهتمام، حيث تم التأكيد على أن هناك قلقاً بخصوص ما يحدث على حدود الدول الأعضاء في المنظمة. كما ذُكرت قضايا من قبيل عدم مراعاة بعض الدول لمصالح الدول الأخرى، وتلك كانت حجة أساسية استندت إليها روسيا في تبرير تدخلها العسكري في أوكرانيا. كما امتد القلق الذي أبداه البيان إلى "العقوبات الأُحادية" التي تُفرض بعيداً عن مجلس الأمن الدولي، وسياسة "الكيل بمكيالين"، و"الانتقائية" في التعامل مع قواعد ومبادئ القانون الدولي.
وانتقل بيان القمة من حالة القلق إلى إدانة ما سماه "تزوير الأحداث التاريخية"؛ والمقصود هنا ما يتعلق بمساهمة الاتحاد السوفييتي السابق في "دحر النازية"، إذ تؤكد روسيا دائماً أن من بين أسباب حربها في أوكرانيا "التصدي للنازية". كما تمت إدانة العنصرية وكراهية الأجانب، حيث أسهب الرئيس بوتين في الحديث عن ذلك في القمة، إلى جنب قضايا أخرى من بينها الأمن البيولوجي، وتوسع حلف "الناتو".
وفي الوقت الذي تم تضمين الأمن البيولوجي مع مجموعة من التحديات الأخرى، من بينها مكافحة الإرهاب والتطرف، والجريمة المنظمة العابرة للحدود، وأمن المعلومات؛ فإن البيان أكد استعداد دول المنظمة للتعاون في هذا الشأن مع حلف "الناتو". ومن الواضح أن التعاون في هذه الأجواء مستبعد، لكن ربما تكون هناك ترتيبات لاحقاً في حالة هدوء الأوضاع وانتهاء الحرب الراهنة. وعلى الأغلب ستكون هذه الترتيبات، إن حدثت، مع روسيا، وليست مع منظمة معاهدة الأمن الجماعي ككل.
تطوير المنظمة:
من الواضح أن منظمة معاهدة الأمن الجماعي، وبعد مرور عقدين من الزمان على تأسيسها، قد حققت الكثير في ظل ظروف دولية متلاحقة. فلا يمكن التغاضي عن التوقيت الخاص بتحويل معاهدة الأمن الجماعي إلى منظمة في عام 2002، حيث إن دلالة ذلك التاريخ تنبع من عاملين؛ أولهما يتمثل في مرور أقل من عام على أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، وما لحقها من سلوك أمريكي خارجي على صعيد استخدام القوة العسكرية، بما في ذلك أفغانستان، وما تطلبه ذلك من تسهيلات تقدمها بعض دول آسيا الوسطى. وثانيهما مرور عامين آنذاك على تولي الرئيس بوتين مقاليد الحكم في روسيا، والذي عمل بالتدريج على إحداث تغيير في الوضع الذي آلت إليه أوضاع بلاده بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وما يرتبط بها من جوار إقليمي. وها هي الأمور بعد 20 عاماً من تأسيس منظمة معاهدة الأمن الجماعي تصل إلى خطاب مُوحد حول الكثير من القضايا، خاصة فيما يتعلق بالتعامل مع التحديات الخارجية، وعلى رأسها الدور الخارجي في زعزعة استقرار دول هذه المنطقة عبر ما يُسمى بـ "الثورات الملونة". وكان التجلي الأكبر لهذا الإجماع في حالة كازاخستان في يناير الماضي، حيث أجمعت دول المنظمة على وجود جهات خارجية وراء ما حدث.
وتضمنت القمة الأخيرة مقترحات واضحة من أجل تطوير عمل منظمة معاهدة الأمن الجماعي، حيث قدم الرئيس البيلاروسي أربعة مقترحات محددة كأولويات متقدمة، ممثلة في تقوية التفاعل والتنسيق بين دول المنظمة، وزيادة فاعلية الجهود المرتبطة بمواجهة التحديات، والحاجة إلى قدرات تحليلية تنبؤية أكثر قوة، وأن تكون هناك شبكة من مراكز الفكر على مستوى الدول الأعضاء لتقديم رؤى خاصة بالتعامل مع القضايا الدولية.
ومن جانبه، اعتبر الرئيس الكازاخي أن زيادة قدرات قوات حفظ السلام في منظمة معاهدة الأمن الجماعي أولوية غير مشروطة، بحيث يكون هناك تحسين مستمر لها وإمدادها بالأسلحة والتجهيزات الحديثة، مؤكداً أن الوقت قد حان لتشارك هذه القوات في مهام حفظ السلام التي تقوم بها الأمم المتحدة. كما رأي الرئيس الروسي أن الأولوية الأهم في الوقت الراهن تتمثل في المزيد من التحسين في عمل أجهزة المنظمة، مشدداً كذلك على ضرورة تزويد قوات دول المنظمة بالأسلحة الحديثة، والتنسيق أكثر بين الأجهزة العسكرية فيها، مع الإشارة إلى أهمية التعاون بين منظمة معاهدة الأمن الجماعي وبين ما اعتبرهم شركاء "طبيعيين" في منظمة شنغهاي للتعاون. ولكن يبقى السؤال؛ هل من السهل تطبيق هذه المقترحات على أرض الواقع؟ وهل هي كافية لضمان أن تكون منظمة معاهدة الأمن الجماعي أكثر كفاءة وفاعلية؟