أُغلق باب الترشح للانتخابات النيابية اللبنانية المزمع عقدها في مايو بتسجيل ترشح 1043 مرشحاً لخوض الانتخابات على 128 مقعداً، في رقم هو الأعلى من المرشحين في تاريخ الانتخابات في لبنان. وقد مثّل ذلك خطوة متقدمة في مسار إتمام الانتخابات بعد فترة طويلة من الشد والجذب بشأن إجرائها من عدمه، خاصة بعد تأجيلها من 27 مارس إلى 15 مايو بسبب الخلافات حول قانون الانتخابات ورفض الرئيس اللبناني ميشال عون التصديق عليه، فضلاً عن الطعن فيه أمام المجلس الدستوري. وهو ما يتطلب بحثاً في السياقات التي تجري في إطارها هذه الانتخابات، وكذا في النتائج المتوقعة، لا سيّما أن كثيرين يرون فيها فرصة لإحداث تغيير في المشهد السياسي اللبناني.
سياقات حاكمة:
على الرغم من هذه الخطوة المتقدمة في مسار إتمام الانتخابات، فإن هناك عدة أسباب تدفع باحتمالية تأجيل الانتخابات، على رأسها قضية "المراكز الكبرى" التي فجرها التيار الوطني الحر بدعوى تأمين عملية الانتخابات، ورفع نسبة الإقبال على الاقتراع، إلى جانب قضية عجز الموارد المالية التي لوح بها بعض الوزراء، ثم مسألة الميثاقية الطائفية التي برزت على أثر عزوف قادة القوى السنية عن الترشح للانتخابات. وهي كلها مسائل لا تنفصل عن السياقات التي تجري في إطارها هذه الانتخابات.
1- تغيرات المزاج الشعبي العام: تمثل الانتخابات المقبلة الانتخابات الأولى منذ الحراك الشعبي في أكتوبر 2019 الذي طالب بإصلاحات جذرية وتنحية كل الطبقة السياسية الحاكمة، وكذلك بعد انفجار مرفأ بيروت في أغسطس 2020 وما أعقبه من احتجاجات رفعت ذات المطالب كما طالبت بإجراء تحقيق في الانفجار. وقد فرض مجمل هذا المشهد تحديات كبيرة على مختلف القوى السياسية اللبنانية لإعادة الترويج لنفسها لدى اللبنانيين، لا سيّما أن شعبية مختلف هذه القوى والتيارات قد تعرضت لهزة عنيفة على وقع هذين المتغيرين (الحراك الشعبي – انفجار مرفأ بيروت).
ولذلك فإن الانتخابات المقبلة يمكن أن تعكس هذا التغير في المزاج الشعبي إزاء القوى السياسية ومرشحيها، لا سيّما مع وجود الكثير من الجبهات والقوى التي ترفع شعارات التغيير والثورة التي عملت على تنظيم أنفسها خلال الشهور الماضية والدفع بمرشحين في الانتخابات في مختلف الدوائر. بما يفسر سعي بعض الأطراف إلى تأجيلها لتمديد البرلمان بتركيبته الحالية بما يعزز من سيطرتها على المشهد اللبناني، ويسهل انتخاب رئيس الجمهورية وفقاً لما ترتضيه الأغلبية السياسية الحالية في مجلس النواب.
2- أزمة اقتصادية حادة: يعيش لبنان واقعاً اقتصادياً ومعيشياً متردياً مع تهاوي قيمة الليرة اللبنانية مقابل الدولار، وارتفاع معدلات التضخم والبطالة والفقر. وتمثل هذه المؤشرات واقعاً ضاغطاً على الانتخابات المقبلة من عدة جهات: الأولى أن هذا الوضع الاقتصادي الصعب قد يدفع إلى تأجيل الانتخابات عدة شهور أو إلى أجل غير مسمى لعدم توافر الاعتمادات المالية اللازمة.
والثانية أنه في ظل ظروف معيشية صعبة للغاية يصير الإقبال الشعبي على الانتخابات في أدنى توقعاته؛ إذ أُفرغت مطالب اللبنانيين في حراكهم الشعبي من مضمونها وأصبح شاغلهم الرئيسي هو تدبير احتياجاتهم الأساسية، وأضحى الهم السياسي أو المطالبة بإصلاح سياسي أمراً ثانوياً إذا ما قورن بالتحديات المعيشية التي يواجهونها.
والثالثة هي أن هذا الوضع الصعب قد يتحول في أي وقت -على وقع المزيد من الضغوط- إلى انفجار شعبي تذهب معه الانتخابات. والرابعة هي أن هذه الأزمة الحادة دفعت الكثير من اللبنانيين إلى الهجرة فضلاً عن امتداد التأثر بها إلى المزاج السياسي للمغتربين بالفعل، وهو ما ينعكس في الإقبال غير المسبوق من جانب المغتربين للتسجيل للتصويت في الانتخابات، ويبدو أن تصويتهم لغير القوى النافذة حالياً أمراً مرجحاً.
3- ترقب إقليمي ودولي: تحظى الانتخابات النيابية المقبلة في لبنان باهتمام إقليمي ودولي كبير؛ لكون نتائجها ستؤثر بشكل كبير في مسارات عدد من الملفات الإقليمية، لا سيّما تلك التي تتعلق بالنفوذ الإيراني في الإقليم، خاصة بعد نتائج الانتخابات العراقية والتي أفرزت تغيراً نسبياً في خريطة القوى في البرلمان خصماً من رصيد القوى الموالية لإيران.
وكذا تتابع الدول العربية، خاصة الخليجية هذه الانتخابات بترقب بالغ لما يمكن أن تسهم فيه نتائجها من تغيير يفضي إلى تحييد لبنان عن معادلة النفوذ الإيراني وتهديد المصالح الخليجية، أو إلى تطبيق ما نص عليه إعلان جدة (ديسمبر 2021) بشأن إنقاذ لبنان، وكذا المبادرة الكويتية لإصلاح العلاقات اللبنانية الخليجية (يناير 2022).
ذلك فضلاً عن التطلع الغربي لها بوصفها الأمل الأخير في التغيير وإجراء الإصلاحات السياسية والاقتصادية المطلوبة لانتشال لبنان من أزمته، وهو التطلع الذي دفع القادة الغربيين إلى التلويح بفرض عقوبات على المسؤولين والسياسيين اللبنانيين، وكذلك عرقلة المباحثات مع صندوق النقد الدولي بشأن خطة الإصلاح الاقتصادي إذا ما جرى تأجيل الانتخابات.
تحالفات معقدة:
يتنافس 1043 مرشحاً على 128 مقعداً نيابياً مقسمة وفقاً للنظام الانتخابي إلى 34 مقعداً للموارنة و27 مقعداً للسنة و27 مقعداً للشيعة و14 مقعداً للروم الأرثوذكس و8 مقاعد للروم الكاثوليك و8 مقاعد للدروز و5 مقاعد للأرمن الأرثوذكس ومقعدين للعلويين ومقعد لكل من الإنجيليين والأرمن الكاثوليك وبقية الأقليات. ويتعين على هؤلاء المرشحين الاصطفاف في اللوائح الانتخابية بحلول 4 أبريل كموعد أخير حتى يتسنى لهم خوض الانتخابات، وهو ما خلق صراعاً محتدماً في الدوائر كافة تحاول القوى السياسية حسمه منذ أشهر.
1- حزب الله ومعركة الحلفاء: أعلن الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، أن هدف الحزب في هذه الانتخابات ليس تحقيق انتصار له فقط، وإنما تأمين فوز كل حلفائه في مختلف الدوائر، ولذلك عمد الحزب منذ فترة إلى حل الخلافات البينية في صفوف الحلفاء، خاصة بين حركة أمل والتيار الوطني الحر، وصولاً إلى تشكيل لوائح انتخابية موحدة في أغلب الدوائر الانتخابية، مع خوض الانتخابات على لوائح مختلفة في بعض الدوائر للاستفادة من ميزة الحاصل الانتخابي بناء على "التقييم المشترك للمصلحة الانتخابية".
ويبدو حزب الله مطمئناً إلى شعبيته داخل الأوساط الشيعية، على أثر حواضنه الشعبية الممتدة فيها، وكذا بسبب استراتيجيته في تأمين مساعدات من الوقود والغذاء لهذه الأوساط التي عانت على وقع الأزمة الاقتصادية والمعيشية، بجانب تصعيده المتتالي ضد إسرائيل بما يعزز داخلياً من روايته حول المقاوِمة. ويبرز التحدي الأكبر في تأمين فوز حليفه التيار الوطني الحر الذي تأثرت شعبيته بشدة خلال الفترة الأخيرة وكان رئيسه جبران باسيل –الموضوع على لوائح العقوبات الأمريكية- أحد الوجوه البارزة التي خرج ضدها اللبنانيون في الحراك الشعبي.
ويتضح هذا التحدي مع النظر إلى المنافس المسيحي للتيار وهو حزب القوات اللبنانية –بجانب التيارات والأحزاب المسيحية الأخرى مثل حزب الكتائب وتيار المردة (على خلاف مع التيار الوطني الحر)- الذي يحشد بقوة في البقاع المسيحية ضد قوى 8 آذار بوجه عام لنيل أصوات المسيحيين في الانتخابات، وتمثل التحقيق في انفجار مرفأ بيروت ومساعي حزب الله إلى تنحية قاضي التحقيق طارق بيطار أحد الأوراق المهمة التي استغلها "القوات" في هذه المعركة. وفي المقابل يستغل التيار ورقة التحقيق في فساد في مصرف لبنان كورقة انتخابية.
وعلاوة على ذلك، يعمل حزب الله على استغلال حالة الفراغ القيادي لدى السنة في لبنان، والتشتت الحادث أمام الناخبين، بطرح مرشحين سنة تابعين له أو دعم لوائح انتخابية معينة في الدوائر السنية، يزيد فوزهم من الكتلة النيابية للحزب وحلفائه داخل البرلمان، ويخصم من رصيد خصومه.
2- فراغ قيادي سني: تواجه الطائفة السنية ضغوطاً كبيرة في هذه الانتخابات بعد إعلان كل من رئيس الوزراء الحالي نجيب ميقاتي ورؤساء الوزراء السابقين سعد الحريري وفؤاد السنيورة وتمام سلام عدم خوضهم الانتخابات، فضلاً عن إعلان الحريري مقاطعة تيار المستقبل الذي يعد القوة السنية الأبرز على الساحة السياسية اللبنانية للانتخابات، واشتراط التيار على أعضائه عدم الترشح للانتخابات أو الاستقالة.
وقد خلّف هذا المشهد في مجمله إرباكاً كبيراً للمشهد السياسي السني في ضوء حالة الفراغ القيادي، وسعي القوى الأخرى إلى استقطاب أصوات اللبنانيين السنة لصالح مرشحين موالين لهم. وهو ما قد يدفع في الإجمال قطاعاً واسعاً من الناخبين السنة إلى العزوف عن المشاركة في الانتخابات رغم وجود مرشحين من الذين استقالوا من تيار المستقبل وأبرزهم مصطفى علوش نائب رئيس التيار والذي يسعى إلى حشد لائحة انتخابية قوية تؤمن كتلة سنية وازنة في البرلمان. ذلك فضلاً عن احتمالية لجوء بعض الناخبين إلى انتخاب المرشحين المحسوبين على قوى التغيير والحراك الشعبي، بما يطرح في الإجمال احتمالية بروز تمثيل سني مختلف في البرلمان المقبل عن البرلمانات السابقة.
ويتعدى تأثير هذا الارتباك حدود الطائفة السنية ليشمل كذلك الساحة الدرزية، خاصة الحزب التقدمي الاشتراكي برئاسة وليد جنبلاط، والذي كان يعتمد على تحالفه مع تيار المستقبل في نيل أصوات تؤهله للظفر بمقاعد نيابية، على حساب التيارات المتحالفة والمدعومة من حزب الله التي تجد في الوضع الراهن فرصة سانحة لها للفوز بالمقاعد الدرزية، ومن ثم زيادة مقاعد تحالف حزب الله وحلفائه.
3- حراك قوى التغيير: عملت القوى المحركة والمشاركة في الحراك الشعبي الذي اندلع في أكتوبر 2019 على تنظيم أنفسها داخل الدوائر المختلفة بمرشحين مستقلين لخوض الانتخابات المقبلة كقوة يمكن أن تمثل بديلاً للقوى السياسية التي خرج عليها اللبنانيون في الحراك الشعبي، وبشعارات تهدف إلى التغيير، استغلالاً لما ظهر من نقمة على الطبقة السياسية –خاصة المسيحية- على أثر الأوضاع الاقتصادية والمعيشية الصعبة، وللتشتت الموجود داخل الأوساط السنية والدرزية على وجه الخصوص. بيد أن تحديات عدة تعترض احتمالات نجاح هذه القوى في تأمين كتلة نيابية وازنة أهمها الخلاف والتنافس البيني، والتشتت في أكثر من مسار تحالفي، فضلاً عن التصميم البادي لدى استراتيجيات الطبقة السياسية الحاكمة على عدم خسارة الأغلبية داخل البرلمان.
فرص التغيير:
تبدو الانتخابات النيابية المقبلة في لبنان فرصة سانحة لإحداث تغيير في المشهد السياسي اللبناني، خاصة في ظل المتغيرات التي طرأت على هذه الانتخابات مقارنة بالانتخابات الأخيرة لعام 2018، وبالنظر إلى ما حدث في الانتخابات العراقية الأخيرة من تغيير نسبي في موازين القوى بتراجع القوى الموالية لإيران، ولكون النظام السياسي في العراق شبيه بنظيره اللبناني.
وعلى الرغم من ذلك، وفي ضوء الاعتبارات التي تمت الإشارة لها، لا تبدو احتمالات حدوث تغيير جذري في المشهد السياسي واردة بالنظر إلى مدى نفاذ الطبقة السياسية الحاكمة في المشهدين الشعبي والانتخابي، وكذلك عدم الرغبة الإيرانية في خسارة نفوذها في لبنان لصالح قوى أخرى بعدما شهدته في العراق من تراجع، وكذلك لكون القوى المعارضة لا تمتلك القوة الكافية التي تؤهلها لإزاحة القوى المتنفذة.
في هذا الإطار يُحتمل أن يحدث تغيير طفيف يتمثل في حصول قوى مسيحية مثل "القوات" أو "الكتائب" على بعض المقاعد الإضافية خصماً من التيار الوطني الحر، فضلاً عن حصول تحالف حزب الله على بعض مقاعد الطائفة السنية ضمن كتلته النيابية، ووصول بعض الوجوه الجديدة من المستقلين إلى البرلمان، فيما يبقى المشهد العام كما هو تقريباً. وعلاوة على ذلك تبقى احتمالات تأجيل الانتخابات أو التمديد للبرلمان الحالي قائمة على وقع مستجدات داخلية أو خارجية.