شهدت منطقة أبيي الحدودية، بين شمال السودان وجنوبه، تصاعداً في الهجمات العشائرية، والتي أسفرت عن مقتل العشرات من المدنيين خلال الفترة الأخيرة، فضلاً عن تهجير الآلاف من المدنيين، الأمر الذي أثار قلقاً من اندلاع حرب أهلية جديدة، بل وإمكانية امتداد الصراع إلى الخرطوم وجوبا، خاصةً في ظل أهمية منطقة أبيي التي تزخر بثروات نفطية ومعدنية هائلة.
تطورات مهمة:
شهدت منطقة أبيي الحدودية تدهوراً في الوضع الأمني، وهو ما أثار قلقاً أممياً وأمريكياً، وهو ما يمكن تفصيله على النحو التالي:
1- توترات متصاعدة بين القبائل: أعلن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، في 9 مارس الجاري، مقتل 36 شخصاً في أعمال عنف قبلية بمنطقة أبيي الحدودية، فضلاً عن عدد غير محدد من الجرحى ونحو 50 آلاف من النازحين.
وأكد المكتب الأممي أن القتال بدأ بالأساس منذ 10 فبراير الماضي، بيد أن وتيرته وحدته تصاعدت بشكل ملحوظ منذ مطلع مارس الجاري، وأعلن المتحدث باسم منطقة أبيي الإدارية، أجاك دنغ، وقوع هجومين كبيرين خلال الأسبوع الماضي من قبل رعاة "المسيرية" وعناصر من القوات السودانية، مشيراً إلى أن الأوضاع لا تزال غير مستقرة في المنطقة.
2- صراعات قبلية داخل دنيكا نقوك: لم تعد التوترات الأمنية مرتبطة فقط بالصراع التقليدي بين قبلة "المسيرية" وقبائل "دنيكا نقوك"، بل أصبحت هناك نزاعات عرقية أخرى قائمة داخل قبائل "دنيكا نقوك" ذاتها، خاصةً بين قبيلتي "تويك دينكا" و"نجوك دينكا".
وقد وقعت نحو ثماني هجمات مختلفة منذ فبراير الماضي بينهما، على الرغم من محاولة التوصل لاتفاق سلام بين طرفي الصراع، حيث قام مسلحون من قبيلة "تويك دينكا" بشن هجمات موسعة على قرى "مالوال ألويو" و"كور روك" ومالو"، وهو ما ينذر باحتمالات تفاقم حدة التوترات في المنطقة. كما هناك قلق من إمكانية امتداد التوترات إلى مناطق حدودية أخرى، على غرار منطقتي "مانجا" و"بانكواش" في ولاية الوحدة، ومنطقتي "سماحة" و"حفرة النحاس".
3- قلق أممي وأمريكي: أعرب المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة، ستيفان دوجاريك، في مارس، عن القلق المتنامي لدى قوة الأمن المؤقتة التابعة للأمم المتحدة (يونيسفا) إزاء تجدد العنف في منطقة أبيي المتنازع عليها بين الخرطوم وجوبا، مشيراً إلى أن التوترات الأخيرة أدت إلى مقتل وتشريد آلاف الرجال والنساء والأطفال، فضلاً عن استهداف دوريات تابعة للبعثة الأممية في هذه المنطقة، وكذا الهجوم على عدد من المرافق الصحية، معتبراً أن هذه الهجمات يمكن أن تشكل انتهاكاً للقانون الإنساني. كذلك أصدرت السفارتين الأمريكيتين في الخرطوم وجوبا بياناً مشتركاً عبرتا فيه عن القلق المتنامي إزاء التصعيد الراهن في منطقة أبيي، موجهتة الدعوة لكافة الأطراف بالتزام الهدوء والعودة إلى الحوار.
وضعية معقدة:
تتمتع أبيي بأهمية خاصة، في ظل الثروة المعدنية والبترولية التي تتمتع بها هذه المنطقة، حيث تضم حوالي 70% من احتياطيات النفط، وثلثي الحقول النفطية في السودان، بالإضافة إلى حوالي ربع إنتاج السودان بأكمله، شمالاً وجنوباً، من النفط. كما تتمتع المنطقة بأهمية زراعية، كونها تقع في حزام السافانا، ومن ثم فهي تضم أحد أكثر الأراضي خصبة، غير أن هذه المنطقة تواجه وضعية أمنية وإدارية خاصة، يمكن عرضه على النحو التالي:
1- تبعية سياسية متنازع عليها: بناء على التقسيم الإداري الذي اعتمدته بريطانيا في السودان في عام 1905، أصبحت منطقة أبيي جزءاً من إقليم كردفان بشمال السودان، غير أن بريطانيا عمدت لاحقاً إلى محاولة ضم المنطقة لجنوب السودان، ولكنها لم تنجح حتى انسحاب الاحتلال البريطاني من السودان في عام 1956، وظلت تبعية المنطقة متنازع عليها بين الشمال والجنوب.
واندلعت الحرب الأهلية الأولى في السودان بين الشمال والجنوب خلال الفترة بين عامي 1956 و 1972، وذلك بسبب مطالب الجنوب بالحصول على مزيد من الاستقلالية، انتهت بتوقيع اتفاقية أديس أبابا في عام 1972، والتي زادت من استقلالية جنوب السودان إدارياً، كما اعتبرت هذه الاتفاقية منطقة أبيي جزءاً من الجنوب.
وتصاعدت حدة التوترات بين شمال السودان وجنوبه مرة أخرى، خاصةً بعد اكتشاف النفط في منطقة الجنوب، الأمر الذي أدى إلى اندلاع الحرب الأهلية الثانية في عام 1983، كان مركزها في أبيي، وذلك بعدما عمدت قبائل "الدنكا نقوك"، والتي كانت بريطانيا قد نقلتها إلى منطقة أبيي في عام 1905، إلى الانضمام إلى الجيش الشعبي لتحرير السودان (الجنوبي)، بينما انضمت قبائل "المسيرية"، التي تقطن منطقة أبيي موسمياً، إلى الجيش السوداني، وانتهت الحرب بتوقيع اتفاقية "نيفاشا" في عام 2005، والتي مهدت الطريق أمام انفصال جنوب السودان في 2011.
وفرضت هذه الاتفاقية وضعية خاصة بالنسبة لإدارة منطقة أبيي الحدودية، وذلك نظراً للموقع الجغرافي لهذه المنطقة بين ولاية "كردفان" بشمال السودان، وولاية "بحر الغزال" بجنوبه، فقد نص الاتفاق في فصله الرابع، الذي سمي بروتوكول أبيي، على أن هذه المنطقة تمثل تجمع مشيخات قبائل "دينكا نقوك" التسعة، مع احتفاظ قبيلة "المسيرية" بحقوقها الرعوية والتحرك بحرية في المنطقة، مع بقاء الحدود الموروثة بين الشمال والجنوب وفقا لما آلت إيه الأمور بعد استقلال السودان في عام 1956، وذلك لحين الاستفتاء على تقرير مصير المنطقة، وهو الاستفتاء الذي لم يتم حتى الآن، بسبب الخلاف بشأن أحقية مشاركة القبائل في عملية الاستفتاء، كما نص الاتفاق على تقسيم عائدات النفط لهذه المنطقة، بحيث تحصل حكومة الخرطوم على نحو 50% منها، مقابل42% لجوبا، و2% لكل من بحر الغزال وكردفان ومنطقة أبيي ذاتها.
2- نزاع قبلي على المنطقة: هناك خلاف قائم بين قبائل "الدينكا نقوك" و"المسيرية" حول أحقيتها في منطقة أبيي، خاصةً في ظل الاختلافات العرقية والدينية بين هذه القبائل، ففي حين تنحدر قبيلة "المسيرية" من شمال السودان، وهي من القبائل العربية المسلمة، تعد قبائل "دينكا نقوك" إحدى القبائل المنحدرة من جنوب السودان، وهي منقسمة دينياً بين المسيحية والوثنية.
وكذلك، عمدت مشيخات قبائل "دينكا نقوك" إلى إجراء استفتاء داخلي في 2013 بشأن تقرير المصير، بيد أن نتائج هذا الاستفتاء، التي جاءت داعمة للانضمام لجنوب السودان بنسبة وصلت لـ99.9%، لم تلق اعترافاً من قبل الخرطوم وجوبا، فضلاً عن معارضة قبيلة "المسيرية" التي اعتبرته غير شرعي.
3- تولي اليونيسفا إدارة الأمن: بموجب قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1990 الصادر في عام2011، تم الاتفاق بين الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة على تشكيل قوات لحفظ السلام في منطقة أبيي، تحت مسمى "القوات الأممية المؤقتة في أبيي" (يونيسفا)، وذلك في عام 2013، قوامها حوالي 5000 جندي، للحيلولة دون وقوع أي مواجهات جديدة أو زعزعة الاستقرار في المنطقة، وتعد هذه القوات من أبرز الفاعلين في منطقة أبيي، والمسؤول الرئيسي عن حفظ الأمن هناك.
ارتدادات محتملة:
تعكس التطورات الأخيرة التي تشهدها منطقة أبيي الحدودية مجموعة من الانعكاسات المحتملة، والتي يمكن عرضها على النحو التالي:
1- تهديدات الفراغ الأمني: تعاني منطقة أبيي تراجع قدرة قوات "الأمم المتحدة الأمنية المؤقتة في أبيي "يونيسفا"، وذلك بسبب انخفاض عدد قواتها، بعدما طلبت السودان، في أبريل الماضي، من الأمم المتحدة استبدال القوات الإثيوبية التي تشارك في هذه القوات بقوات بديلة، بسبب تصاعد حدة التوترات الحدودية بين الخرطوم وأديس أبابا فضلاً عن انهيار المفاوضات الخاصة بملف سد النهضة، وهو ما أدى إلى فراغ أمني انعكس بوضوح في زيادة وتيرة التوترات الأمنية في المنطقة.
وفي هذا السياق، أعلن المتحدث باسم قوات يونيسفا، دانييل أديكيرا، أن البعثة ستواجه تحديات أمنية ضخمة حال استمرت الأمم المتحدة في المضي قدماً في سحب بقية عناصر القوات الإثيوبية المشاركة في البعثة وفقاً لما هو مخطط له، حيث تساهم أديس أبابا بنحو 3200 جندي من هذه القوات، مشيراً إلى أن هذه الخطوة ستعيق كثيراً قدرة البعثة على ردع الهجمات المتفاقمة، خاصةً في ظل عدم انضمام القوات البديلة من الصين وباكستان وبنجلاديش حتى الآن.
2- أدوار خارجية محتملة: أعلن المتحدث باسم قوات يونيسفا، دانييل أديكيرا، أن العمليات المسلحة التي شهدتها منطقة أبيي الحدودية مؤخراً بدت منسقة بشكل كبير، ما قد يؤشر إلى وجود دوافع سياسية ربما تقود هذه التحركات الراهنة، خاصةً في ظل الثروات النفطية الكبيرة التي تحتويها هذه المنطقة، في الوقت الذي تشهد فيه أسعار النفط العالمية تصاعداً حاداً، فضلاً عن التوترات التي يشهدها السياق الإقليمي المحيط، والذي يجعل احتمالية وجود أطراف خارجية تسعى لتأجيج الأوضاع في أبيي لأغراض مختلفة قائمة بقوة، الأمر الذي يمكن أن يزيد من تعقيد المشهد في هذه المنطقة.
3- تحديات عودة المسار السياسي: كان رئيس جنوب السودان، سيلفاكير ميارديت، قد عمد في نهاية 2021 إلى تشكيل لجنة حكومية مشتركة مع السودان لحلحلة الأزمة القائمة في منطقة أبيي، بيد أن تشابك الأبعاد الأمنية والاجتماعية والاقتصادية لأزمة منطقة أبيي، حال دون التوصل إلى أي تفاهمات بين الخرطوم وجوبا.
وتبدو السلطات في الخرطوم أقل اهتماماً بالانخراط في محادثات سياسية تتعلق بأزمة أبيي، حيث باتت أولويتها منصبة على محاولة التوصل لتوافقات داخلية بين القوى السياسية والأمنية المتصارعة، لذا يبدو أن عودة طرح ملف أبيي على أجندة الأوليات بالنسبة للخرطوم يعد أمراً مؤجلاً في الوقت الراهن.
وفي الختام، فإن التوتر في أبيي ينذر باندلاع حرب أهلية ثالثة في هذه المنطقة، والتي ستكون لها انعكاسات إقليمية واسعة، في ظل الخلافات والصراعات بين دول المنطقة، وهو ما يغري الدول المناوئة للسودان بالتدخل فيها، في محاولة لامتلاك أوراق للضغط على الخرطوم، أو انتزاع تنازلات منه في ملفات أخرى.