أجرى الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في 6 يناير الجاري، اتصالاً هاتفياً بنظيره الكازاخستاني، قاسم جومارت توكاييف، أعرب خلاله عن أمله في أن يتم تشكيل حكومة جديدة في كازاخستان، وإنهاء التوتر الذي حدث على خلفية التظاهرات في المناطق الغربية للبلاد، نتيجة الارتفاع الحاد في أسعار الغاز، وذلك في إطار عضوية الدولتين في منظمة الدول الناطقة بالتركية. كما تواصل أردوغان أيضاً مع زعماء الدول الأعضاء في المنظمة، للتأكيد على أن استقرار وأمن كازاخستان يشكل أهمية كبيرة للمنطقة برمتها، وفي مقدمتها دول الجوار.
تبدل سياسات أردوغان
هناك علاقات وثيقة بين تركيا وكازاخستان منذ إقامة العلاقات الدبلوماسية بينهما عام 1992، فقد كانت تركيا من أولى الدول التي اعترفت باستقلال كازاخستان بعد سقوط الاتحاد السوفييتي عام 1991، لذا تمثل كازاخستان أهمية كبرى بالنسبة لأنقرة. ويلاحظ أن المواقف التركية من الأزمة الأخيرة في كازاخستان قد تباينت، وهو ما يمكن تفصيله على النحو التالي:
1- تباين الموقف التركي: التزمت أنقرة الصمت في البداية من التطورات التي شهدتها كازاخستان، حيث لم يصرح أردوغان بأية تصريحات رسمية طوال اليومين الأولين للاحتجاجات هناك، غير أن وسائل الإعلام التابعة لحزب العدالة والتنمية وصفت الأحداث بأنها "الربيع التركي"، في إشارة إلى تعاطفها مع المتظاهرين، وصولاً إلى إمكانية اطاحتهم بالحكومة الكازاخية. ويلاحظ أن تركيا تبدي امتعاضاً من الرئيس الكازاخي الحالي، نظراً لأنه يعطي الأولوية لتوطيد علاقاته بموسكو، وهو أمر تراه أنقرة يحجم من نفوذها في منطقة آسيا الوسطى.
وأكدت تقارير إعلامية إلى أن ديمتري ديكي، أكبر زعماء المافيا في كازاخستان، والذي تورط في التحريض على التظاهرات الأخيرة في كازخستان قد زار أنقرة قبيل الأحداث مباشرة والتقي وزير الخارجية مولود تشاويش أوغلو، في مؤشر على أن لأردوغان دور في إثارة الاضطرابات التي شهدتهت البلاد.
ولعل ما يضفي مصداقية على هذا الاتهام إعلان الرئيس الكازاخي توكاييف وجود دور لأيادٍ أجنبية ومثيري الشغب والجماعات الإرهابية للتورط في الهجمات على المؤسسات الحكومية التي شهدتها البلاد. وألقت السلطات الكازاخية، بالفعل، القبض على ديمتري ديكي في 7 يناير، عقب عودته من تركيا.
كما أكد المسؤولون الكازاخ أن مثري الشغب كانت لديهم خبرة قتالية بالنظر إلى مشاركتهم في "المناطق الصراعية" حيث تنشط الجماعات الإسلامية المتطرفة، وهو ما يجعل الاتهامات تنحصر إما في تركيا، والمعروف أنها تمتعت بعلاقات وطيدة مع مختلف التنظيمات الإرهابية الموجودة في سوريا، أو في أفغانستان.
ومع تدخل القوات الروسية في كازاخستان، غيرت الوسائل الإعلامية المقربة من أردوغان لهجتها مرة أخرى، إذ اختفت عبارة "الربيع التركي"، في مؤشر على تغير الموقف الإعلامي التركي من الأحداث الجارية في كازخستان. وتزامن مع ذلك تغير في الموقف الرسمي، إذ أعلن المتحدث باسم الرئاسة التركية، في 7 يناير الجاري، أن بلاده تعطي الأولوية للسلام والاستقرار والهدوء في كازاخستان، ثم كرر وزير الخارجية التركي التصريحات نفسها في 9 يناير.
2- إبداء الاستعداد للتدخل العسكري: أكد وزير الدفاع التركي، خلوصي أكار، استعداد بلاده لإرسال قوات لدعم الاستقرار في كازاخستان، فقد صرح أكار بأن: "كازاخستان حليف مهم لتركيا، ونأمل في أقرب وقت ممكن استقرار الوضع وضمان القانون والنظام في هذا البلد. إذا قدمت كازاخستان أي طلب إلى أنقرة، فسنكون مستعدين للوفاء به بالكامل".
ومن الواضح أن كازاخستان تجاهلت العرض التركي، فقد طلب الرئيس توكاييف الدعم والتدخل من منظمة معاهدة الأمن الجماعي التي تضم كلاً من روسيا وأرمينيا وطاجيكستان وقيرغيزستان وبيلاروسيا وكازاخستان، والتي تهيمن عليها بالكامل موسكو. وهبت موسكو منذ اللحظة الأولى في إرسال قواتها إلى هناك ولعبت دوراً في استعادة مطار ألماتي الرئيسي الذي سيطر عليه المحتجون.
انعكاسات داخلية وإقليمية
ثمة دلالات مهمة تتجلى في الموقف التركي تجاه كازاخستان، خاصة عقب تغيير موقفها ما بين الصمت الرسمي والتواطؤ المحتمل في البداية، وصولاً إلى الإعلان عن استعداد للتدخل دعماً للسلطات الكازاخية، وتتمثل أهم تلك الدلالات فيما يلي:
1- مصالح اقتصادية مهددة: ترتبط تركيا بعلاقات اقتصادية قوية مع كازاخستان. ففي عام 2009، وقع البلدان اتفاقية شراكة استراتيجية، جعلت تركيا أحد أهم الشركاء الاقتصاديين لكازاخستان في المنطقة، كما وقع البلدان في عام 2019، 19 اتفاقية في مجالات مختلفة، وذلك خلال الاجتماع الحادي عشر للجنة الاقتصادية المشتركة بين الحكومتين التركية والكازاخية، والذي هدفت منه أنقرة إلى رفع التبادل التجاري بين البلدين إلى 10 مليارات دولار سنوياً. كما أن هناك أكثر من 500 مشروع برؤوس أموال تركية – كازاخية في كازاخستان، فضلاً عن 160 مشروعاً برأسمال تركي.
وبالنظر إلى المصالح الاقتصادية، فإنه يمكن فهم أسباب التبدل في السياسة التركية، إذ إنه بعد أن أيقنت أنقرة أن الحكومة الكازاخية لن تواجه أي تهديد لبقائها في السلطة بسبب التدخل الروسي، فإنها اتجهت لتغيير سياستها والتأكيد على دعمها كازاخستان. وفي حالة تأكد كازاخستان من تورط تركيا في دعم الاضطرابات داخلها، فإن هذا قد ينعكس سلباً على علاقة البلدين مستقبلاً، ويدفع نور سلطان إلى تعزيز علاقاته بموسكو.
2- تراجع دور منظمة الدول التركية: تحوّل مجلس الدول الناطقة بالتركية، في 15 نوفمبر 2021، إلى منظمة دولية لها غايات اقتصادية وعسكرية، وذلك في أعقاب القمة الثامنة للمجلس التي انعقدت في إسطنبول. وعلى الرغم من إعلان أردوغان حينها أن تلك المنظمة الجديدة ستواصل تعزيز التعاون بين الدول الأعضاء سياسياً واقتصادياً وثقافياً وعسكرياً، فإنه اتضح تراجع دور المنظمة في أزمة كازاخستان، فقد ظلت تلك الدول والمنظمة، على حد سواء، صامتة، ولم تبد أي تصريحات، سوى بعد انقضاء المرحلة الحرجة من عمر الأزمة.
فقد اجتمع وزراء خارجية منظمة الدول التركية في 11 يناير، بدعوة من تركيا، عبر تقنية الفيديو كونفرنس، وشدد البيان الختامي على الدعم الكامل والاستعداد التام لتقديم كل الإمكانات لمساعدة كازاخستان على تجاوز أزمتها، بما في ذلك دعم الإصلاحات التي تحدث عنها رئيسها، وصولاً لتحقيق استقرارها ورفاهيتها اللذين يرتبطان مباشرة باستقرار ورفاهية المنطقة ككل. ويلاحظ أن هذا الموقف لا يعدو أن يكون موقفاً دبلوماسياً شكلياً فقط، خاصة بعدما تمكنت موسكو من السيطرة على الأوضاع في كازاخستان.
3- خسائر دولية لتركيا: قطع التدخل السريع لروسيا الطريق أمام تركيا للعب أي دور فعال في الأزمة الكازاخية، كما يتوقع ان تحجم موسكو أي محاولات تركية للتمدد في مناطق ذات أهمية استراتيجية كبيرة لموسكو، أو تمثل فناءً خلفياً لها.
وعلى الجانب الآخر، فإنه على الرغم من أن واشنطن قد تدعم أي تحركات تركية من شأنها إضعاف النفوذ الروسي في فنائها الخلفي في وسط آسيا، فإن التدخل الروسي السريع قد حجم من قدرة أنقرة على استثمار تدخلها هناك لخدمة السياسات الأمريكية في المنطقة، وبما يمكنها من توظيف ذلك في انتزاع تنازلات من واشنطن في الملفات الخلافية بينهما.
4- ارتدادات داخلية محتملة: تشير بعض التقديرات إلى احتمالية تكرار الاضطرابات في كازخستان إلى تركيا، خاصةً في ظل تدهور الأوضاع الاقتصادية في تركيا، خصوصاً مع استمرار تعنت الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، وتمسكه بعدم التراجع عن سياسته الاقتصادية النقدية، والتي أدت إلى تدهور كبير في الاقتصاد التركي.
وفي الختام، يمكن القول إنه إذا صحت التقارير التي تتحدث عن تورط أنقرة، في البداية، في إثارة الأوضاع في كازاخستان، فإن هذا يكشف عن أن تركيا لم تتخل بعد عن سياستها التقليدية الرامية إلى التدخل في الصراعات والأزمات، ومحاولة استثمارها بما يحقق مصالحها الخاصة، غير أن التدخل الروسي السريع والحاسم قد قطع الطريق أمام أنقرة للتدخل في الشؤون الكازاخية، وامتلاك أوراق يمكن أن تساوم بها روسيا، أو الولايات المتحدة، على حد سواء.