إعداد: د. إسراء إسماعيل
أثار ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في أوائل عام 2014، والأزمة التي تلت ذلك في علاقاتها مع دول الجوار والعالم الغربي، العديد من التساؤلات حول طموحات السياسة الخارجية الروسية على المدى البعيد واستراتيجيتها العسكرية. وعلى الرغم من اهتمام واشنطن في الوقت الحالي بالأهداف السياسية للرئيس "فلاديمير بوتين"، بيد أن تخطيط السياسات الأمنية الأمريكية على المدى الطويل يتطلب فهم الاتجاهات السياسية الرئيسية في روسيا لوضع السيناريوهات المستقبلية.
في هذا السياق، أصدرت دورية Washington Quarterlyفي عددها الأخير، دراسة تحت عنوان: "نحو روسيا ريجانوف.. السياسة الأمنية الروسية بعد بوتين"، لكل من "كليفورد جادي" Clifford Gaddy و"مايكل هانلون" Michael O’Hanlon ، وهما من كبار الباحثين في معهد بروكينجز، حيث تناولت الدراسة سيناريوهات السياسة الأمنية والاستراتيجية العسكرية الروسية المستقبلية، والآثار المترتبة على عليها.
سيناريوهات المستقبل
تطرق الباحثان إلى عرض ثمانية سيناريوهات مستقبلية بشأن السياسات الروسية، ثم محاولة تحديد الاستراتيجيات الأكثر قبولاً منها، والتي من المحتمل أن تتبعها موسكو في السنوات المقبلة، ونتائجها العسكرية، والآثار المترتبة على العلاقات مع الغرب، وكيف يمكن التأثير على الخيارات الروسية في المرحلة المقبلة. وهذه السيناريوهات هي:
1- روسيا ما بعد ويستفاليا Post-Westphalian Russia: هذا النموذج يعتبر روسيا دولة أوروبية ليبرالية مثل سويسرا، غير راغبة في اتباع سياسة القوة، وتركز سياستها الأمنية على الدفاع عن النفس.
2- روسيا عضواً في حلف الناتو NATO Russia: وفقاً لهذا النموذج، فإن روسيا ستسعى للانضمام إلى حلف "الناتو".
3- روسيا الموالية للغرب Pro-Western Russia: طبقاً لهذا النموذج، فإن موسكو لن تنضم لحلف "الناتو"، ولكن قد يصبح ثمة روابط أوثق مع الغرب من خلال أنواع أخرى من الترتيبات الأمنية.
4- روسيا المعتدلة Minimalist Russia: قد لا تكون الرؤية المستقبلية الروسية في حدها الأدنى مُوالية للغرب، لكن يمكن أن ترى أن مصالحها تفرض عليها وضع سياسة أمنية معتدلة ومقيدة.
5- روسيا القومية "نموذج ريجانوف" "Reaganov" Russia: وفقاً لهذا السيناريو، تتمتع روسيا بدرجة عالية من الشعور الوطني، تدفعها للقيام بتعزيزات عسكرية، مع وجود هدف رئيسي يتمثل في إعادة تأكيد النموذج العسكري التقليدي للدولة، أخذاً في الاعتبار عدم توظيف هذه القوة العسكرية إلا في حالة الضرورة القصوى، مثلما أعاد "رونالد ريجان"– ومنه اشتُق اسم النموذج "ريجانوف"- تسليح الولايات المتحدة وأعطى البلاد دفعة من الثقة داخلياً وعالمياً. وبالتالي، فإن هذه الرؤية لروسيا تسعى إلى إيجاد دولة قوية دون إرسال قوات للقتال بشكل متكرر.
6- روسيا المُحاصَرَة Besieged Russia: هذا المفهوم أقرب إلى النموذج السابق، ولكنه يركز بدرجة أقل على الشعور بالوطنية أو هيبة الدولة، ويركز بدرجة أكبر على تصفية الحسابات مع الأعداء والخصوم، وبالتالي لن تكون روسيا في ظله دولة صديقة.
7- روسيا الكبرى Greater Russia: يسير هذا النموذج في نفس سياق نموذج "روسيا القومية"، بل ويضيف إمكانية سعي موسكو نحو فرص محددة لتوظيف سلطتها لإعادة بناء جزء من الإمبراطورية الروسية الكبرى، مع ما يتطلبه ذلك من ممارسة قدر معين من النفوذ على الدول المجاورة الواقعة في إطار المجال الحيوي الروسي.
8- روسيا أكثر طموحاً "نموذج بريجنيف" Brezhnevian Russia: طبقاً لهذا النموذج، فإن موسكو سوف تضع هدفاً يتمثل في العودة إلى القوة والمكانة التي تمتعت بها خلال الحقبة السوفييتية، وسيتم بذل كل الجهود المُمكنة للحفاظ على التعادل مع الولايات المتحدة أو التفوق عليها فيما يتعلق بالأسلحة النووية، والصواريخ، ومجال الفضاء. وإقليمياً، ستسعى روسيا للهيمنة المباشرة على الدول المجاورة.
وفي حين أنه ليس من المحتمل على المدى المتوسط أن تعتمد روسيا هذا النموذج، إلا أن نفوذها قد يتجاوز شبه جزيرة القرم وأجزاء من جورجيا، والسيطرة على جمهوريات آسيا الوسطى، ودول البلطيق، من خلال القوة العسكرية المباشرة أو عن طريق الإكراه غير العسكري.
سيناريوهات مستبعدة
في ضوء عرض السيناريوهات المحتملة للسياسة الروسية المستقبلية، أشارت الدراسة إلى استبعاد روسيا في الغالب لثلاثة منها، وهي: (روسيا ما بعد ويستفاليا، وروسيا كعضو في حلف الناتو، ونموذج "بريجنيف")، حيث من المرجح ألا يحظى نموذج "ما بعد ويستفاليا" بتأييد الروس، لأنهم فخورين بتاريخهم وأمتهم ودولتهم، ولا يوجد لديهم من يشاركهم في بناء أي نظام جديد ما بعد ويستفاليا، لأن روسيا لا تشعر بالقرب تجاه أي كتلة أخرى من الدول.
وفيما يتعلق بانضمام روسيا لحلف الناتو، فهذا الخيار كان وارداً بعد الحرب الباردة، ولكن بعد مرور عقدين من الزمن شهدتا حروب "الناتو" في كوسوفو وليبيا، والرفض الشعبي الروسي لهذه الحروب، فضلاً عن الخلاف الممتد حول مسألة الدفاع الصاروخي، جنباً إلى جنب مع توسع الحلف حتى وصل إلى أعتاب روسيا بعد دعوة جورجيا وأوكرانيا للانضمام إليه، لذلك يعتبر الروس أن حلف الناتو يحمل طابعاً معادياً لروسياً سواءً في عضويته أو الغرض منه. أما بالنسبة لنموذج "بريجنيف"، فإنه يعد طموحاً ومُكلفاً حتى من وجهة نظر القوميين الروس.
خمسة سيناريوهات محتملة
استكمالاً لما سبق، ترى الدراسة أن ثمة سيناريوهات خمس قابلة للتحقق فيما يتعلق بالسياسات الروسية بعد "بوتين"، وهي:ـ
1- روسيا الموالية للغرب Pro-Western Russia:
من الممكن أن تسعى موسكو بعد "بوتين" لرأب الصدع وتطوير مصالح متوافقة مع الغرب، وتوجد عدة دوافع يمكن أن تشجع الروس تجاه هذا النموذج؛ أهمها تحقيق النمو الاقتصادي، والتحوط ضد التطرف الإسلامي، والصعود الصيني.
ويتمثل جوهر هذه السياسة في العودة إلى هدوء العلاقات بين حلف "الناتو" وروسيا، كما أنها يُمكن أن تخلق آليات مؤسسية جديدة أو تعمل على استمرار وتطوير الآليات القائمة، مثل: منظمة الأمن والتعاون في أوروبا (OSCE)، و"مجلس روسيا - الناتو"، وكذلك احتمال عودة روسيا لمجموعة الثماني G8.
2- روسيا المعتدلة Minimalist Russia:
تشير الدراسة إلى أنه إذا أدركت روسيا أنها لن تتعرض لهجوم أو تهديد خارجي، فربما يتم إقناعها بحجم معتدل من الجيش، والقوات البحرية، وميزانية الدفاع، إلى جانب وجود ترسانة نووية كبيرة. وبالتالي، فإن الاعتقاد بأن الأمن الروسي يواجه تحديات خارجية محدودة مقابل المزيد من التحديات الداخلية، يمكن أن يساعد في تحفيز هذا النموذج.
3- روسيا القومية "نموذج ريجانوف" "Reaganov" Russia:
إذا تمكنت موسكو من اتباع نهج السياسة الخارجية لـ"رونالد ريجان" والتي يمكن تحليل عناصرها في: (التمتع بجيش قوي ولكن نادراً ما يتم استخدامه، وجود زعامة تتمتع بالدماثة والقبول الشعبي، وأمة ناجحة اقتصادياً وصناعياً)، فإذا استطاعت روسيا السير على هذا النهج، حينها ستتمتع بثقة كافية بالنفس، وقد لا تحتاج إلى استخدام أساليب عدوانية في المستقبل.
وتجدر الإشارة إلى قيام مسؤول بوزارة الدفاع الروسية "ديمتري روجوزين" بتشجيع هذه الأفكار، وهو ما يعزز إتباع هذا النهج الذي يعد السيناريو الأرجح.
4- روسيا المحاصَرَة Besieged Russia:
توضح الدراسة أن هذا النموذج يمثل رؤية الرئيس "بوتين"، ووفقاً له فإن الموقف الروسي لن يلين، على الرغم من احتمال القيام بتعديلات تكتيكية وإظهار ضبط النفس بشكل مؤقت، مُضيفةً أن موسكو يُمكن أن تبحث في المستقبل عن فرص للتوسع أو على الأقل أن تسعى إلى إعادة تفعيل دورها في مجالها الحيوي في أوكرانيا وبيلاروسيا ومولدوفا وجورجيا، فضلاً عن اتباع سياسات عدائية تجاه دول البلطيق وربما بولندا ودول أخرى في أوروبا الوسطى.
وتشير الدراسة إلى أن "فلاديمير بوتين" قد يظل في منصبه لمدة عقد كامل، وربما أيضاً يقوم باختيار خليفته، وهو ما يدعو للاعتقاد بأنه لا يمكن استبعاد هذا النموذج أو ما يشابهه من مستقبل روسيا.
5- روسيا الكبرى Greater Russia:
تسعى روسيا - وفق هذا النموذج - ليس فقط للإنتقام واستعادة الهيمنة على الدول القريبة منها، ولكن لتعظيم سلطاتها، وهذا يعني إمكانية القيام بإجراءات أكثر عدوانية ضد الجمهوريات السوفيتية السابقة، حيث يُمكن أن يشمل التوسع الروسي جمهوريات آسيا الوسطى، نظراً لوجود نسبة كبيرة من السكان من أصل روسي، ما قد يوفر ذريعة للعدوان الروسي. كما يمكن أن تنطوي هذه التحركات أيضاً على زيادة استخدام القوة البحرية الروسية في المناطق الاقتصادية للدولة وخارجها، والهيمنة على الممرات الملاحية في القطب الشمالي. وتوضح الدراسة أن هذا ما يحدث بالفعل في عهد "بوتين" مع احتلال جزر سيبيريا الجديدة في سبتمبر 2013، وزيادة المناورات العسكرية في البحار الشمالية.
الآثار المترتبة على سياسة روسيا العسكرية
ثمة نتيجتان مُحتملتان للسياسة العسكرية الروسية، وهما وفقاً لما عرضته الدراسة، كالتالي:
1- روسيا القوية: وفقاً لهذه النتيجة تظل روسيا تتمتع بميزانية عسكرية تتراوح نسبتها من 3 – 4% من الناتج المحلي الإجمالي في المستقبل. وتعد هذه واحدة من نسب الإنفاق المرتفعة في العالم.
وفي هذا الإطار، قد يتراوح الإنفاق العسكري الأمريكي في عام 2020 بين500 إلى 550 مليار دولار، والإنفاق العسكري الصيني قد يبلغ نحو 300 مليار دولار. أما بالنسبة لروسيا، فنظراً لتراجع اقتصادها، قد يتراوح إنفاقها العسكري بين 100 إلى 150 مليار دولار سنوياً.
وبالتالي، سيكون من الصعب على موسكو تأمين جميع الحدود البرية من خلال قواتها التقليدية وحدها، وستظل غير قادرة على استعادة القوة العسكرية التي كان يتمتع بها الاتحاد السوفيتي، ولكنها ستظل قوة عظمى نووياً، وستُعتبر القوة العسكرية الثالثة في العالم، وستحتفظ بنفوذ وتأثير كبير على الأحداث الاستراتيجية التي ستقع بالقرب من حدودها.
2- روسيا النووية "نموذج القنفذ": من المرجح أن تحافظ موسكو على مبدأ التكافؤ النووي مع الولايات المتحدة، مع وجود نحو 1000 رأس حربية نووية أو أكثر لديها، والعمل على تأكيد فكرة أنها أقوى من أي دولة على حدودها، خاصةً فيما يتعلق بالقوة الإلكترونية. وسيظل لديها جيش أكبر من أي دولة أوروبية عضو في حلف "الناتو".
وبخلاف ذلك، يمكن أن تعتمد على ما يمكن تسميته موقف "القنفذ" "Porcupine" أي موقف الدفاع، بحيث تكون قدراتها وأهدافها الهجومية أقل، في مقابل اتباع نهج لمنع أي دولة أخرى من الاستيلاء على أجزاء منها.
ختاماً، تشير الدراسة إلى أنه مع إدراك حقيقة أن تأثير "بوتين" سيظل قوياً لبعض الوقت في المستقبل الروسي، فإنه يصعب ترجيح أحد السيناريوهات الخمسة المحتملة، لكن سيناريو "الموالاة للغرب" يبدو احتمالاً بعيداً.
وبالنسبة لنموذج "ريجانوف"، فعلى الرغم من أنه قد لا يؤدي إلى تخفيض مستوى الإنفاق العسكري الروسي، إلا أنه يعد أكثر اعتدالاً، حيث ينطوي على ثقة أكثر بالنفس، وبالتالي يقل مستوى العدوانية في السياسة الخارجية الروسية، وهذه تعد نتيجة مرغوبة بالنسبة لواشنطن، وأفضل ما يمكن أن تأمله.
* عرض مُوجز لدراسة بعنوان: "نحو روسيا ريجانوف: السياسة الأمنية الروسية بعد بوتين"، والمنشورة في دوريةThe Washington Quarterly ، صيف 2015.
المصدر:
Clifford Gaddy and Michael O’Hanlon, toward a reagan Russia: russian security policy after putin, The Washington Quarterly, Volume 38, Issue 2 (Washington, Elliott School of International Affairs, Summer 2015) pp. 205–221.