تأزمت أوضاع الاقتصاد التركي في الفترة الأخيرة بشكل غير مسبوق، في ظل التراجع المستمر لسعر صرف الليرة التركية، متجاوزاً حاجز الـ 14 ليرة مقابل الدولار الأمريكي حالياً؛ ويأتي ذلك إزاء تمسك الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بتوجهاته بالإبقاء على أسعار الفائدة منخفضة، الذي تواكب معها انخفاض سعر صرف العملة، معتبراً إياها السبيل الأمثل لتعزيز حركة الصادرات والسياحة من ناحية، ولدفع معدلات الاستثمار والنمو الاقتصادي من ناحية أخرى.
ويلاحظ أن تلك الفرضية لا يمكن التحقق من فاعلية تأثيرها في السياق التركي، بالنظر إلى وجود مشاكل أخرى يعانيها الاقتصاد التركي، وأبرزها الخلل المزمن للمؤشرات المالية والنقدية للبلاد، والذي تفاقم في الفترة الأخيرة، وعلى نحو زعزع ثقة المستهلكين والمستثمرين في الاقتصاد التركي.
تدخلات واسعة:
يدافع أردوغان بقوة عن توجهاته بشأن الإبقاء على أسعار الفائدة المنخفضة، مبرراً بأنها سوف تدعم الإنتاج والاستثمار في البلاد، أو بمعنى آخر، كما يشير الاقتصاديون، سوف تساهم في حفز الائتمان وتشجيع الاستثمار، هذا إلى جانب دعم حركة السياحة والصادرات. وتمثلت أبرز تدخلات الرئيس التركي في المشهد الاقتصادي للدفاع عن رؤيته على النحو التالي:
1- تغيير قيادات البنك المركزي: أقال الرئيس أردوغان محافظ البنك المركزي، مراد أويسال، من منصبه في نوفمبر 2020، ثم أقال بعدها المحافظ، ناجي إقبال، في مارس 2021، عقب اتخاذه قراراً برفع سعر الفائدة إلى 19%، وعين كافجي أوغلو بدلاً منه، ومؤخراً اتخذ المركزي التركي تحت قيادة أوغلو عدة قرارات متوالية بخفض أسعار الفائدة لتصل إلى 16%، على الرغم من ارتفاع معدلات التضخم. وفضلاً عن ذلك، قام الرئيس أردوغان بإقالة عدد من أعضاء لجنة السياسة النقدية بالبنك المركزي التركي عدة مرات.
2- الادعاء بتقديم نموذج اقتصادي جديد: تعهد الرئيس أردوغان، مراراً، باستمرار خفض سعر الفائدة على الرغم من تراجع الليرة التركية وارتفاع التضخم، وهو ما يتناقض مع النظريات الاقتصادية، التي تشير إلى أن تشديد السياسة النقدية يُعد أبرز آليات البنوك المركزية لمواجهة التضخم، مبرراً ذلك باعتزامه تقديم نموذج اقتصادي جديد يدعم المستلهكين والمنتجين.
وفي الوقت ذاته، أرجع موجة التدهور التي تتعرض لها العملة التركية لــ "مؤامرات خارجية"، وليست نتيجة للسياسات الاقتصادية غير الرشيدة. وتسببت التصريحات الاقتصادية للرئيس التركي، لاسيما تلك المتعلقة بسياساته بشأن أسعار الفائدة في قلق المستثمرين وخروج رؤوس الأموال في ظل حالة عدم اليقين بشأن آفاق نمو الاقتصاد التركي.
تداعيات سلبية:
تسببت السياسات الاقتصادية المنتهجة في مضاعفة التأثير السلبي على الليرة التركية، فضلاً عن ارتفاع معدلات التضخم، وذلك على النحو التالي:
1- تراجع الليرة التركية: انخفضت قيمة الليرة بنسبة 46% مقابل الدولار الأمريكي منذ بداية العام الجاري، و38% منذ سبتمبر 2021، وحالياً يتم تداول الدولار الأمريكي عند مستويات تقارب الـ 14 ليرة، لتصل بذلك الليرة إلى أدنى مستوياتها تاريخياً.
2- ارتفاع التضخم: ارتفع معدل التضخم ليصل إلى 21.3% في نوفمبر 2021، وتشير التقديرات إلى استمرار ارتفاع معدلات التضخم، في ظل ضعف الليرة التركية، وارتفاع أسعار السلع عالمياً. فوفقاً لوكالة فيتش، من المتوقع أن يصل التضخم إلى 25% بحلول نهاية عام 2021، ليظل بذلك أحد أعلى المعدلات على مستوى الدول التي تصنفها الوكالة.
اختبار الفرضيات:
كما ذكرنا آنفاً، يزعم أردوغان أن انخفاض سعر الفائدة سيدعم الاستثمار الأجنبي في البلاد، كما سيزيد من جاذبية الصادرات التركية، إلى جانب تنشيط حركة السياحة الوافدة إليه، وهو ما يتبين عدم صحته كالتالي:
1- التأثير على الصادرات: قد يبدو أن انخفاض سعر الصرف الليرة التركية سيساهم في تعزيز تنافسية الصادرات التركية في الأسواق الدولية نظرياً، حيث يمنح الأخيرة ميزة سعرية في السوق العالمية، إلا أن هناك عدد من العوامل الأخرى التي تؤخذ في الاعتبار عند تقييم أداء الصادرات التركية، وتتضمن ما يلي:
أ- تأثيرات مزدوجة لسعر الصرف: شهدت الصادرات التركية معدل نمو سنوي مركب بنسبة 3% في الفترة من 2016 إلى 2020 لتصل إلى 168.4 مليار دولار بنهاية العام الماضي، وهي زيادة طفيفة على أية حال وترجع لنمو أحجام التصدير بالأساس، كما ينبغي الإشارة هنا إلى أن تراجع سعر صرف العملة التركية، ترتب عليه حدوث زيادة أسعار مدخلات الإنتاج والسلع الوسيطة المستوردة، ومن ثم ارتفاع تكلفة إنتاج الصادرات التركية، وزيادة أسعارها بالأسواق الدولية.
ب- التعافي البطيء لأسواق الصادرات التركية: تتأثر أسواق الصادرات التركية حالياً بحالة من عدم اليقين الاقتصادي الناجمة عن تأثير تفشي سلالات متحورة جديدة من كورونا. وفي هذا الإطار يُلاحظ أن التأثير السلبي لجائحة "كوفيد -19"، أدى إلى تراجع الصادرات التركية بحوالي 7.6% عام 2020، على الرغم من استمرار تراجع سعر صرف الليرة.
ويعد النمو القوي للصادرات التركية في الشهور العشرة الأولى من العام الجاري، حيث سجلت نحو 181.6 مليار دولار وبزيادة بنسبة 33.9% على أساس سنوي، أمراً طبيعياً، حيث تعوض ما فقدته أثناء العام الماضي بسبب الجائحة.
ج- دور الصادرات في دفع النمو: تظل مساهمة الصادرات التركية في دعم النمو الاقتصادي محدودة قياساً على المتغيرات الأخرى، حيث إن مساهمة الصادرات في الناتج المحلي الإجمالي لتركيا قد بلغت 23.4% خلال عام 2020، مقارنة بمساهمة الإنفاق الاستهلاكي والتي بلغت حوالي 72% خلال العام نفسه؛ مما يشير إلى أن التأثير الإيجابي للاستهلاك على النمو الاقتصادي، يفوق، التأثير الإيجابي الناتج عن زيادة الصادرات.
2- التأثير على السياحة: يتضح من شكل (2) أن تراجع سعر الصرف خلال الفترة (2016 – 2020)، تواكب معه ارتفاع الإيرادات السياحية التركية خلال الفترة بحوالي 59% لتصل ذروتها في عام 2019 عند 29.8 مليار دولار، وذلك وفقاً لبيانات منظمة السياحة العالمية، ثم تراجعت بنسبة 65% إلى أقل من 10.2 مليار دولار نتيجة قيود السفر والطيران خلال الجائحة في العام الماضي.
وعلى الرغم من ذلك، لا يمكن الجزم بأن انخفاض سعر الصرف كان السبب الرئيسي في تزايد الإيرادات السياحية، وذلك بالنظر إلى تزايد أعداد السائحين لتركيا في الفترة المذكورة، بالغة ذروتها في عام 2019 عند 51.7 مليون سائح، وبزيادة بنسبة 67% عن مستوى عام 2016.
وفي الوضع الراهن، يبدو من المغالاة الترويج لوجود علاقة إيجابية قوية بين انخفاض سعر الصرف، وانتعاش حركة السياحة لتركيا هذا بالنظر إلى الارتفاع القياسي لمعدل التضخم في تركيا والذي تخطى 20% في أكتوبر الماضي، والذي يعني ارتفاع تكاليف الرحلات وإقامة السياح بتركيا، مما قد يحد بشكل ملحوظ من الحركة السياحية الوافدة.
وبالإضافة لما سبق، توجد بعض العوامل الأخرى التي تؤثر على حركة السياحة إلى تركيا، حيث قد يتلاشى تأثير انخفاض قيمة العملة نهائياً في ظل قيود السفر التي فرضتها الجائحة، فحتى وقت قريب كانت تركيا ضمن القائمة الحمراء للسفر بالنسبة لبعض الدول مثل بريطانيا، أو فُرِض حظر على رحالات الطيران إليها من قِبل دول أخرى مثل روسيا. ومع الأخذ في الاعتبار أن الوافدين من تلك الدول يُشكلون نسب كبيرة من السياح الوافدين إلى تركيا. ومن ثم، يمكن القول إن التطورات العالمية المتعلقة بقيود السفر والطيران، هي العامل الحوهري الأكتر تأثيراً على السياحة التركية في التوقيت الراهن، بخلاف العوامل الأخرى.
3- التأثير المتوقع على الاستثمار الأجنبي المباشر: يرى الرئيس التركي أن توفير تسهيلات ائتمانية رخيصة للمنتجين والمستثمرين، من خلال الإبقاء على سعر الفائدة منخفضاً، سيساعد في تشجيع الاستثمارات، غير أن توفير الائتمان ليس العامل الأوحد بطبيعة الحال المؤثر على بيئة الاستثمار في تركيا، والتي تعاني صعوبات جمة على النحو التالي:
أ- عدم اليقين الاقتصادي: ارتفعت درجة عدم اليقين بشأن مستقبل الاقتصاد التركي بسبب تدخلات الرئيس التركي المستمرة في السياسة النقدية، وما واكبها من التدهور المستمر لسعر الصرف، هذا بالإضافة إلى تدهور معنويات المستهلكين وتراجع قوتهم الشرائية؛ مع ارتفاع معدلات التضخم؛ مما زاد من أعباء الشركات من النفقات والديون، كما بات من الصعوبة اتخاذ قرارات استثمارية جديدة، في ظل عدم اليقين القائم.
ب- توقعات سلبية: من المتوقع أن يُسجل الاستثمار الأجنبي المُباشر صافي تدفق للخارج يبلغ نحو 5.8 مليار دولار خلال عام 2021، وفقاً لتقديرات صندوق النقد الدولي، على أن يصل صافي التدفق للخارج إلى 11 مليار دولار عام 2026، بما يُشير إلى ضعف جدوى السياسات الحالية التي تتبناها تركيا في جذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية خلال السنوات القادمة.
وختاماً، يمكن القول إن الحجة القائلة بأن الإبقاء على سعر الفائدة منخفضاً، سوف يصب في صالح دعم نمو الاقتصاد التركي وتنشيط الاستثمارات غير ممكنة في السياق التركي، بالنظر إلى المشاكل الاقتصادية الهيكلية التي يعانيها الاقتصاد ومنها تصاعد الضغوط التضخمية، والاعتماد الكبيرة على استيراد مدخلات الإنتاج، ومن ثم استمرار عجز الميزان التجاري، ومما يعني أن تلك السياسية تفرض على الاقتصاد التركي خسائر تفوق كثيراً حجم مكاسبها المنتظرة.