تصاعدت في الآونة الأخيرة حدة الصراع الداخلي في إثيوبيا، لاسيما مع اقتراب جبهة تحرير شعب تيجراي من السيطرة على العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، وإعلان حكومة آبي أحمد حالة التعبئة العامة منذ أغسطس 2021؛ الأمر الذي ينذر بإطالة أمد الصراع الإثيوبي وتعقد أكبر في الأزمة الإثيوبية، بل ويهدد وحدة الدولة الإثيوبية ذاتها، وعلى نحو يفاقم من مجمل الأوضاع الاقتصادية في إثيوبيا. ويركز هذا التحليل على التكلفة الاقتصادية للحرب في إثيوبيا، وانعكاساتها المباشرة وغير المباشرة على الاقتصاد الإثيوبي.
تقويض نموذج النمو:
مع استمرار الصراع الداخلي الدائر في إثيوبيا منذ عدة أشهر، تفاقمت الأوضاع الاقتصادية في البلاد، حتى باتت تكلفة هذه الحرب عبئاً ثقيلاً على الاقتصاد، خاصة أنها جاءت بعد فترة من الركود الاقتصادي عانته الاقتصادات العالمية كافة جراء أزمة كوفيد-19. وقد تراجعت توقعات المؤسسات الدولية بشأن معدلات النمو الاقتصادي في إثيوبيا، لتبلغ 2% فقط في عام 2021، وفقاً لتقديرات البنك الدولي، بعد أن كانت 6% في العام السابق للأزمة.
ووصل المتوسط السنوي للنمو الاقتصادي لإثيوبيا أكثر من 10% خلال الفترة (2004-2014)، وذلك في ضوء برنامج الإصلاح الاقتصادي الإثيوبي، لتصبح إثيوبيا طوال هذه السنوات مثالاً أو نموذجاً للتعافي الاقتصادي في أفريقيا، وواحدة من أسرع الاقتصادات الأفريقية نمواً حتى عام 2019.
أما صندوق النقد الدولي فقد ذهب في تقريره عن آفاق الاقتصاد العالمي إلى أنه لا يمكن تقدير توقعات دقيقة لنمو الاقتصاد الإثيوبي خلال الفترة (2022 - 2026)؛ بسبب عدم استقرار الأوضاع في البلاد، بعد أن توقع في السابقً تعافي الاقتصاد الإثيوبي من أزمة كورونا، وتسجيل نمو بنسبة 8% في عام 2022.
ولا شك أن التطورات السياسية والأمنية الأخيرة في إثيوبيا أدت إلى تدهور اقتصادي سريع لم ينعكس فقط في تباطؤ معدلات النمو الاقتصادي، بل ظهر كذلك في مؤشرات الأداء الاقتصادي الداخلي والخارجي لإثيوبيا، وتدهور في مستويات المعيشة لمواطنيها.
انعكاسات إنسانية:
عانى مواطنو إثيوبيا بصورة مباشرة آثار الحرب الأهلية الأخيرة، خاصة في إقليم تيجراي، الذي فرضت الحكومة الإثيوبية عليه حصاراً واسعاً منذ بداية الصراع، على نحو أدى إلى معاناة أكثر من مليون إثيوبي في الإقليم بسبب انعدام الأمن الغذائي. كما أصبح هناك حوالي 2.5 مليون إثيوبي في تيجراي في حاجة لأشكال المساعدات الإنسانية كافة، علاوة على أكثر من 18.6 ألف طفل في الإقليم بحاجة للعلاج بسبب أمراض تتعلق بسوء التغذية الحادة، فضلاً عن نقص الخدمات والإمدادات الأساسية، مثل الكهرباء والوقود وانقطاع الاتصالات.
كذلك خلفت الحرب في إثيوبيا خسائر بشرية فادحة تمثلت في سقوط آلاف القتلى وتشريد الملايين، وارتفع عدد النازحين جراء الأزمة، وفقاً لتقديرات منظمة الزراعة والغذاء "الفاو"، إلى أكثر من 2.1 مليون شخص، وقدرت حجم المساعدات الإنسانية العاجلة التي تحتاجها إثيوبيا للخروج من هذه الأزمة بحوالي 30 مليون دولار.
كما قدرت الأمم المتحدة عدد اللاجئين الإثيوبيين جراء الصراع بأكثر 47 ألف لاجئ فروا إلى السودان. ويعاني حوالي 96 ألفاً من اللاجئين الاريتريين في إثيوبيا من نفاذ الطعام، خاصة أن مخيمات إقامتهم كانت في إقليم تيجراي بصورة أساسية.
وعلى هامش الاضطرابات الراهنة في إثيوبيا، ارتفع عدد المصابين بوباء كوفيد-19 بصورة متسارعة في الفترة الأخيرة، خاصة مع تراجع الخدمات الصحية الأساسية في الكثير من الأرجاء وتدمير عدد كبير من المراكز الصحية وبعدد أكثر من 1400 مركز، وفقاً لوزارة الصحة الإثيوبية. وارتفع عدد الإصابات بكوفيد-19 خلال الشهور الأخيرة في إثيوبيا لتتجاوز 370.3 ألف إصابة، وفقاً لمنظمة الصحة العالمية.
أضرار واسعة:
بالرغم من عدم وجود بيانات أو مؤشرات مُعلنة عن التكلفة الاقتصادية المباشرة للحرب الدائرة بين الجيش الإثيوبي وجبهة تحرير شعب تيجراي، فإنه يمكن استخلاص عدد من التداعيات لهذا الصراع على الاقتصاد الإثيوبي، وذلك على النحو التالي:
1- استنزاف الميزانية الإثيوبية: قدّر الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، أن الصراع الإثيوبي قد استنزف مليار دولار من ميزانية البلاد حتى أغسطس 2021، ويتضمن ذلك بطبيعة الحال نفقات التسليح والتجهيز العسكري للحرب. وجدير بالذكر أن مخصصات النفقات العسكرية في إثيوبيا بلغت حوالي 460 مليون دولار في عام 2020، وفقاً لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام.
2- تباطؤ النمو الاقتصادي: انعكس الصراع المستمر منذ شهور على العديد من مؤشرات الاقتصاد الكلي في إثيوبيا. فمن المتوقع أن يتباطأ معدل النمو الاقتصادي الإثيوبي إلى أقل من 2% في العام الحالي، وهو أدنى مستوى متوقع للنمو الاقتصادي تحققه إثيوبيا منذ أكثر من عقدين. ولا يقتصر التأثير الاقتصادي للحرب الأخيرة على إقليم تيجراي فقط، بل تمتد تأثيرها لأقاليم البلاد كافة، وقطاعات الاقتصاد الإثيوبي كافة، بما في ذلك الزراعة، والتعدين، والصناعات التحويلية.
3- انخفاض سعر الصرف: نتيجة لتفاقم الأوضاع الاقتصادية، اتخذ البنك المركزي الإثيوبي في أغسطس 2021 قراراً بتجميد المعاملات كافة الخاصة بالقروض والتحويلات، بالإضافة إلى إيقاف تغطية عمليات الاستيراد المباشر من الخارج، وهو ما ساهم بصورة كبيرة في تفاقم أزمة سوق الصرف في إثيوبيا وعدم توافر النقد الأجنبي. وبالتالي انخفض سعر الصرف الرسمي وكذلك سعر عملة في السوق الموازي بصورة كبيرة، حيث وصل سعر الصرف الرسمي إلى حوالي 45 براً إثيوبياً للدولار الأمريكي الواحد بعد أن كان 35 براً للدولار في العام السابق للصراع، فيما تخطى بالسوق الموازي نحو 75 براً للدولار الواحد خاصة مع إعلان الحكومة الإثيوبية التعبئة العامة للقتال ضد جبهة تحرير شعب تيجراي.
4- ارتفاع معدل التضخم: ارتفع معدل التضخم السنوي في إثيوبيا من 18% قبل حرب تيجراي إلى نحو 34.2% في أكتوبر الماضي، فيما بلغ معدل تضخم أسعار السلع الغذائية 40.7% وهو المعدل الأعلى منذ أكثر من 10 سنوات؛ على نحو يهدد بشكل مباشر مستويات المعيشة والأمن الغذائي لمواطني إثيوبيا، خاصة في ظل ارتفاع معدلات الفقر، والبطالة التي تتخطى أكثر من 17%.
ويمكن إرجاع ارتفاع معدلات التضخم بصورة كبيرة في إثيوبيا إلى توسع الحكومة في الإنفاق العسكري وما ترتب عليه من ارتفاع في عجز الموازنة العامة للدولة، مقابل انخفاض حجم الإيرادات الضريبية إلى أقل من 9% من الناتج المحلي الاجمالي، بالإضافة إلى تأثير الظروف الأمنية على الإنتاج الزراعي والصناعي بالبلاد، وما ترتب عليه من عجز الإمدادات من السلع الأساسية.
5- خروج الاستثمارات الأجنبية: أدت الحرب الحالية إلى عزوف المستثمرين عن السوق الإثيوبي، خاصة مع تفاقم الأوضاع الأمنية والسياسية في البلاد خلال الفترة الأخيرة. وكانت الاستثمارات في إقليم تيجراي الأكثر تضرراً من بين الأقاليم الإثيوبية الأخرى، حيث شهد هذا الإقليم إغلاق العديد من المصانع ومواقع التعدين به، وامتد ذلك ليشمل الأقاليم الإثيوبية كافة في الأشهر الأخيرة.
وأغلقت شركات عالمية عدة منشآتها في إثيوبيا خلال الفترة الماضية ومن بينهاً شركة تصنيع الملابس الأمريكية "بي في إتش" (PVH Corp)، والتي تعتبر واحدة من أكبر المنشآت الموجودة بالمنطقة الصناعية النموذجية في مدينة هواسا الإثيوبية، وهو القرار الذي حفزه تعليق الإدارة الأمريكية عضوية إثيوبيا في برنامج التجارة (قانون النمو والفرص في أفريقيا "أجوا")؛ بسبب ارتكاب انتهاكات إنسانية جسيمة في الصراع الحالي.
ويُذكر أيضاً أن الحكومة الإثيوبية جمدت بيع رخصة ثانية للاتصالات لشركات أجنبية، بينما كانت منحت رخصة اتصالات لتحالف يضم شركة "فودافون" العالمية في مايو الماضي، ولكن ليس من المؤكد أنه سينجح في ممارسة أنشطته بشكل فعال؛ وذلك بسبب ظروف عدم الاستقرار في البلاد.
6- تراجع الصادرات الإثيوبية: أثر الصراع الدائر أيضاً بشكل مباشر على حركة التجارة الخارجية الإثيوبية. وتخسر إثيوبيا شهرياً نحو 20 مليون دولار من عائدات التصدير مع إغلاق المنشآت الصناعية في إقليم تيجراي، وفقاً لتقديرات سابقة لوزارة التجارة والصناعة الإثيوبية، وذلك ما يعادل إيرادات سنوية بنحو 7.3 مليار دولار. وجدير بالذكر أن أكثر من 85% من التجارة الخارجية لإثيوبيا تمر عبر ميناء جيبوتي.
7- التخلف عن سداد الديون: تشير العديد من المؤشرات إلى أنه في حالة استمرار الحرب الحالية قد يفقد الاقتصاد الإثيوبي قدرته على سداد ديونه الخارجية المستحقة، خاصة مع ارتفاع سقف ديون الحكومة الإثيوبية في السنوات الأخيرة؛ بسبب الاستدانة لتمويل مشروعات البنية التحتية.
وفي أكتوبر الماضي، خفضت وكالة "موديز" التصنيف الائتماني لإثيوبيا إلى Caa2، في مؤشر يوضح تدهور المؤشرات الاقتصادية للبلاد، وتصاعد المخاوف حول تعثر الدولة وعدم قدرتها على سداد ديونها.
وكانت الحكومة الإثيوبية قد طالبت البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، في فبراير الماضي، بمساعدتها في تخفيف ديونها بموجب بروتوكول وبرنامج أقرته قمة دول العشرين يهدف إلى مساعدة الاقتصاد الإثيوبي بسبب ما لحق به من ضرر إزاء أزمة كوفيد-19.
8- تجميد المساعدات الدولية: خسرت إثيوبيا بعض المساعدات التي كان يقدمها لها بعض شركائها الغربيين مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. فقد علق الاتحاد الأوروبي أموالاً تُقدر بنحو 88 مليون يورو (107 ملايين دولار) كمساعدات لدعم الميزانية الإثيوبية بسبب الصراع الحالي. ويمثل حجب المساعدات الدولية خسارة كبيرة لإثيوبيا، حيث كانت تعتمد عليها في تمويل المشاريع التنموية المختلفة في البلاد.
تأثيرات مستقبلية:
تهدد الأزمة السياسية والأمنية الحالية ليس فقط المستقبل الاقتصادي لإثيوبيا، وإنما وحدة الدولة وبقاؤها خاصة في ظل استمرار الأزمة لفترة طويلة وتعقد وتشابك أبعادها مع وصول مقاتلي جبهة تحرير شعب تيجراي إلى حدود العاصمة أديس أبابا. ولعل أي حديث عن التكلفة الاقتصادية لهذه الحرب قد يكون غير دقيق على نحو كبير، خاصة في ظل عدم وجود بيانات رسمية من الحكومة الإثيوبية عن إجمالي ما تم إنفاقه على جوانب التسليح أو حالة التعبئة العامة التي فرضتها الحكومة مؤخراً.
ولكن تشير العديد من المؤشرات والدلائل عن التكلفة الاقتصادية الباهظة لتلك الحرب ليس فقط على المدى القصير والمتمثل في حجم الإنفاق العسكري، وإنما في الأجل المتوسط والطويل مع تأزم الأوضاع الاقتصادية في إثيوبيا، وانخفاض تدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة إليها، وتراجع سعر الصرف، وتباطؤ أو حتى توقف معدلات تنفيذ المشروعات القومية في البلاد.
بل إن الصراع الدائر يهدد استدامة الاقتصاد الإثيوبي مع تزايد المخاوف حول قدرة الدولة على سداد مديونيتها المتفاقمة. ولا يقتصر الأمر فقط على الخسائر الاقتصادية المباشرة، وإنما يتعدى ذلك إلى الخسائر البشرية والتأثيرات الواضحة على مؤشرات التنمية الاقتصادية والبشرية في البلاد، خاصة مع تدهور الأمن الغذائي، وتزايد معدلات التضخم والبطالة، وتدهور خدمات الصحة والتعليم؛ نتيجة الأوضاع الأمنية المتأزمة، بالإضافة إلى أزمة النازحين واللاجئين المتفاقمة في إثيوبيا.
ويبدو أن خروج إثيوبيا من المأزق الاقتصادي الراهن مرتبط بشكل أساسي بعودة حالة الاستقرار السياسي والأمني في البلاد والتي تعد شرطاً ضرورياً لاتخاذ ما يلزم لتعديل الأوضاع الاقتصادية المضطربة. وبعد انتهاء الحرب الحالية، قد يتطلب التعامل مع تلك الخسائر تبني الحكومة الإثيوبية استراتيجية وطنية تقوم على ثلاثة محاور رئيسية؛ حيث يقتضي أولها تقديم برامج دعم مباشر وإعانات عاجلة إلى الفئات الأكثر تضرراً من الحرب، وذلك بالتعاون مع المؤسسات الدولية العاملة بالفعل في إثيوبيا.
ويتمثل ثانيها في التفاوض مع المؤسسات والجهات المانحة لتنفيذ برنامج لإعادة هيكلة القروض الخارجية للدولة الإثيوبية وإعادة جدولتها بصورة تتلاءم مع الظروف الاقتصادية الحالية. ويتعلق ثالث المحاور بإجراء إصلاحات مالية ونقدية تهدف إلى علاج التشوهات الاقتصادية التي لحقت بالاقتصاد الإثيوبي، وذلك بالتركيز على جانبين رئيسيين؛ وهما علاج العجز المتزايد في الموازنة العامة من خلال ترشيد الإنفاق العسكري وإعادة تعبئة الموارد الوطنية إلى القطاعات ذات الأولوية، وكذلك علاج التشوهات التي حدثت في سوق الصرف والتي أثرت بصورة مباشرة على معدلات التضخم في البلاد.