قام رئيس المجلس العسكري الانتقالي التشادي، محمد إدريس ديبي، بزيارة رسمية إلى تركيا في 27 أكتوبر الماضي، تلبيةً لدعوة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، حيث أعلن الأخير أن بلاده مستعدة لتطوير التعاون العسكري والأمني مع نجامينا، والتي تواجه تهديدات كبيرة من قبل العديد من التنظيميات الإرهابية وجماعات المعارضة المسلحة.
مشهد أمني مضطرب
تأتي زيارة ديبي إلى تركيا في إطار العديد من التطورات الأمنية، الداخلية والإقليمية، التي تمثل تهديداً لتشاد، ويتمثل أبرزها فيما يلي:
1- مشهد داخلي ملتبس: تعاني السلطة الانتقالية بقيادة محمد إدريس ديبي تحديات سياسية وأمنية واقتصادية هائلة، ففي حين وافقت قوى المعارضة التقليدية المعروفة باسم "واكت تاما" على خريطة الطريق، التي طرحها محمد ديبي، وتم بموجبها الاتفاق على تشكيل حكومة مؤقتة تدير البلاد لفترة انتقالية لا تزيد على 18 شهراً مع التزام محمد ديبي بعدم الترشح للانتخابات القادمة، فإن قوى أخرى من المعارضة رفضتها.
كما سعى ديبي للتواصل مع حركات التمرد المسلحة عبر مبادرة "حوار وطني شامل"، وهي الجهود التي لم تلق نجاحاً حتى الآن، وهو ما ينذر باستمرار التحديات الأمنية النابعة من هذه الجماعات خلال الفترة القادمة.
2- تدهور الأوضاع الإقليمية: تعاني تشاد محيطاً إقليمياً مضطرباً، إذ تعاني الحدود بين شمال تشاد وليبيا سيولة أمنية، تستغلها جماعات المعارضة المسلحة لتهديد شمال البلاد. وتتأرجح العلاقات بين تشاد والسودان بين التعاون والتوتر في السنوات الأخيرة.
كما أن التطورات السياسية الأخيرة التي شهدتها السودان قد تنذر بحالة من عدم الاستقرار هناك قد تمتد تداعياتها إلى تشاد. أما الحدود الغربية والجنوبية للبلاد فهي منفتحة على منطقة الساحل الأفريقي، والذي يشهد في الآونة الأخيرة تصاعداً واضحاً في نشاط التنظيمات الإرهابية.
3- تنافس إقليمي ودولي متصاعد: تشهد منطقة الساحل والصحراء، بما في ذلك تشاد، تصاعداً ملحوظاً في التنافس الدولي والإقليمي، فبعدما ظلت نجامينا طيلة العقود الماضية الحليف الأبرز لفرنسا، شهدت الفترة الأخيرة بوادر تصدعات نسبية بين فرنسا والسلطات الراهنة في تشاد، خاصة في ظل انفتاح تشاد على روسيا مؤخراً.
وبات هذا التطور يقلق فرنسا بشكل كبير، خاصة بعدما اتجهت مالي إلى رفض الضغوط الفرنسية، وأصرت على التعاون مع شركة فاجنر العسكرية الروسية، وذلك لمساعدة باماكو على محاربة التنظيمات الإرهابية تحسباً لتقليص فرنسا وجودها العسكري في مالي.
دوافع الزيارة الأخيرة
شهدت الأسابيع الأخيرة محاولات تركية لتعزيز العلاقات مع تشاد، وقد توجت هذه المساعي باللقاء الذي جمع السفيرين التركي والتشادي في أنقرة منتصف أكتوبر 2021، حيث تم الاتفاق على تعزيز التعاون الثنائي في عدة مجالات. وتعد زيارة ديبي إلى تركيا هي الأولى من نوعها لرئيس المجلس العسكري الانتقالي منذ توليه السلطة في أبريل الماضي، وفي هذا الإطار يمكن توضيح دوافع كلا البلدين على النحو التالي:
1- مخاوف أمنية في تشاد: فثمة قلق متنامٍ لدى تشاد وبقية دول الساحل والصحراء من التداعيات المحتملة لتقليص الوجود الفرنسي في المنطقة، في ظل استعداد باريس لإنهاء عملية برخان وتخفيض عدد قواتها الموجودة في المنطقة، بما يعنيه ذلك من تصاعد وتيرة العمليات الإرهابية للجماعات المرتبطة بداعش والقاعدة.
وقد دفع هذا التطور بعض دول المنطقة إلى محاولة البحث عن بدائل يمكن الاعتماد عليها خلال المرحلة المقبلة لسد الفراغ الأمني الذي ستخلفه فرنسا. وأشارت العديد من التقارير إلى وجود مفاوضات قائمة بين نجامينا وأنقرة لبحث تعاون عسكري أكبر خلال الفترة المقبلة، ربما يتضمن إبرام صفقة لشراء طائرات مسيرة تركية.
2- محاولة تحجيم التمرد المسلح: عمد ديبي إلى التقارب مع تركيا، وقبلها قطر في زيارته إلى الدوحة في سبتمبر الماضي، لمحاولة إقناعهما للضغط على الجماعات المتمردة التي تدعمها تركيا وقطر، وفي مقدمتها "جبهة التغيير والوفاق "فاكت"، و"اتحاد قوى المقاومة" (مقره في الجنوب الليبي)، فضلاً عن "اتحاد القوى من أجل الديمقراطية والتنمية" والذي انتقل من دارفور السودانية إلى جنوب ليبيا.
ولذلك، يتوقع أن يكون ديبي قد سعى للتوصل لتفاهم مع أنقرة على وقف، أو على الأقل تحجيم، أي مساندة من قبل أنقرة لهذه العناصر حتى لا تشن أي هجوم جديد على العاصمة التشادية، خاصةً أن ثمة محاولة كانت قد دعمتها قطر في أبريل 2017 للاستيلاء على الحكم في نجامينا، قبل أن تتدخل فرنسا وتقوم بقصف قوافل الحركات المتمردة.
3- فتح أسواق جديدة للسلاح التركي: هناك محاولات مكثفة من قبل تركيا لتسويق صناعاتها العسكرية في الأسواق الأفريقية بصورة أساسية. ولعل هذا ما تجسد بوضوح في صفقات المسيرات التي تم الإعلان عن احتمالية عقدها مع كل من إثيوبيا والمغرب وغيرها من الدول الأفريقية، وبالتالي تحاول أنقرة استغلال الاضطرابات الأمنية المتفاقمة في القارة الأفريقية لإيجاد أسواق جديدة تستوعب صادراتها العسكرية.
4- تعزيز الاقتصاد التركي المتعثر: تسعى أنقرة للبحث عن منافذ خارجية لتعزيز وضعية اقتصادها المتدهور، خاصةً في ظل الثروات المعدنية الهائلة التي تمتلكها تشاد (النفط واليورانيوم والذهب وغيرها من المعادن)، فضلاً عن الثروات الحيوانية والزراعية.
وقد برزت الأهداف الاقتصادية لتركيا في تصريحات الرئيس التركي الذي أشار إلى أن بلاده تسعى إلى زيادة حجم التبادل التجاري مع تشاد إلى 500 مليون دولار مقابل 112 مليون دولار حالياً. ويبدو أن تشاد تجاوبت مع بعض هذه الأهداف، إذ أعلن ديبي عن توقيع بلاده عدداً من اتفاقيات التعاون مع تركيا في عدة مجالات مختلفة.
انعكاسات إقليمية محتملة
في إطار المتغيرات السابقة، يمكن الإشارة إلى جملة من الدلالات المهمة التي تعكسها مؤشرات التقارب بين تركيا وتشاد، يمكن توضيح أبرزها في العناصر التالية:
1- تهديد النفوذ الفرنسي: يعكس الانخراط التركي في تشاد محاولة أنقرة منافسة النفوذ الفرنسي في منطقة الساحل، ولعل ما يعزز هذا الطرح هو إعلان الخارجية التشادية أن أنقرة سوف تقدم دعماً مالياً بقيمة 5 ملايين دولار لمجموعة دول الساحل الخمس في دعم جهود هذه الدول في مكافحة الإرهاب.
وقد تسعى تركيا إلى طرح نفسها كبديل للدور الفرنسي المتراجع في هذه المنطقة، والتعويل على فكرة احتمالية القبول الأوروبي والأمريكي لهذا الدور كثقل موازن لروسيا. كما تستخدم أنقرة علاقاتها بدول الساحل كوسيلة لتصفية الحسابات مع باريس، فقد أعلنت تركيا نيتها التعاون مع مالي في مجال الصناعات الدفاعية، وذلك رداً على اتفاقية الشراكة الاستراتيجية التي أبرمتها فرنسا مع اليونان، والتي اعتبرتها تركيا تهديداً لها.
2- امتلاك أوراق للمساومة مع روسيا: تتمدد روسيا في منطقة الساحل الأفريقي، وتستفيد في ذلك من تراجع الدور الفرنسي، وتراجع الاهتمام الأمريكي بهذه المنطقة لصالح جنوب شرق آسيا. ومن ثم، ربما تصبح منطقة الساحل ساحة جديدة للتنافس بين أنقرة وموسكو، وورقة جديدة تضاف لأوراق المقايضة بينهما، خاصة مع تعدد الملفات الخلافية بينهما.
3- محاولة إقامة قاعدة عسكرية: أشارت العديد من التقارير إلى وجود مساعٍ تركية لإنشاء قاعدة عسكرية لها في منطقة الساحل الأفريقي. وكان التركيز، في بداية الأمر، منصباً على النيجر، والتي وقعت معها أنقرة اتفاقية تعاون عسكرية في يوليو 2020. بيد أن تحوّل نيامي إلى نقطة الارتكاز الرئيسية للاستراتيجية الفرنسية الجديدة في المنطقة، دفع أنقرة للبحث عن بديل آخر، وتشير بعض التقديرات إلى أن تشاد ربما تمثل الوجهة الجديدة لتركيا.
4- تعويض الإخفاقات التركية المحتملة: يبدو أن أنقرة تسعى إلى تعزيز دورها في أفريقيا بعد وجود مؤشرات على إمكانية خسارة نفوذها في سوريا وليبيا، خاصة مع حرص موسكو على تعزيز قدرة الحكومة السورية على استعادة سيطرتها على أغلب الأراضي السورية، بما يهدد مناطق سيطرة الجماعات المسلحة الموالية لتركيا في شمال سوريا. كما أن إجراء انتخابات في ليبيا، سواء في أواخر عام 2021، أو مطلع العام القادم، وانتخاب حكومة شرعية قد يهدد النفوذ التركي كذلك، خاصة إذا ما اتجهت الحكومة الجديدة إلى مطالبة تركيا بالانسحاب من الأراضي الليبية.
وفي الختام، فإن زيارة ديبي الأخيرة لتركيا تعكس محاولة تحجيم التحركات التركية السلبية تجاه تشاد، بالتزامن مع محاولات فرنسا تقليص دورها العسكري في منطقة الساحل، بينما تسعى أنقرة، في المقابل، إلى تعزيز دورها العسكري والاقتصادي مع الدول الأفريقية، في محاولة لتعويض أي انتكاسة محتملة لنفوذها في سوريا، أو ليبيا، وإيجاد أسواق جديدة لمنتجاتها العسكرية.