تهدد الاحتجاجات الشعبية والسياسية التي اندلعت في شرق السودان، منذ 17 سبتمبر الماضي، بتفاقم مشاكل الاقتصاد السوداني، حيث تحاصر مجموعات سياسية، رافضة لمسار السلام المطروح من قبل الحكومة السودانية لتسوية أوضاع إقليم، ميناء بورتسودان، وهو المنفذ البحري الرئيسي للسودان، وتقطع الطرق المؤدية منه إلى أنحاء البلاد كافة، وعلى نحو يُعطل حركة الصادرات والواردات في البلاد، وما يفرضه ذلك من آثار سلبية أخرى على غرار انخفاض تدفقات النقد الأجنبي وتدهور العملة وارتفاع التضخم.
جذور الأزمة:
تعود جذور أزمة محاصرة ميناء بورتسودان إلى اعتبارات متداخلة، تتخطى العامل الراهن المتمثل في مسار السلام المطروح من قبل الحكومة في العام الماضي، ويتضح ذلك على النحو التالي:
1- تهميش شرق السودان: تعاني منطقة شرق السودان، والتي تضم ولايات البحر الأحمر وكسلا والقضارف، فجوة تنمية كبيرة مقارنة بباقي مناطق البلاد الأخرى، وهي من بين أكثر المناطق فقراً في السودان. ويشعر سكان إقليم الشرق، فيما يبدو، بالتهميش الاقتصادي على الرغم من الأهمية الحيوية للمنطقة للاقتصاد السوداني.
وتمثل المنطقة البوابة التجارية الرئيسية للسودان والممر الرئيسي للسلع الرئيسية بما فيها النفط. ويرى سكان إقليم شرق السودان أن حصار ميناء بورتسودان ليس مكلفاً بالنسبة لهم، مقارنة بحجم الأضرار الواسعة التي ستتكبدها الحكومة المركزية وباقي مناطق السودان.
2- رفض نظارات البجا العملية السياسية: يلعب المكون السياسي بإقليم شرق السودان دوراً جوهرياً في تأجيج الاحتجاجات الأخيرة، حيث تبدو بعض الجماعات السياسية بالإقليم غير راضية عن العملية السياسية برمتها منذ إزاحة الرئيس السوداني السابق عمر البشير.
ويأتي على رأس تلك الجماعات المجلس الأعلى لنظارات "البجا"، برئاسة الأمين ترك، وهو عضو في حزب المؤتمر الوطني المنحل. وتطالب بإلغاء الوثيقة الدستورية التي تحكم الفترة الانتقالية الحالية في البلاد، وحل الحكومة المركزية واللجنة الوطنية المكلفة بتفكيك نظام الإخوان، حتى أن هذه المجموعة هددت بإعلان حكومة مستقلة في الإقليم في حال عدم الاستجابة لمطالبهم.
3- الصراع بين قبائل بجا وخصومهم: تحتضن منطقة شرق السودان قبيلتين رئيسيتين، وهما من قبائل "البجا"، وهم أغلبية السكان، الرافضون لاتفاق مسار الشرق ضمن اتفاق جوبا للسلام الموقع مع الحكومة السودانية في أكتوبر 2020، والثانية من أصول عربية، على رأسها قبيلة "البني عامر"، المؤيدة لنتائج الاتفاق، كما يضم شرق السودان كذلك قبيلة "النوبة". ويعود رفض "البجا" إلى مزاعم بأن الموقعين على الاتفاق لا يمثلون أطياف شرق السودان كافة، لأن من وقع عليها هم منافسوهم على سيادة المنطقة، وهم البني عامر.
4- تفضيل البجا التفاوض مع المكون العسكري: يمثل اتفاق تقاسم السلطة المبرم في أغسطس 2019، الركيزة الرئيسية لإدارة عملية الانتقال السياسي في السودان، فبموجبه تم تشكيل حكومة انتقالية مؤلفة من ممثلين مدنيين وعسكريين لمدة 39 شهراً، ومكلفة بالإشراف على عودة الحكم المدني الكامل، غير أنه بموجب اتفاق السلام الموقع في أكتوبر 2020، تم إلغاء الجدول الزمني لتسليم السلطة، وترك الميعاد مفتوحاً.
وتسبب ذلك في تصاعد التوتر بين المكونين العسكري والمدني الحاكمين للسودان، وما صاحب ذلك من حدوث انشقاقات بين أعضاء الحكم، بالإضافة إلى تأجيج الاحتجاجات الشعبية في أنحاء السودان كافة مؤخراً. ووسط ذلك الاضطراب، تميل الجماعات السياسية في شرق السودان للتفاوض مع المكون العسكري في الحكومة، ما يصعب الوصول إلى اتفاق مع سلطة يترأسها مدني مستقبلاً.
تأثيرات اقتصادية
يفرض استمرار حصار ميناء بورتسودان أعباءً إضافية على الاقتصاد السوداني، يمكن توضيحها على النحو التالي:
1- شح السلع الأساسية: كلما امتد حصار ميناء بورتسودان، كلما أدى ذلك إلى تفاقم خسائر حركة الصادرات والواردات للبلاد. وقد أدت الأزمة في الأسابيع الماضية إلى حدوث اختناقات كبيرة في توريد الوقود والقمح والأدوية للسودان، وسينتج عن ذلك بلا شك مشاكل أخرى مثل عجز توليد الكهرباء، وانعدام الأمن الغذائي وغيرها.
2- فقدان عائدات التصدير: تقدر الحكومة السودانية أن خسائر صادرات البلاد نتيجة حصار ميناء بورتسودان بلغت نحو 83 مليون دولار حتى 18 أكتوبر الجاري، أي بمتوسط قدره 2.7 مليون دولار يومياً، يضاف إلى ذلك فقدان عائدات إيرادات تشغيل الميناء، وغيرها بقيمة 120 مليون جنيه سوداني (أي ما يعادل نحو 270 ألف دولار)، وليصبح مجموع الخسائر نحو 83.2 مليون دولار.
ومن المرشح أن تتفاقم خسائر عائدات الصادرات السودانية مع استمرار إغلاق الميناء، حيث إن موسم الصادرات الرئيسي في السودان يبدأ في نوفمبر المقبل. وبشكل عام، تمثل الصادرات، المنقولة براً وبحراً، نحو 22% من الناتج المحلي السودان البالغ حوالي 26.11 مليار دولار في 2020. ومن ثم فإن تعطل الصادرات يمثل ضغطاً قوياً على الاقتصاد السوداني المتراجع بفعل الانقسامات والاضطرابات والعقوبات على مدار عقود.
3- ارتفاع التضخم: قررت الحكومة السودانية، للتخفيف من حدة الأزمة على الاقتصاد السوداني، تغيير مسار الشحنات المتجهة إلى بورتسودان إلى موانئ دول الجوار، خصوصاً مصر وإريتريا، ما سيعمل في النهاية على تأمين الاحتياجات الأساسية للشعب السوداني، بما في ذلك القمح والوقود والأدوية. ولكن سيضيف ذلك تكاليف إضافية لسلسة توريد السلع للسوق السوداني، والتي تأتي وسط استمرار الضغوط التضخمية بالبلاد في الأشهر الماضية.
وبلغ معدل التضخم السنوي، في سبتمبر الماضي، نسبة 365.82% لشهر سبتمبر 2021، ومقارنة بــــ 387.56% لشهر أغسطس 2021. وكان صندوق النقد الدولي قد توقع في يوليو الماضي توالي انخفاض معدلات التضخم السنوية في السودان لتصل إلى 10% بحلول عام 2023، غير أن تلك الاحتجاجات وتأثيراتها سوف تبقي على معدلات التضخم مرتفعة للغاية في الأشهر المقبلة على أقل تقدير.
4- تضرر بيئة الأعمال: سوف تتسبب الاحتجاجات الحالية في شرق السودان، وما يتصل بها من حصار ميناء بورتسودان، في تزايد حالة عدم اليقين السياسي والاقتصادي في البلاد، والتي ستضعف بدورها الثقة في المناخ الاستثماري في البلاد، رغم جهود الحكومة السودانية في الفترة الأخيرة لإجراء إصلاحات اقتصادية لجذب الاستثمارات الأجنبية في البلاد.
وبالأساس، تحل السودان في المرتبة 171 عالمياً من بين 190 دولة في مؤشر أداء الأعمال (Doing Business) لعام 2021 الصادر عن البنك الدولي. كما تعتبر الأسوأ عالمياً في المؤشرات الفرعية الأخرى، لاسيما مؤشر التجارة عبر الحدود، إذ تحتل المرتبة 185 عالمياً، وكذلك تتبوأ مرتبة متأخرة في مؤشر المدة التي يستغرقها المستثمرون لإتمام إجراءات ومستندات التصدير.
تفاهمات جزئية
يقود مجلس الحكم السيادي الانتقالي، بالتعاون مع بعض أعضاء الحكومة جهوداً سياسية لاحتواء أزمة حصار ميناء بورتسودان، وبدعم من القوى الدولية، ويتبين ذلك على النحو التالي:
1- مفاوضات مستمرة: يجري مجلس السيادة الانتقالي، بالشراكة مع بعض أعضاء الحكومة، مفاوضات مع قيادات "البجا" لفك حصار ميناء بورتسودان، وهو ما أسفر في أواخر سبتمبر الماضي عن التوصل لاتفاق على استئناف صادرات النفط القادمة من جنوب السودان لميناءي بشائر (1) و(2)، المتخصصان في نقل وتجارة النفط، والواقعان في شرق السودان. ويمثل ذلك الاتفاق أساساً جيداً يمكن البناء عليه لحلحلة الوضع الحالي، بعد التواصل مع الأطراف الغاضبة لتفاهمات سياسية واقتصادية تساعد على الخروج من المأزق الراهن.
2- دعم دولي: تدعم القوى الدولية الموقف الحكومي الساعي لإنهاء حصار ميناء بورتسودان ومرافق النقل في شرق السودان من أجل دعم الاستقرار السياسي والاقتصادي في السودان. وفي 8 أكتوبر الماضي، دعت دول الترويكا الثلاث الراعية لاتفاقية السلام في السودان، وهي بريطانيا والولايات المتحدة والنرويج، المحتجين السودانيين لإنهاء حصار ميناء بورتسودان، ما قد يحرك جهود التسوية لهذا الملف، والتي تأتي وسط جهود المؤسسات الدولية الأخرى مثل صندوق النقد الدولي لدعم الاستقرار السياسي في السودان من أجل تعزيز جهود الإصلاح الاقتصادي.
وفي الختام، يمكن القول إن فك حصار ميناء بورتسودان الحيوي يعتبر مسألة حيوية لضمان الاستقرار السياسي والاقتصادي في السودان، ويتطلب أولاً توحيد صفوف أعضاء مجلس السيادة الانتقالي والحكومة الحالية، من أجل التوصل سريعاً لصيغة متوازنة تراعي تلبية التطلعات السياسية والاقتصادية لإقليم شرق السودان، وضمان تشغيل المنشآت الحيوية بالمنطقة وعدم تكرار حوادث إغلاقها في المستقبل.