اجتمع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في 29 سبتمبر 2021، مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين، في مدينة سوتشي الروسية، وذلك للمرة الأولى منذ مارس 2020، واستغرق الاجتماع قرابة ثلاث ساعات. ولم يعقد أردوغان وبوتين في ختام الاجتماع مؤتمراً صحافياً مشتركاً، خلافاً للبروتوكولات التي يتبعها الكرملين في الزيارات المماثلة، كما لم يصدرا بياناً ختامياً يشير إلى التوصل إلى اتفاقات جديدة، في مؤشر على إدراك الكرملين محدودية التفاهمات التي تمت بين الجانبين.
دلالات التوقيت
تأتي الأهمية الخاصة لهذا اللقاء نظراً للسياقات الإقليمية والدولي التي سبقته، والتي تتمثل في التالي:
1- ضبط الخلافات في مناطق الصراعات: تصاعدت حدة المواجهات بين موسكو وأنقرة في سوريا، خاصةً في ظل الهجمات التي تشنّها روسيا وقوات النظام السوري على المقاتلين الموالين لتركيا في إدلب، حيث يضغط الكرملين لإخراج العناصر المتطرفة من هناك، فضلاً عن القوات الأجنبية كافة من سوريا، بما يشير ذلك ضمناً إلى القوات التركية، وهو ما عبّر عنه بوتين صراحة عبر التأكيد على ضرورة إخراج القوات التركية والأمريكية من سوريا.
كما تشهد ليبيا حراكاً متنامياً خلال الأسابيع الأخيرة استعداداً للانتخابات المرتقبة في نهاية ديسمبر المقبل، وعلى الرغم من الشكوك لا تزال تهيمن على مدى إمكانية إنجاز هذه الاستحقاقات، بيد أن تركيا وروسيا تسعيان إلى تنسيق تحركاتهما للحفاظ على مكتسباتهما هناك، ولا يختلف الأمر كثيراً فيما يتعلق بملف الصراع الأرميني – الأذربيجاني، والذي شهد بوادر لعودة التوتر مرة أخرى.
2- توتر العلاقات التركية – الأمريكية: تصاعد التوتر في العلاقات التركية – الأمريكية خلال الفترة الأخيرة، وهو ما وضح في تهديد الولايات المتحدة مؤخراً بفرض عقوبات جديدة على تركيا، حال قيامها بشراء دفعة جديدة من نظام الدفاع الجوي الروسي "إس – 400"، مما فاقم حدة التوتر والانقسام بين واشنطن وأنقرة. ومن ثم يبدو أن أردوغان كان يسعى لتوظيف اللقاء ببوتن للضغط على الإدارة الأمريكية قبل اللقاء المرتقب بين أردوغان وبايدن على هامش قمة مجموعة العشرين في روما في أكتوبر الجاري.
ملفات متشابكة
يلاحظ أن الجانبين تناولا العديد من الملفات الخلافية، غير أن الملف السوري كان أهم هذه الملفات على الإطلاق، وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي:
1- مقايضة الإرهاب بالإرهاب في سوريا: كثف الجيشان الروسي والسوري من ضرباتهما الجوية حول إدلب خلال الأسبوع الماضي في محاولة لاستباق المحادثات بين بوتين وأردوغان، وإرسال الكرملين رسالة إلى أنقرة بضرورة عودتها للالتزام بإبعاد الإرهابيين، على نحو ما وضح في إعلان وزير الخارجية الروسية، سيرجي لافروف، وعدم تنفيذ تركيا التزاماتها بشأن خفض التصعيد في إدلب، وفصل الجماعات الإرهابية عن المعارضة، بالإضافة إلى ضمان أمن جانبي الطريق الدولي المعروف باسم "إم 4".
ونجحت روسيا في الحصول على تأكيدات مبدئية من تركيا بذلك، فقد أوضح المتحدث باسم الرئاسة الروسية، ديميتري بيسكوف في أعقاب اللقاء بين الرئيسين، أن الرئيسين التركي والروسي أكدا ضرورة تطبيق اتفاقاتهما بخصوص إخلاء محافظة إدلب من العناصر الإرهابية المتبقية هناك.
وفي المقابل، كشف أردوغان أنه طالب روسيا بتنفيذ الاتفاقات التي تم التوصل إليها معها بشأن إنهاء وجود تنظيم "حزب العمال الكردستاني – وحدات حماية الشعب" الإرهابي بسوريا. ويلاحظ أن وحدات حماية الشعب الكردية تسيطر على أقصى شمال شرق سوريا مدعومة بالوجود الأمريكي. وتصنفها تركيا كتنظيم إرهابي، نظراً لارتباطها بحزب العمال الكردستاني، المصنف لديها كتنظيم إرهابي كذلك، نظراً لأنه تورط في تنفيذ عدد من العمليات الإرهابية هناك.
ويكشف ما سبق عن تبلور تفاهم روسي – تركي مبدئي باستعداد تركيا لإخراج الإرهابيين من أدلب، مقابل ضبط روسيا والحكومة السورية وحدات حماية الشعب الكردي. ونظراً لأن مناطق سيطرة الأكراد في سوريا تنتشر بها القوات الأمريكية، فإن موسكو لن تكون قادرة على تنفيذ الجزء الخاص بها من الصفقة، انتظاراً للتوصل لتفاهمات بين واشنطن وموسكو حول انتشارها العسكري هناك، والذي يعقبه اتفاق آخر بين الأكراد والحكومة السورية على انتشار الجيش السوري في مناطق سيطرة الأكراد، وتقديم دمشق ضمانات لأنقرة بألا تنتشر في هذه المناطق عناصر حزب العمال الكردستاني.
ويلاحظ أن مثل هذا التفاهم بين الأكراد والحكومة السورية ليس مستبعداً، بل أن واشنطن نفسها تدعمه، إذ إن بريد ماكجورك، منسق شؤون الشرق الأوسط وأفريقيا في مجلس الأمن القومي الأمريكي، يحث الأكراد على التوجه أكثر سياسياً وعبر الطاقة نحو نظام دمشق وروسيا، ما عرضه لانتقادات من قبل الجمهوريين بأنه يسعى لتسليم سوريا بالكامل إلى روسيا.
2- تصفية الحسابات مع واشنطن: سعى أردوغان لتصفية الحسابات مع الولايات المتحدة بسبب تطمين الولايات المتحدة مؤخراً لأكراد سوريا، وتأكيدها أن واشنطن ليست لديها أي نية لإنهاء التعاون مع أكراد سوريا، ولذلك شن أردوغان هجوماً على تركيا عبر تأكيده أنه "على الولايات المتحدة مغادرة هذا المكان وتركه للشعب السوري عاجلاً أم آجلاً"، كما وصف أردوغان بريد ماكغورك، منسق شؤون الشرق الأوسط وأفريقيا في مجلس الأمن القومي الأمريكي، بأنه "مدير الإرهابيين"، نظراً لأن أنقرة تعتبره يدعم بوضوح مقاتلي وحدات حماية الشعب الكردية.
3- عدم الإعلان عن صفقة عسكرية جديدة: أشار الرئيس التركي في 24 سبتمبر 2021، إلى أن تركيا ما زالت تعتزم شراء دفعة ثانية من صواريخ إس-400، في تحدٍ صريح لواشنطن، مؤكداً أنه لا يمكن لأي دولة أن تتحكم في تصرفات أنقرة.
ومع ذلك لم يسفر اللقاء عن إعلان أنقرة أي صفقة جديدة مع روسيا، وهو ما يؤشر إلى رغبة أردوغان في عدم إغضاب واشنطن، والتي هددته بفرض عقوبات إن أقدم على هذه الخطوة، خاصة أنه يتطلع إلى لقاء بايدن، على هامش قمة العشرين هذا الشهر، وهو ما يعني أنه لايزال يعول على التوصل لتفاهم معه في الملفات الخلافية.
4- تعزيز التعاون الاقتصادي: صدرت روسيا خلال التسعة شهور الأولى من 2021 حوالي نصف واردات الغاز إلى تركيا، كما تم الإعلان عن بدء العمل في المحطة النووية التي تقوم مجموعة روساتوم النووية الروسية ببنائها في أكويو جنوب تركيا، خلال عام 2023.
وارتفعت التجارة بين البلدين في التسعة أشهر الأولى من 2021 بنحو أكثر من 50%، وذلك مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، وهو ما يعني ليس فقط تعويض الخسائر في حجم التبادل التجاري بينهم التي حدثت خلال عام الوباء، بل زيادة حجم التبادل التجاري بأكثر من 30%.
علاوة على ذلك، ترغب تركيا خلال الفترة المقبلة في زيادة عدد المسافرين الروس إليها؛ فقد استحوذت روسيا على أعلى عدد من السياح القادمين إلى تركيا عام 2019؛ حيث توجه نحو 7 ملايين سائح روسي إلى تركيا، وذلك قبل أن يتسبب الوباء في توقف السفر إلى الخارج بشكل كبير، وإلحاق الضرر بقطاع السياحة التركية.
5- استمرار التنسيق حول إقليم قره باغ: وصف بوتين المحادثات مع نظيره التركي بأنها كانت "إيجابية ومفيدة للغاية"، كما أشاد بعمل المركز الروسي – التركي الخاص بالرقابة على وقف إطلاق النار عند الحدود بين أذربيجان وأرمينيا، ويرى بوتين في ذلك التعاون مع تركيا ضماناً للاستقرار وتنسيق مواقف الطرفين بشأن الخطوات الجديدة الرامية إلى تحقيق المصالحة.
6- ضبط العلاقات التركية – الأوكرانية: أكد الناطق باسم الكرملين دميتري بيسكوف أن موسكو تعير اهتماماً لتعاون كييف وأنقرة في المجال العسكري، لأنها لا تريد أن "يستخدم السلاح التركي لاستهداف سكان دونباس بجنوب شرق أوكرانيا"، الذي تسكنه أغلبية ناطقة بالروسية، وهو ما يؤشر إلى رغبة الكرملين في تحجيم التعاون التركي – الأوكراني العسكري، والذي تراه مهدداً لمصالحها هناك.
وفي النهاية، يلاحظ أن التفاهمات بين تركيا وروسيا انحصرت بشكل كبير في الملف السوري، كما يلاحظ أنها ذات طبيعة مؤقتة؛ إذ إن أردوغان لم يتجاوز الخطوط الحمراء الأمريكية بإبرام صفقة جديدة من نظم الدفاع الجوي "إس 400"، في مؤشر على أنه لايزال يراهن على تحسين العلاقات مع واشنطن من دون تقديم تنازلات كبيرة، بل سعى للتوصل لتفاهمات مبدئة مع موسكو حول سوريا، وذلك انتظاراً للقائه المرتقب مع بايدن في قمة العشرين، والتي سيسعى خلالها للتوصل لصفقة أفضل مع بايدن، تضمن المصالح التركية، وتجنب أنقرة سحب الإرهابيين من إدلب، وخسارة نفوذها هناك.