قامت تركيا في 14 سبتمبر 2021 بسحب عدد من المرتزقة السوريين التابعين لها والمنتشرين في قاعدة "الوطية" غرب ليبيا؛ غير أنه في الوقت ذاته، أطلق وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، تصريحات أكد خلالها تعهد بلاده بمواصلة الدعم القوي لليبيا، وهي التصريحات التي سبقتها زيارة القيادي الإخواني، خالد المشري، رئيس ما يسمى بالمجلس الأعلى الاستشاري للدولة الليبية لمناقشة التطورات والعملية الانتخابية في ليبيا مع القيادة التركية.
مؤشرات التغير التركي في ليبيا
باتت تركيا مدركة بأن حلفاءها الحاليين في الغرب الليبي غير قادرين على تأمين مصالحها في ليبيا في المرحلة المقبلة؛ لذلك فقد بدأت أنقرة تعيد حساباتها في ليبيا، من دون التخلي عن وجودها العسكري هناك، بل تبدي تخوفاً من احتمالية قيام حكومة ليبية منتخبة، في حالة إجراء الانتخابات، بإعادة النظر في الاتفاقيات العسكرية والبحرية معها، وتتمثل أبرز مؤشرات هذا التغيير في الموقف التركي تجاه ليبيا فيما يلي:
1- سحب بعض المرتزقة السوريين: قامت طائرات نقل عسكرية تركية من طراز "إيرباص إيه 400" بسحب بعض من المرتزقة السوريين التابعين لأنقرة والمنتشرين في قاعدة الوطية في غرب ليبيا.
وعلى الرغم من أن المحادثات بين القاهرة وأنقرة تناولت وسحب المرتزقة من ليبيا، وكان من بين الشروط المصرية لتطبيع العلاقات مع تركيا، فإنه لا يتوقع أن يكون سحب هذه القوات مرتبطاً بذلك، ولكن قد تكون هذه العملية تأتي في إطار التعامل مع ما شهدته مدينة طرابلس أواخر أغسطس ومطلع سبتمبر من تظاهرات لمسلحين سوريين احتجاجاً على تخفيض رواتبهم، خاصة أن بعض التقديرات تشير إلى أن تركيا تحتفظ بنحو 6 آلاف مرتزق سوري في ليبيا.
كما قد ترتبط الخطوة التركية أيضاً بالرغبة في تقليص الأعباء المالية لذلك الملف، في محاولة منها لمواجهة الأزمة الاقتصادية الداخلية، وتداعيات الوضع الوبائي الناجم عن تفشي فيروس كورونا ومتحوراته من السلالات الجديدة.
2- الانفتاح على عائلة القذافي: تسعى أنقرة الآن إلى تنويع حلفائها؛ خاصة بعدما أدركت أن حلفاءها في طرابلس، خاصة الإخوان السلمين، لن يكونوا قادرين بمفردهم على تأمين مصالحها، وأن حظوظهم في الحصول على مرتبة متقدمة في الانتخابات القادمة محل شك كبير، ليس فقط لأن الإخوان لم يتمكنوا من تحقيق أغلبية في أي انتخابات برلمانية أجريت بعد الإطاحة بالقذافي، ولكن كذلك، لأن التطورات التي شهدتها شمال أفريقيا تكشف عن تدني شعبيتهم بصورة واضحة.
فإذا كانت الإطاحة الشعبية بالإخوان المسلمين في مصر في عام 2013، قد ترتب عليه انهيار شعبية الإخوان في الانتخابات البرلمانية التي أجريت في ليبيا في 2014، فإن الإطاحة بحركة النهضة، الذراع السياسية للإخوان، في تونس في يوليو 2021، فضلاً عن تراجع مقاعد حزب العدالة والتنمية المغربي بعد انتخابات سبتمبر 2021 من 33٪ إلى 3٪ فقط يكشف عن أن حظوظهم في الانتخابات القادمة لن تكون قوية.
وقد تكون إحدى الخيارات أمام أنقرة من خلال فتح المجال أمام إشراك أفراد من عائلة الزعيم الليبي السابق معمر القذافي وأنصاره في حساباتها، فقد لعبت تركيا دوراً في إطلاق سراح سعدي القذافي، والذي سافر مباشرة إلى أنقرة عقب الإفراج عنه، وتهدف تركيا من انخراطها في إطلاق سراح سعدي القذافي إلى تحقيق هدفين منفصلين؛ الأول هو قطع الطريق أمام فوز خليفة حفتر في الانتخابات الرئاسية القادمة، عبر التحالف مع نجل معمر القذافي، سيف الإسلام القذافي، والذي يبدو أن هناك توجهاً أمريكياً لدعم ترشحه لرئاسة ليبيا، فضلاً عن محاولة إقامة تحالف بين الإخوان وسيف الإسلام، خاصة أن الأخير لعب دوراً في إجراء عمليات المصالحة مع الإسلاميين في ليبيا، وإخراجهم من السجون، أثناء فترة حكم والده.
3- تفاعل تركي مع تأجيل الانتخابات: فقد توجه القيادي الإخواني، خالد المشري، الذي أعيد انتخابه رئيساً للمجلس الأعلى للدولة الليبية (استشاري) إلى أنقرة في 9 من سبتمبر الجاري، وذلك في إطار جولاته الخارجية، لإقناع بعض الدول للضغط من أجل تأجيل الانتخابات؛ خوفاً من سقوط الإخوان في ليبيا.
وسبقت زيارة المشري لتركيا زيارة أخرى قام بها إلى إيطاليا للهدف ذاته، بيد أن عدم الإعلان الرسمي عن موقف تركي واضح بعد هذه الزيارة، فضلاً عن إعلان وزير الخارجية التركية بأن بلاده تعمل على تعزيز التعاون مع ليبيا يكشف عن وجود حرص تركي بألا تبدو داعمة علناً لهذه التوجهات المنادية بتأجيل الانتخابات، حتى لا تفقد شرعيتها، وتبدو بأنها تسعى لدعم تيارات لا تحظى بالدعم الشعبي. كما أن إمكانية نسج أنقرة تحالفاً بين الإخوان وعائلة القذافي يجعلها قد تعيد التفكير، هي وحلفاؤها من الإخوان، في السير تجاه الانتخابات.
4- تحسب أنقرة من تنامي الدور المصري: لاتزال تركيا تراقب بحذر تحركات مصر في الملف الليبي، خاصة مع الزيارة الرسمية التي قام بها رئيس الحكومة الليبية، عبدالحميد الدبيبة، في 16 من سبتمبر إلى القاهرة على رأس وفد رفيع للمشاركة في اجتماعات اللجنة العليا المصرية – الليبية المشتركة وإجراء مباحثات مع عدد من المسؤولين المصريين.
وقد أكدت الدولة المصرية رغبتها في تحقيق الاستقرار في ليبيا، وتقديم الدعم لمساعدة ليبيا في إجراء الانتخابات الوطنية المقرر إجراؤها نهاية العام الجاري، وقد أفرزت هذه الزيارة توقيع عدة اتفاقيات تعاون بين القاهرة وطرابلس، فضلاً عن عدد من عقود البنية التحتية، تمثلت في 14 مذكرة تفاهم مشترك و6 عقود تنفيذية مع ليبيا، إلى جانب توقيع محضر اجتماعات اللجنة المصرية الليبية المشتركة، وتقدر قيمة الاتفاقيات الموقعة بما يصل إلى 33 مليار دولار.
ومن المرجح أن تواجه مصر منافسة على العقود التجارية في غرب ليبيا من تركيا، وتجدر الإشارة هنا إلى أن زيارة الدبيبة إلى القاهرة جاء بالتوازي مع زيارة كل من المشير، خليفة حفتر، قائد الجيش الوطني الليبي، وعقيلة صالح، رئيس البرلمان الليبي، وهو ما عكس دور القاهرة في محاولة التوسط بين الفرقاء الليبيين لإجراء الانتخابات في موعدها، والحفاظ في الوقت نفسه على شبكة العلاقات الواسعة مع كافة الأطراف الفاعلة في ليبيا.
سيناريوهات مستقبلية
لا يرجح أن تتنازل أنقرة عن تواجدها العسكري في ليبيا في الوقت الراهن، حيث تنظر إلى هذا الوجود العسكري باعتباره مصدر قوة لها يعزز من تحقيق مصالحها في منطقة شرق المتوسط، التي تتطلع تركيا لموطئ قدم فيها بعد استبعادها من الانضمام لمنتدى غاز شرق المتوسط الذي تدير ملفاته مصر. وهنا تتضح عدة سيناريوهات محتملة للتحرك التركي في الملف الليبي، تدور بالأساس حول احتمال التوصل لتفاهمات مشتركة مع مصر، وذلك كما يلي:
السيناريو الأول: تغير سياسات أنقرة تجاه ليبيا: يمكن أن تفكر تركيا في التوصل إلى اتفاق مشترك مع مصر يمكنها من تحقيق مصالح اقتصادية في شرق المتوسط، مع تحقيق مصالح استراتيجية وسياسية في الملف الليبي. ويواجه هذا السيناريو بعقبة اشتراط مصر سحب تركيا كافة المرتزقة السوريين من ليبيا وتعهدها بعدم إقامة قواعد عسكرية هناك، وهو أمر ترفضه أنقرة، حتى الآن، إذ إنه سوف يضعف من قدرتها على التأثير على مجريات الصراع الليبي، خاصة مع ما يشهده ملف الانتخابات من تعثر وتزايد المخاوف من تفجر الصراع من جديد.
السيناريو الثاني: التوافق المحدود مع القاهرة: قد تلجأ تركيا إلى محاولة التوصل إلى صيغة توافقية مع مصر بشأن خفض أعداد المرتزقة السوريين في ليبيا وترتيبات الانتخابات المقبلة، تقوم أهم بنود هذه الصيغة على توزيع المناصب العليا بين عدد من الفواعل الداخلية تضمن تحقيق مصالح كافة الأطراف، مثل التوافق على منح منصب الرئاسة للشرق الليبي في حين جعل منصب رئيس الحكومة من نصيب المنطقة الغربية، وهو ما يحقق قدر من الاستقرار، ويحول دون تفجر الأوضاع الأمنية مرة أخرى في الداخل الليبي.
السيناريو الثالث: مواصلة أنقرة سياستها التصادمية: قد تستمر تركيا في التحرك بمفردها لمحاولة فرض هيمنتها على الملف الليبي وتعزيز مكاسبها الاقتصادية والسياسية والأمنية في ليبيا، وذلك عبر نسج تحالف بين الإخوان وعائلة القذافي لضمان استمرار الإخوان طرفاً في المعادلة السياسية الليبية، وهذا السيناريو مرجح في حال فشل التوصل لتفاهمات مع مصر.
وفي النهاية، تكشف المؤشرات السابقة حول التحركات التركية في الملف الليبي عن استمرار السياسات الانفرادية التركية، وهو ما استتبعه محاولات من القاهرة للانفتاح على طرفي الصراع الليبي، وهو ما يعني في الختام أن تركيا لا تزال تتخوف من الفشل في التوصل إلى توافق مع القاهرة حول الملف الليبي، وهو ما يدفها للتعويل على دعم فرص وصول الإخوان المسلمين للحكم، وإقصاء قائد الجيش الوطني الليبي خليفة حفتر.