تشهد منطقة شمال العراق تطورات سياسية وعسكرية لها دلالاتها، سواء فيما يتعلق بالموقف داخل الحزبين الرئيسيين؛ حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، أو الحزب الديمقراطي الكردستاني، أو فيما يتعلق بالعلاقات بين الحزبين وتحركاتهما بخصوص صياغة تحالفات انتخابية لمواجهة استحقاقات الانتخابات التشريعية العراقية القادمة.
ويتزامن هذا التطور مع تزايد الدور العسكري والسياسي لكل من تركيا وإيران في المنطقة، وممارسة كل منهما ضغوطاً متزايدة على الحزبين الكرديين لتحقيق استراتيجية كل منهما، سواء في شمال العراق أو العراق بصفة عامة.
استعادة وحدة الاتحاد الوطني:
شهد الاتحاد الوطني الكردستاني، في الفترة الأخيرة، عدة تطورات، والتي يمكن توضيحها على النحو التالي:
1- محاولة تجاوز الانقسامات الداخلية: لا يزال التنافس قائماً بين الشخصيتين القياديتين اللذين شغلا منصب القيادة المشتركة للحزب، وهما لاهور طالباني، ابن شقيق السيد جلال طالباني مؤسس الحزب، والذي أعاد تشكيل قيادته بعد الخلافات التي عصفت بقياداته، وأدت إلى تراجع نفوذه في السنوات الماضية، وقوباد طالباني ابن السيد جلال طالباني.
فقد أدى الخلاف القائم بينهما إلى نوع من الانقسام على مستوى القيادة والمكتب السياسي، ومارست قيادات الحزب القديمة ضغوطاً على كليهما. ووافق لاهور طالباني، في النهاية، على التنازل عن مشاركته في قيادة الحزب لصالح قوباد، واشترط أن يتم ذلك حتى تجتمع القيادة العليا للحزب لاتخاذ القرار بهذا الخصوص، وجاء ذلك الموقف للحفاظ على تماسك مؤسسات الحزب، في ضوء الاستحقاقات التشريعية القادمة.
2- تراجع نفوذ القيادات التاريخية: خرجت القيادات التاريخية في حزب الاتحاد من مؤسساته الرئيسية وأصبحت تفتقد النفوذ المؤثر على عملية اتخاذ القرار، وارتبط ذلك بالحالة الصحية لعدد كبير منهم، واتهامات الفساد التي لاحقت آخرين. وأصبحت القوى المحركة داخل الحزب أجيالاً جديدة لا تدين بالولاء للقيادات التاريخية، كما كانت الحال سابقاً، ولها طموحات تتجاوز الارتباط الحزبي الضيق، وهو ما يعني أن الفترات القادمة يمكن أن تشهد إعادة لهيكلة الحزب.
3- عودة "التغيير" للاتحاد الوطني: جاء انضمام حركة التغيير، الحزب الثاني المؤثر في السليمانية، إلى حزب الاتحاد الوطني التي خرجت منه ليضيف إلى ثقل ونفوذ الحزب داخل تلك المنطقة، خاصة قبل الانتخابات التشريعية العراقية والكردية، وإن كانت لا تزال تمثل كتلة متماسكة داخل الحزب ولم تنصهر قواعدها ومؤسساتها داخل مؤسسات الحزب.
وجاءت عودة التغيير للاتحاد بهدف مواجهة هيمنة الحزب الديمقراطي الكردستاني على إقليم كردستان العراق خلال السنوات الماضية، وبما يسمح لعدد من قيادات الطرفين بالعودة للمشهد السياسي في الإقليم وبغداد.
هيمنة بارزاني على الديمقراطي الكردستاني:
لايزال مسعود بارزاني وابنه يحكمان السيطرة على الحزب الديمقراطي الكردستاني، وهو ما يمكن تفصيله على النحو التالي:
1- استمرار هيمنة مسعود وابنه: يتميز الحزب الديمقراطي الكردستاني بتماسك هياكله ومؤسساته في ظل هيمنة مسعود بارزاني، الزعيم التاريخي للحزب، والذي رغم تنازله عن رئاسة الإقليم، فإنه لا يزال المرجع الرئيسي له. ويتمتع ابنه مسرور بارزاني بنفوذ متزايد في العامين الأخيرين. فإلى جانب توليه رئاسة حكومة الإقليم لا يزال يحتفظ برئاسته لجهاز المخابرات الكردي، وعدد من المؤسسات الأمنية والاستخبارية للحزب.
2- تراجع نفوذ نيجيرفان بارزاني: يلاحظ أن السيد نيجيرفان بارزاني، رئيس إقليم كردستان العراق، هو زوج ابنة السيد مسعود بارزاني وابن شقيقه، إلا أن مصادر كردية تشير إلى قلق من تزايد نفوذ مسرور بارزاني وهناك تنافس مكتوم بينهما.
ويحرص مسعود بارزاني على عدم تجاوز هذا التنافس أو انعكاسه على مؤسسات الحزب، وضبط حركة كل منهما لضمان استمرار هيمنة الحزب على الساحة الكردية، سواء في أربيل بالدرجة الأولى، أو السليمانية كذلك.
توتر منضبط بين الحزبين:
انعكست التطورات الداخلية في الاتحاد الوطني والديمقراطي الكردستاني على العلاقة بينهما، وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي:
1- تعاون من دون اندماج: يحرص الحزبان خلال السنوات الأخيرة على استيعاب أية خلافات، وهناك نوع من التعايش من جانب قيادات حزب الاتحاد الوطني مع تزايد نفوذ الحزب الديمقراطي ارتباطاً بما كان يشهده حزب الاتحاد من خلافات قيادية وتراجع في ثقله الانتخابي، وهو ما استثمره الحزب الديمقراطي بصورة كبيرة.
2- قائمتان كرديتان على المستوى الاتحادي: إن نجاح قيادات حزب الاتحاد في تجاوز الخلافات التي شهدتها الفترة الماضية بين قيادته العليا واستعادته لكتلة التغيير يرجح أن تعود المنافسة بين الحزبين، ومن مظاهر ذلك بصورة واضحة عدم اتفاق الاتحاد الوطني والديمقراطي الكردستاني على قائمة كردية موحدة تشارك في الانتخابات التشريعية القادمة وترجيح دخولهما بقائمتين منفصلتين.
3- خلافات متوقعة على المناصب: من المرجح كذلك أن تبدأ الخلافات بين الحزبين فيما يتعلق بإعادة توزيع المناصب الرئيسية في الإقليم وفي الدولة العراقية، وفقاً للمحاصصة في منصب رئيس الجمهورية العراقية ورئيس إقليم كردستان ورئيس حكومة الإقليم.
ولم يتم إجراء أي حوار بينهما حتى الآن بهذا الخصوص. وسوف يسعى الأكراد للاحتفاظ بمنصب رئيس الجمهورية، وهو ما يتطلب اتفاق الحزبين على هوية المرشح، فضلاً عن صياغة تحالفات سياسية عراقية مؤثرة لضمان انتخابه في البرلمان القادم.
دعم تركي للديمقراطي الكردستاني:
تراهن تركيا على علاقاتها بالحزب الديمقراطي الكردستاني، في حين تمارس ضغوطاً على الاتحاد الوطني، وهو ما يعود إلى الأسباب التالية:
1- العداء المشترك للعمال والاتحاد الديمقراطي: يتبنى الحزب الديمقراطي الكردستاني مواقف متشددة تجاه حزب العمال الكردستاني، وهي منظمة تركية، تصنفها أنقرة على أنها تنظيم إرهابي، وتتمركز قياداته العسكرية في جبال قنديل شمال العراق. وتعد أحد أسباب عداء الديمقراطي للعمال هو أن مسعود بارزاني يسعى لأن يكون الشخصية الكردية المحورية بدلاً من عبدالله أوجلان، زعيم حزب العمال الكردستاني.
وتبلور تنسيق مشترك بين الطرفين في العمل العسكري ضد مجموعات حزب العمال الكردستاني في مناطق الحدود التي تخضع لسيطرة الحزب، فضلاً عن وجود قاعدة عسكرية تركية في جبال قنديل بموافقة الديمقراطي الكردستاني.
كما أن الحزب الديمقراطي يتبنى مواقف معادية لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سوريا الذي يسيطر على المنطقة الكردية في سوريا، ويحتفظ بعلاقات قوية مع حزب العمال الكردستاني التركي، وكذلك الاتحاد الوطني الكردستاني العراقي. وساهم العداء المشترك للديمقراطي الكردستاني وأنقرة تجاه الاتحاد الديمقراطي في تهيئة أرضية إيجابية للتعامل مع تركيا.
2- المصالح الاقتصادية المشتركة: يحتفظ الحزب الديمقراطي وأنقرة بمصالح متزايدة اقتصادية وسياسية مشتركة، إذ إن هناك حوالي 1500 شركة تركية تعمل حالياً في إقليم كردستان، كما أن حجم التبادل التجاري بين إقليم كوردستان يصل الى قرابة 12 مليار دولار سنوياً في عام 2019.
3- ضغوط تركية على الاتحاد الوطني: تمارس تركيا ضغوطاً على حزب الاتحاد الوطني في السليمانية، الذي يمثل بيئة حاضنة تقدم الدعم اللوجستي لحزب العمال الكردستاني في جبال قنديل، ومن هنا جاء اعتراضه على تولي لاهور طالباني، زعامة الحزب، في ظل العلاقات القوية بينه وبين الجنرال مظلوم عبدي، قائد قوات سوريا الديمقراطية، الذراع المسلحة للاتحاد الديمقراطي الكردستاني السوري، المتحالف مع حزب العمال التركي. كما رصدت اجتماعات متعددة بين لاهور ومظلوم برعاية أمريكية خلال الشهور الماضية. وتؤكد مصادر كردية أن تنازل المذكور عن القيادة المشتركة للحزب قد جنب المنطقة والحزب ضغوطاً تركية كانت متوقعة.
تصعيد الضغط الإيراني على الاتحاد الوطني:
تبلور في الفترة الأخيرة تصعيد في العمليات العسكرية الإيرانية تجاوز منطقة الحدود المشتركة بين شمال العراق وإيران إلى داخل إقليم السليمانية من خلال قصف مدفعي وتوظيف للطائرات المسيرة لمهاجمة قواعد الأحزاب الكردية الإيرانية المعارضة لطهران، والموجودة هناك، فضلاً عن عمليات اغتيال لقيادات كردية معارضة في بعض مدن الإقليم.
وطلب الأدميرال شامخاني، أمين مجلس الأمن القومي الإيراني، من رئيس الوزراء العراقي خلال زيارته الأخيرة إلى طهران مطلع سبتمبر، ضرورة محاصرة نفوذ عناصر وقيادات الحزب وعدم تمركزها داخل الأراضي العراقية وتحميل السلطات العراقية مسؤولية ذلك.
وتتمتع إيران بنفوذ واضح داخل محافظة السليمانية بصفة خاصة، كما أن لها انتشاراً استخبارياً في محافظة أربيل أيضاً. ولعل تزايد نفوذها العسكري لمواجهة الأحزاب الكردية المعارضة الإيرانية يتوافق مع السياسة التركية في المنطقة، إلا أن كلاً من الطرفين الإيراني والتركي يتحسب بصورة واضحة ألا ينعكس تمدد نفوذ كل طرف على حساب الطرف الآخر داخل الإقليم.
تصاعد الدورين الأمريكي والفرنسي:
يتخوف الأكراد من الاستعدادات الأمريكية من الانسحاب العسكري من العراق، والذي قد يمتد إلى الانسحاب من قاعدة أربيل العسكرية. وعلى الرغم من أن هناك إعادة هيكلة للوجود العسكري في تلك القاعدة تم الاتفاق عليه، فإنه في حالة خروج الجيش الأمريكي، والذي يستتبعه في التوقيت نفسه خروج قوات التحالف، فإن المنطقة الكردية سوف تفقد غطاءً عسكرياً كانت في حاجة إليه في مواجهة التمدد الإيراني والتركي.
ولا تزال الولايات المتحدة تحرص على توفير الدعم اللازم لقوات سوريا الديمقراطية في سوريا ونسج علاقات بينها وبين القوى الكردية، خاصة الاتحاد الوطني في السليمانية لتوفير دعم لها.
ومن الواضح، حتى الآن، أن فرنسا سوف تحرص على بقاء نفوذها العسكري والسياسي، سواء في العراق بصفة عامة، أو في شمال العراق بصفة خاصة، الأمر الذي يرجح أن يشهد نوعاً من تنامي النفوذ الفرنسي في المرحلة القادمة، وبما يرتب تنافساً مع التمدد التركي والإيراني داخلها.
وفي الختام، يمكن القول إن الأوضاع غير المستقرة في شمال العراق تسمح بالاختراقات التركية والإيرانية، وهو ما يؤثر على الأمن القومي العراقي بصفة عامة. وعلى الرغم من الانقسامات الكردية الداخلية، فإن سعي الكتل السياسية العراقية المتنافسة لصياغة تحالفات انتخابية مع الحزبين الكرديين بعد الانتخابات التشريعية القادمة يجعل من الأكراد رمانة الميزان في تلك الانتخابات وعامل ترجيح، خاصة إذا حافظ الحزبان الرئيسيان على استمرار التنسيق بينهما.