بعد القرارات الاستثنائية التي أعلنها الرئيس قيس سعيد، يوم 25 يوليو 2021، ومنها تجميد البرلمان، ثم إعلانه يوم 24 أغسطس تمديد هذه القرارات حتى إشعار آخر، بدأت تونس صفحة جديدة في كتاب الأزمة المتواصلة منذ عام 2011، ولا أحد يعرف بعد إذا كانت ستطوي بذلك آخر فصول هذا المؤلف، أو إذا كانت مجرد تمهيد لحلقات أخرى من أزمة بلا نهاية.
وفي الوقت الذي يرى فيه كثير من المتابعين أن قرارات 25 يوليو الماضي وضعت حداً لتغلغل تيار الإسلام السياسي الإخواني ممثلاً في حركة النهضة في مفاصل أجهزة الدولة التونسية ومؤسساتها، فإن ذلك لا يمنع، بالرغم من كل شيء، من التساؤل عن خطر تسرب أو عودة ما يُسمى بـ "الإسلام الغاضب"، كما أطلق عليه راشد الغنوشي، زعيم النهضة، عند حديثه عن تورط بعض الشبان الإسلاميين من النهضة ومن التيار المرتبط بها في العنف والإرهاب، إلى المشهد العام، في ظل الأزمة الراهنة، وما يمكن أن تخلفه من ثغرات تسمح بتنفيذ هجمات إرهابية على غرار ما حدث في مناسبات سابقة خاصة عام 2015 الذي شهد ما لا يقل عن 3 هجمات دموية، أبرزها الهجوم على متحف باردو، وعلى منتجع سياحي في سوسة وسط البلاد، وعلى حافلة للأمن الرئاسي وسط العاصمة تونس، والتي خلفت عشرات القتلى والجرحى.
تراجع الإرهاب:
على الرغم من استمرار خطر التنظيمات الإرهابية في تونس، فإن المشهد في البلاد يشير إلى انحسار ملحوظ في حجم وقدرة هذه التنظيمات مثل "جند الخلافة" الموالي لداعش، و"كتيبة عقبة بن نافع" الموالية للقاعدة، على التحرك والتجنيد والحصول على الدعم اللوجستي والمالي والإعلامي، على عكس السنوات القليلة التي تبعت انهيار نظام بن علي عام 2011، وذلك بعد سلسلة ناجحة من العمليات الأمنية ضدها والتي سمحت بتقليص مواردها البشرية والمادية والإعلامية. وقد تولت القوات المسلحة التونسية مدعومة بقوات الحرس الوطني، إحكام الحصار وتشديد الطوق على تلك التنظيمات الإرهابية، ما أجبرها على الانكفاء والاحتماء بقمم جبال وعرة وصعبة في منطقة الوسط والوسط الغربي.
وسمح ذلك كله لممثلي القوات المسلحة التونسية بالسيطرة إلى حد ما على الوضع الميداني إلى حد كبير، مع تسجيل نجاحات ميدانية لقوات الحرس والجيش، التي تطوق منذ أعوام بشكل كامل تقريباً كل المنافذ إلى هذه الجبال والمرتفعات ذات التضاريس الصعبة، ما منع المسلحين المحتمين بها من المبادرة والنزول إلى المدن القريبة، أو التسلل إلى مدن أبعد لتنفيذ عمليات نوعية، ليقتصر الأمر على محاولات معدودة فشلت جميعها منذ بداية العام الجاري مثلاً، واقتصرت على اشتباكات مسلحة بين المحاصرين والإرهابيين، أو تفجير بعض الألغام في الجبال من قِبل المتحصنين، لوقف أي محاولة للجيش والحرس الوطني.
إعادة الانتشار الأمني:
بعد الزلزال الذي عرفته تونس في 25 يوليو الماضي عقب إعلان الرئيس قيس سعيد قراراته التي جمدت عمل البرلمان، ورفعت الحصانة عن النواب، فضلاً عن إقالة رئيس الحكومة هشام المشيشي، وتولي الرئيس مباشرة السلطة التنفيذية؛ ارتفعت المخاطر وزادت التحذيرات لأسباب ومعطيات موضوعية كثيرة. فالمعروف أن كل التحولات الكبرى تخلف ارتباكاً أو هزات يمكن أن يمتد تأثيرها إلى أجهزة الدولة ومؤسساتها، بشكل أو بآخر، إلى جانب تعدد الجبهات والمناطق التي يمكن أن تشكل نقاط ضعف تسمح لكل مناوئ للدولة ولمؤسساتها بالتسلل منها لتهديدها أو ضربها. وفي هذا السياق، يُشار إلى أن قرارات سعيد الأخيرة ترافقت مع إجراءات أمنية مثل نشر الجيش وقوات الأمن بشكل أكثر كثافة حول مؤسسات الدولة، مثل البرلمان والوزارات والبنك المركزي وغيرها؛ لتأمينها وحمايتها.
كما أن لهذه الإجراءات تأثيراً مباشراً على حجم وانتشار القوات المسلحة حول المدن أو الجبال أو المناطق التي تشكل مصادر خطر محتمل، خاصة بعد أن أوكلت الرئاسة التونسية أيضاً للجيش رسمياً منذ فترة قصيرة مهمة الإشراف على تنظيم مكافحة جائحة كورونا في البلاد. وفي ظل هذه التطورات، فإن التنظيمات المتطرفة تحاول استعادة المبادرة والظهور مجدداً في المشهد لاستغلال ما يمكن للوضع الحالي أن يتيحه لها من هامش مناورة وتحرك.
تهديدات داعش والإخوان:
إن الوضع الناجم عن قرارات 25 يوليو الماضي، يمكن أن يتحول إلى مدخل للحركات المتطرفة للعودة إلى تونس من جديد، وهو ما يُبرِر مثلاً، حسب بعض التقارير المحلية، محاولة تسلل القيادي الداعشي أبو زيد التونسي من ليبيا عائداً إلى مسقط رأسه في القيروان وسط تونس، قبل نجاح استخبارات الحرس الوطني في القبض عليه يوم 29 يوليو الماضي. وقالت هذه التقارير إن أبو زيد التونسي عاد إلى تونس من ليبيا، مكلفاً بمهمة تجنيد عناصر جديدة لتنفيذ عمليات إرهابية في تونس، ما يوحي بأن جهات عدة تسعى إلى استغلال الوضع الجديد لصالحها بما يلائم أهدافها وأجندتها بالاستناد إلى المعطيات على الأرض.
ولن يفوت المتابع للأحداث في تونس، ملاحظة تسلل هذا المعتقل من مدينة الزاوية الليبية، التي تعد معقلاً للميليشيات المسلحة الموالية لتنظيمي الإخوان والقاعدة، والتي تشكلت خاصة من أعضاء الجماعة الليبية المقاتلة سابقاً، ومن بقايا كتيبتي الفاروق الداعشية وأبرز عناصرها من العائدين من سوريا.
وبحكم القرب الجغرافي من جهة، وبسبب وجود مئات التونسيين في غرب ليبيا في مدن مثل الزاوية، من المنتمين لمختلف التنظيمات والتشكيلات الإرهابية، فإن تسلل أبو زيد التونسي العائد أيضاً من سوريا، مؤشر وناقوس خطر وإشارة حمراء لا يمكن التغاضي عنها، في ظل الهزة التي خلفتها إجراءات الرئيس سعيد من جهة، والتصريحات المُعادية من قيادات إخوانية معروفة في ليبيا على غرار خالد المشري، الذي كان أول شخصية ليبية تهاجم علناً وصراحة الرئيس التونسي، وتتهمه بالانقلاب.
كما أن المناطق الجنوبية في تونس، فضلاً عن تضررها من الوضع العام في البلاد منذ 2011، وهي التي لم تشهد ما يشفع لحركة النهضة الحاكمة لدى سكانها من المؤيدين أو الأنصار السابقين، يمكن أن تشكل الخاصرة الرخوة التي تسمح للإرهاب بالعودة إلى المشهد التونسي من جديد.
فالناظر إلى هذه المناطق يمكنه أن يُلاحظ أن عدداً كبيراً من قيادات الحركة الإسلامية في تونس من النهضة إلى داعش، وصولاً إلى فروع السلفية الجهادية، من أبناء هذه المنطقة التي شكلت على مر تاريخ تونس، خاصة بعد الاستقلال، معقل المعارضة من جهة، وأقل المناطق حظاً في التنمية والرفاه ثانياً. فالغنوشي وأقرب مساعديه من ولاية قابس المحاذية لولاية مدنين (جنوب شرق تونس)، وعلي العريض وشقيقه عامر، القياديان البارزان في النهضة، من ولاية مدنين، مسقط رأس القيادي المتطرف الآخر في النهضة عبدالمجيد النجار، رئيس فرع الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين بتونس.
وبالنظر إلى طبيعة العلاقات الاجتماعية في هذه المناطق الجنوبية التي تتميز بالروابط العشائرية والقبلية التي تربط أبناءها، فإن من شأن ذلك تبرير بعض الانتشار لرموز الإسلام السياسي فيها بالولاءات العشائرية أو القبلية أيضاً، ما يعني أنه انتماء قابل للتمدد عند الأزمات والمشاكل، إلى مدى خطير أحياناً، ممثلاً في هذه الحالة في اللجوء إلى الإرهاب والعنف.
خطر قائم:
تؤكد هذه المعطيات أن خطر الإرهاب لم ينحسر تماماً في تونس، وبعد التطورات الأخيرة لن يكون مفاجئاً، خاصة إذا انفجرت النهضة من الداخل، وتشكلت تيارات متشددة رسمياً من صلبها تدعو إلى العنف والخروج على الدولة، وحمل السلاح. وقد يؤدي ذلك إلى استقطاب عشرات التونسيين المشردين في الخارج، والموزعين على تنظيمات في سوريا والعراق وليبيا والصحراء الأفريقية، فضلاً عن مناطق صراع أخرى، مثل أفغانستان بعد عودة طالبان إلى الحكم؛ ليشكلوا خطراً حقيقياً على تونس، بسبب الخبرات الهائلة التي اكتسبوها على امتداد الأعوام الماضية، تنظيماً وتسليحاً وقتالاً.
وبالتالي فإن خطر عودة الإرهاب إلى الواجهة ليس فزاعة، كما كانت تروج بعض الأوساط التونسية على امتداد السنوات الماضية، في ظل توفر الأرضية الفكرية والتنظيمية والبشرية، والرغبة لدى بعض الأوساط في الداخل والخارج في تحريك هذه القوى الجاهزة والمؤثرة بالضرورة، ما يعني أن الرئيس قيس سعيد بعد 25 يوليو الماضي مطالب بنتائج سريعة وفورية لضمان استمرار الدعم الشعبي والسياسي الواسع الداخلي والخارجي الذي حصل عليه، لتفادي تصدع الجبهة التي تقف وراءه، ما يفتح المجال واسعاً لتسلل الإرهاب من جديد.