لا يختلف الكثير من الأمريكيين مع الرئيس الأمريكي، جو بايدن، حول ضرورة الانسحاب من أفغانستان، وأنه من غير المجدي التضحية بالأموال والأرواح الأمريكية في حرب لا يمكن الانتصار فيها. وعلى الرغم من ذلك، فإن سرعة انهيار القوات الأفغانية، التي أكد بايدن أنها الأكبر حجماً والأكثر كفاءة من بعض دول حلف شمال الأطلسي، أمام طالبان ومن دون قتال يذكر، فضلاً عن مشاهد الانسحاب الأمريكي الفوضوي، والذعر أثناء عمليات الأجلاء في مطار كابول قد أثارت استياءً شعبياً أمريكياً.
الارتدادات الداخلية
تعهد الرئيس الأمريكي جو بايدن، أثناء حملته الانتخابية، بإنهاء أطول حرب خاضتها أمريكا، وبعد سبعة أشهر من توليه الحكم، وسحبه القوات الأمريكية من أفغانستان بشكل كامل، تعرضت واشنطن لحرج كبير، في ضوء انهيار مؤسسات الدولة الأفغانية التي دعمتها واشنطن، اقتصادياً وعسكرياً، على مدار عقدين من الزمان، أمام حركة طالبان. وتهدد مشاهد الانسحاب الأمريكي غير المنظم، بهيمنة هذه القضية على فترة رئاسة بايدن، بل وعلى انتخابات التجديد النصفي في عام 2022.
ولا تزال الإدارة الأمريكية تُصمم على أنها لم تكن مخطئة في حساباتها بشأن انسحابها من أفغانستان قبل ذكرى 11 سبتمبر؛ فقد أكد وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، أنه "ليس من مصلحتنا ببساطة البقاء في أفغانستان"، محملاً المسؤولية إلى القوات الأفغانية التي لم تتمكن من الدفاع عن البلاد، وبالمثل، خرج الرئيس الأمريكي "جو بايدن" عن صمته في 16 أغسطس الجاري، وقال إن الولايات المتحدة الأمريكية لم تكن لتستقر في أفغانستان للأبد.
وأسفرت أزمة انهيار الحكومة الأفغانية أمام تقدم حركة طالبان ودخولها إلى العاصمة الأفغانية كابول عن بروز عدد من الحقائق من شأنها أن تؤثر سلباً على شعبية الإدارة الأمريكية الجديدة بقيادة الرئيس جو بايدن، والتي لم تتجاوز عامها الأول في البيت الأبيض:
1- سوء تقديرات الرئيس الأمريكي: قال الرئيس الأمريكي، جو بايدن، في 9 يوليو الماضي أنه من غير المرجح أن تتغلب طالبان على كل شيء، وتسيطر على الدولة بأكملها، مؤكداً أن "قوة طالبان التي يبلغ قوامها حوالي 75 ألف مقاتل لا تضاهي 300 ألف من قوات الأمن الأفغانية".
ومع استيلاء حركة طالبان على السلطة قبل موعد 31 أغسطس، يتضح تضليل الخطاب الرئاسي الأمريكي الموجه إلى الداخل، إذ تكشف تقارير المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية أن حجم الجيش الأفغاني لا يتجاوز 178 ألف جندي، كما أن الحجم الإجمالي لهذه القوات قد شهد انخفاضاً بحوالي 25% في عام 2020 وحده، بسبب الخسائر في صفوف هذه القوات، فضلاً عن انشقاق بعضها أثناء المواجهات مع طالبان، وهو ما يعني في النهاية أن حجم قوات الجيش الأفغاني لم تفق بنسبة كبيرة حجم نظيرتها في طالبان.
كما تثار الكثير من علامات الاستفهام حول المبالغة في التقديرات التي تؤكد أن الولايات المتحدة أنفقت 83 مليار دولار منذ عام 2001 على تدريب قوات الأمن الأفغانية وتجهيزها، ثم ما لبثت أن انهارت بهذه السهولة.
2- فشل تحقيق الهدف الرئيسي: أكد الرئيس بايدن أن المهمة الرئيسية للجيش الأمريكي في أفغانستان هو القضاء على القاعدة، التي شنّت هجمات الحادي عشر من سبتمبر ضد واشنطن. وعلى الرغم من التدخل العسكري الأمريكي على مدار ثلاثة إدارات أمريكية متعاقبة، وفقدان نحو 2400 جندي أمريكي، وأكثر من 20 ألف مصاب، لم تتمكن هذه الإدارات من دحر تنظيم القاعدة، والحد من قدرة التنظيم على استهداف الأراضي الأمريكية.
فقد أكد رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة، الجنرال مارك ميلي، لأعضاء مجلس الشيوخ في أغسطس 2021، أن الولايات المتحدة قد تواجه زيادة في "التهديدات الإرهابية من أفغانستان". وأكد زير الدفاع لويد أوستن للكونجرس أنه يعتزم "إعادة تقييم" احتمالية قيام الجماعات الإرهابية مثل "القاعدة" و"داعش"، بإعادة تشكيل نفسها داخل أفغانستان في ضوء استيلاء طالبان على السلطة، بينما أشار البنتاجون في تقريره الربع سنوي للكونجرس الأمريكي أن طالبان: "واصلت الحفاظ على العلاقات مع القاعدة، وتوفير ملاذ آمن لجماعة إرهابية في أفغانستان".
3- حرج الاستخبارات الأمريكية: ركزت كل التقييمات الاستخباراتية الأمريكية التي كانت تقدم إلى الرئيس بايدن أثناء اتخاذ قرار الانسحاب من أفغانستان، على مقدار قوة الجيش الأفغاني المدرب والمسلح أمريكياً، وصموده أمام تقدم طالبان.
وذهبت أكثر تقديرات الاستخبارات المركزية الأمريكية تشاؤماً إلى أن طالبان سوف تحتاج إلى عام ونصف للسيطرة على كابول، قبل أن تعدل تقييمها مع توسع سيطرة طالبان على أفغانستان مطلع أغسطس، وتضعها عند حوالي شهر واحد، لتستولي بعدها طالبان على كابول بد صدور التقييم الأخير بعدة أيام.
ولم تأخذ تقديرات الاستخبارات الأمريكية، في الاعتبار، ضعف العقيدة القتالية لهذا الجيش، وحجم اعتماده على الدعم والإسناد العسكري الأمريكي، وأنه بمجرد انسحاب هذه القوات، فإن هذه القوات سوف تنهار بسهولة.
تحديات ثلاث:
في ضوء هذه الحقائق الثلاثة السابقة، من المتوقع أن يواجه الرئيس الأمريكي جو بايدن داخلياً ثلاث مشكلات رئيسة:
1- تراجع شعبية الرئيس: أفاد أحدث استطلاعات الرأي في الولايات المتحدة أن معدل التأييد للرئيس جو بايدن تراجع سبع نقاط مئوية، ووصل إلى أدنى مستوى له تزامناً مع انهيار الحكومة الأفغانية المدعومة من الولايات المتحدة.
وقد كشف الاستطلاع في 16 أغسطس الجاري أن 46% من الأمريكيين البالغين يوافقون على أداء بايدن في منصبه، وهي أقل نسبة تم تسجيلها في استطلاعات الرأي الأسبوعية التي بدأت عندما تولى بايدن منصبه في يناير الماضي، نظراً لأن استيلاء طالبان على السلطة كشف عن سوء تخطيط الإدارة الأمريكية لعملية الانسحاب.
2- تداعيات محتملة على انتخابات التجديد النصفي: يسعى الجمهوريون لاستغلال الانسحاب الأمريكي من أفغانستان لشن هجوم على الرئيس بايدن، وإضعاف الديمقراطيين الذين يسيطرون على مقاعد الكونجرس، وبالتالي، خسارتهم انتخابات التجديد النصفي عام 2022 أمام الجمهوريين. ووضح ذلك في التراشق بين الجمهوريين والديمقراطيين حول تحميل كل طرف مسؤولية الانسحاب من أفغانستان للآخر.
ويعقد الكثير من الأمريكيين مقارنة سقوط كابول بسقوط سايغون في يد الفيتناميين الشماليين عام 1975، ويحاول الجمهوريون الترويج لفكرة أن بايدن خسر الحرب في أفغانستان، وأنه سيتحمَّل المسؤولية المباشرة، إذا نكلت طالبان بالأفغان الذين تعاونوا مع الجيش الأمريكي.
3- تنامي فرص وقوع هجمات إرهابية: يرى بعض الأمريكيين أن استيلاء طالبان على السلطة في أفغانستان من شأنه إعادة سيناريو ما قبل أحداث 11 سبتمبر، إذ ستوفر حركة طالبان ملاذاً آمناً للجماعات الإرهابية، لاسيّما تنظيم القاعدة، وهو ما يضع على واشنطن مزيداً من العبء لحماية أمنها قومي، خشية من تكرار سيناريو هجمات 11 سبتمبر.
ويشير آخرون إلى أنه في أعقاب انسحاب واشنطن من أفغانستان، فإن القدرات الاستخباراتية الأمريكية سوف تتراجع، ولن تتمكن من مراقبة تنظيم القاعدة أو توجيه ضربات له، كما أن التنظيم قد يكون استفاد من التطورات الأخيرة، وتمكن من الاستيلاء على بعض الأموال المنهوبة من البنك المركزي الأفغاني، والأسلحة الأمريكية من الجيش الأفغاني المهزوم.
كوابح التأثير:
على الرغم من التداعيات السابقة، فإنه يتوقع أن تكون في حدها الأدنى على بايدن، وهو ما يرتبط بعاملين أساسيين:
1- نسيان الشعب الأمريكي: يتوقع مسؤولو البيت الأبيض والمقربون من بايدن، ألا يضر قراره بالديمقراطيين، سواء في انتخابات التجديد النصفي العام المقبل، ولا بالسباق الرئاسي في 2024، لأنهم يرون أن القرار حقق ما تعهد بايدن بتنفيذه خلال حملة عام 2020 بإنهاء "الحروب الأبدية". كما أنهم يراهنون كذلك على نسيان أفغانستان، فالناخبون يهتمون، في نهاية المطاف، بالأشياء التي تؤثر فيهم وفي أسرهم.
2- برجماتية حركة طالبان: تسعى طالبان لتقديم نفسها للمجتمع الدولي باعتبارها حكومة قادرة على ضبط الأمن، وإقامة علاقات دولية. واتضح ذلك في عدة مواقف أبرزها تفاوضها مع القوى السياسية الأفغانية، وتأكيدها على العفو عن الرئيس الأفغاني السابق، والمسؤولين السابقين، بل ودعوتهم للعودة إلى أفغانستان.
كما أن الحركة تدرك أن الولايات المتحدة قد تفرض عليها عقوبات اقتصادية تجعل من قدرتها على إدارة أفغانستان أمراً شديد الصعوبة. ولذا، فإنه يتوقع أن تقوم بتحجيم التنظيمات الإرهابية على أراضيها، نظراً لسعيها لعدم استعداء واشنطن، أو القوى الدولية المجاورة، والمعنية بعلاقة طالبان بالتنظيمات الإرهابية، على غرار الصين وروسيا.
وفي التقدير، فإن مشاهد الانسحاب الأمريكي الفوضوي من أفغانستان قد لا تكون لها تداعيات ممتدة على شعبية الرئيس الأمريكي جو بايدن، أو الديمقراطيين، سواء في انتخابات التجديد النصفي، أو انتخابات الرئاسة التي تليها، وطالما أن الولايات المتحدة لم تشهد وقوع عمليات إرهابية يتم التخطيط لها من أفغانستان.