أكدت هوا تشون ينغ، المتحدثة باسم الخارجية الصينية، في 16 أغسطس أن سلطات بلادها تأمل بأن تفي طالبان بوعودها، وتوقف الحرب في أفغانستان، وذلك بعد سيطرة طالبان على العاصمة الأفغانية كابول، كما شددت على ضرورة أن يتم تقرير مصير هذا البلد، من جانب الشعب الأفغاني نفسه. وأكدت المتحدثة الصينية، أن السفارة الصينية في كابل تعمل كالمعتاد وأن معظم مواطني الصين الذين كانوا في أفغانستان، عادوا إلى بلادهم بمساعدة السفارة الصينية.
مصالح الصين في أفغانستان
عيّنت الصين في 21 يوليو يويشياويونج، الدبلوماسي المخضرم ذا الخبرة بالسياسة الأمريكية والشرق أوسطية، مبعوثاً خاصاً جديداً لها إلى أفغانستان. ويشير تعيين مبعوث جديد لأفغانستان إلى رغبة بكين في الانخراط بشكل أكبر في أفغانستان بعد انسحاب القوات الأمريكية. ويمكن القول إن أفغانستان تمثل أهمية كبيرة للصين، ليس فقط من منظور أمني، باعتبارها الفناء الخلفي للصين، ولكن كذلك لاعتبارات اقتصادية، وهو ما يمكن تفصيله على النحو التالي:
1- التخلص من التهديد الأمريكي: شكل الوجود العسكري الأمريكي في "الفناء الخلفي" للصين في أفغانستان تهديداً استراتيجياً خطيراً للصين. وكانت بكين تأمل بالتأكيد أن تنسحب الولايات المتحدة من هناك، ولكنها كانت ترغب فقط في أن يتم الانسحاب بشكل منظم، وبعد أن يتم التوصل إلى اتفاق سلام بين طالبان والحكومة الأفغانية.
ويلاحظ أنه في مقال رأي افتتاحي نشر في جريدة "جلوبال تايمز" الصينية الحكومية، أرسل المقال تهديداً إلى تايوان، التي تعتبرها الصين جزءاً لا يتجزأ من ترابها الوطني، إذ يؤكد المقال أن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان قد أظهر أن الولايات المتحدة، أقرب وأقوى حلفاء تايوان، لن تساعد تايوان عندما تكون في أمس الحاجة إليها. ويكشف ذلك الأمر عن حجم الارتياح الصيني للانسحاب الأمريكي من أفغانستان، والذي عبرت عنه كذلك تصريحات المسؤولين الصينيين، فقد أكد وزير الخارجية الصيني وانج يي دعم بلاده لأفغانستان كدولة مستقلة ومحايدة تنتهج سياسة إسلامية معتدلة. وأضاف أن بلاده تولي اهتماماً كبيراً بشراكة التعاون الاستراتيجية بين الصين وأفغانستان، ومستعدة للعمل للتحضير لاتصالات رفيعة المستوى بين البلدين، وهو ما يعني أن بكين ترى أن حجم الفرص النابعة من أفغانستان بعد الانسحاب الأمريكي يفوق التهديدات.
2- عدم تحوّل أفغانستان إلى ملاذ آمن للإرهاب: تعد طالبان من الجماعات الإرهابية الاستراتيجية التي توظف الإرهاب من أجل تحقيق أهداف ضيقة وواضحة، فهي لا تسعى إلى إقامة دولة إسلامية عالمية على غرار القاعدة، ولكنها تسعى لحكم أفغانستان بصورة أساسية، ولذلك يمكن للصين أن تتواصل معها لضبط حركة الإيجور، خاصة أن طالبان تسعى لحكم أفغانستان، وأن تكسب اعترافاً دولياً.
وأعلن متحدث باسم حركة طالبان، في 28 يوليو، أن وفداً من قادة طالبان التقى في الصين بوزير الخارجية الصيني ومسؤولين من الدبلوماسية الصينية. وأكدت طالبان للصين أن الأراضي الأفغانية لن تُستخدم ضد أمن أي بلد كان. وفي المقابل وعد المسؤولون الصينيون بعدم التدخل في الشؤون الأفغانية، إنما على العكس المساعدة في حلّ المشاكل وإرساء السلام.
وتعد قضية الإيجور من القضايا التي تثير هواجس الصين، وكانت بكين تسعى للتوصل لتفاهمات مع طالبان لتحجيم حركة المتطرفين الإيجور الصينيين، حيث تتركز هذه الإثنية في إقليم شينجيانغ المجاور للصين. وعلى الرغم من أن نجاح طالبان في أفغانستان يمكن أن يمثل نموذجاً يحتذي به مقاتلو الإيجور، فإن القبضة الأمنية للصين تجعل مثل هذا الاحتمال ضعيفاً.
ومن جانب آخر، ألقت كابول القبض على خلية تجسس صينية في فبراير 2021، بناء على معلومات استخباراتية من الهند، ووجدت "إدارة الأمن الوطني"، جهاز الاستخبارات الأفغاني، الذي ألقى القبض عليهم أن اثنين منهم كانا على اتصال بشبكة حقاني الإرهابية. وكانت بكين تستهدف من ذلك توظيف حقاني لتعقب المقاتلين الإيجور، وهو ما يؤشر إلى نجاح بكين في إدارة مصالحها في أفغانستان ببرجماتية شديدة، وبصورة تمكنها من التوصل لتفاهمات مع أي جماعة داخل أفغانستان.
3- إدماج أفغانستان في مبادرة الحزام والطريق: يرتبط اهتمام الصين بأفغانستان كذلك بمبادرة الحزام والطريق، وهناك خياران رئيسيان لربط أفغانستان بالمبادرة، أحدهما عبر ربط أفغانستان بالممر الاقتصادي – الصيني الباكستاني، إذ ترتبط أفغانستان بباكستان من خلال أربع نقاط للسكك الحديدية في مقاطعات هلمند وقندهار وخوست وننكرهار، والتي يمكن ربطها بالممر الاقتصادي الصيني – الباكستاني.
وهناك خيار آخر لربط أفغانستان بمبادرة الحزام والطريق الصينية، وذلك من خلال آسيا الوسطى. وكان قد تم تحقيق بعض الإنجازات في هذا الإطار. ففي سبتمبر 2016، وصل أول قطار صيني يحمل بضائع من الصين إلى وأفغانستان إلى المعبر البري والمدينة الحدودية حيراتان في مقاطعة بلخ الشمالية، غير أنه تم تعليق الخدمة بسبب المخاوف الأمنية وتراجع البنية التحتية. ويربط ذلك الطريق أفغانستان بالصين عبر السكك الحديدية بآسيا الوسطى، حيث يمر أيضاً الحزام الاقتصادي لطريق الحرير التابع لمبادرة الحزام والطريق، ويوفر المزيد من الإمكانات لأفغانستان للاندماج فيه.
ونظراً لأن باكستان تعد حليفاً لحركة طالبان، كما أن إسلام آباد تتهم بدعم الحركة عسكرياً بالسلاح والمناصرين، فإن إمكانية نشوء تعاون صيني – باكستاني – أفغاني أمر لا يمكن استبعاده، كما أن مثل هذا التطور سوف تكون له أبعاد جيوسياسية، إذ إن الصين وباكستان تناصبان الهند العداء. كما أن الربط التجاري بين الدول الثلاث قد يكون على حساب مشروع ميناء تشابهار الإيراني، المدعوم من الهند، والذي تم تدشين الاتفاق الخاص به في مايو 2016 بين إيران والهند وأفغانستان.
وترغب الهند في إقامة ممر جديد لنقل البضائع إلى أفغانستان التي لا توجد لها منافذ بحرية، عبر إيران، وبصورة تقلص اعتمادها على باكستان، كما أن الميناء يمكن أن يكون مدخلاً كذلك للتجارة لباقي دول آسيا الوسطى، وهو ما يأتي على حساب باكستان مرة أخرى، إذ إنها لعبت على مدار سنوات دور الممر إلى دول آسيا الوسطى عبر ميناء كراتشي. ولا شك أن ربط أفغانستان بمشروع الطوق والطريق الصيني سوف يمكن باكستان من تأكيد مركزيتها في التجارة، سواء بالنسبة لأفغانستان، أو دول آسيا الوسطى، وبصورة تجيء على حساب إيران.
سياسات بكين الأفغانية:
تتمثل سياسات بكين في التعامل مع طالبان، الحاكم الفعلي لأفغانستان، في التالي:
1- الاعتراف بطالبان: يتوقع أن تتجه الصين للاعتراف بطالبان كحاكم شرعي لأفغانستان، وهو الأمر الذي وضح في تصريح المتحدثة باسم الخارجية الصينية، هوا تشون ينغ، والتي أكدت أنه في حالة إيفاء طالبان بوعودها، فإن الصين مستعدة لإقامة "علاقات ودية" مع حركة طالبان.
2- تعزيز التفاهمات الدبلوماسية: سوف تواصل الصين تكثيف لقاءتها مع مسؤولي طالبان، على غرار الاجتماع الذي جمع بين الملا عبدالغني بارادار، زعيم طالبان، ووزير الخارجية الصيني أواخر يوليو 2021، والتي أكدت فيها طالبان أنّ أفغانستان لن تشكل قاعدة للانفصاليين الإيجور.
3- توجيه استثمارات صينية: قدمت بكين تلميحات لطالبان بتوجيه استثمارات صينية إليها، بما في ذلك "استثمارات كبيرة في مشاريع الطاقة والبنية التحتية". وفي حال نجاح طالبان في تحقيق الاستقرار في أفغانستان، وهو أمر مرجح بشدة، فإن الصين سوف تدمجها في مبادرة الحزام والطريق، مما يسمح لها بربط طرق التجارة التي تمر عبر آسيا الوسطى بتلك التي تمر عبر باكستان.
4- التنسيق مع حليف طالبان: تعد باكستان أقوى حلفاء الصين في جنوب آسيا، ونظراً للعلاقات القوية التي تجمع بين إسلام آباد وطالبان، فإنه يحتمل أن تحدث تفاهمات بين الأطراف الثلاثة، ليست فقط أمنية، ولكن اقتصادية كذلك.
5- التدخل العسكري المحدود: تدرك بكين جيداً مخاطر التورط عسكرياً في أفغانستان، والتي يُنظر إليها على أنها "فخ استراتيجي" أضعف القوى العظمى الأخرى التي احتلتها على مدار التاريخ. وتشير التحليلات الصينية إلى أفغانستان باعتبارها "مقبرة الإمبراطوريات". وفي ضوء ذلك، يتوقع ألا تتدخل الصين عسكرياً في أفغانستان، إلا لمواجهة إرهابيي الإيجور الذين يهددون أمنها بشكل مباشر، وإن كان من المتوقع أن يكون ذلك الأمر ملاذاً أخيراً، وبعد توظيف الوكلاء المسلحين على غرار شبكة حقاني، لمواجهة الإيجور.
6- دمج كابول في الهياكل الأمنية الصينية: يمكن أن تدعم الصين دمج أفغانستان في آليات وإطار عمل منظمة شنغهاي للتعاون، والتي هي منظمة إقليمية مكرسة لمناقشة القضايا الأمنية، ولا تمتلك أي قدرات عسكرية جماعية. وقد أسستها الصين وروسيا وكازاخستان وقيرغيزستان وأوزبكستان وطاجيكستان في عام 2001. وانضمت الهند وباكستان كأعضاء رسميين في عام 2017.
وفي المجمل، يمكن القول إن الحسابات الصينية ترى أن أفغانستان ما بعد الانسحاب الأمريكي توفر فرصاً لتحقيق المصالح الاقتصادية والأمنية الصينية، وأن أي تهديدات أمنية نابعة من أفغانستان سوف تكون محدودة بدرجة كبيرة.