إعداد: إسراء إسماعيل
تتسم العلاقات الأمريكية - الصينية بالخصوصية والطبيعة الاستثنائية، فغالباً ما توصف هذه العلاقات بأنها الأكثر أهمية في العالم، على اعتبار أنها علاقات بين الفاعلَين الأكثر تأثيراً في النظام الدولي. وقد مرت العلاقات بين واشنطن وبكين تاريخياً بأطوار عدة، تأرجحت ما بين التحسن حيناً والتوتر في أحيان أخرى. وتتجه العلاقات حالياً نحو مستقبل يكتنفه الغموض، خاصةً بعد أن قررت إدارة باراك أوباما سياسة "التحول نحو آسيا"، بما يجعل هذه العلاقات عرضة للتأثر بعدة عوامل، أبرزها مدى الثقة بين البلدين وخوف كل منهما من تقلب موازين القوى لصالح الآخر، على نحو قد يؤدي إلى نشوب صراع لا تبدو نتائجه معلومة بالطبع.
في هذا السياق نشر المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية (IISS) دراسة تحت عنوان: "حرب الفضاء الإلكتروني وعدم استقرار أزمة العلاقات الصينية - الأمريكية"، التي أعدها كلُ من ديفيد جومبرت David C. Gompert ومارتن ليبيكي Martin Libicki، الأستاذان في مركز دراسات الأمن الإلكتروني بالأكاديمية البحرية الأمريكية، حيث تناولت الدراسة خصائص الحرب الإلكترونية، وحالة عدم الاستقرار في العلاقات بين واشنطن وبكين، واحتمال اندلاع حرب إلكترونية بينهما وتداعيات ذلك.
أولاً: عدم الاستقرار في منطقة غرب المحيط الهادي
يشير الكاتبان إلى أن احتمال نشوب "حرب فضاء إلكتروني" بين كل من بكين وواشنطن، تجعل إحدى الدوليتن أو كليهما تميل إلى المبادرة بتوجيه الضربة الأولى، على اعتبار أن الدولة البادئة بالهجوم ستحقق تقدماً، مما يعطي كلا منهما الحافز لأخذ زمام المبادرة.
ومن المرجح أن يقود فتيل أي أزمة بين الولايات المتحدة والصين إلى اندلاع حرب نظامية بينهما، فوفقاً لما تضمنته الدراسة، فإن الصين تُؤمن بأن الطريقة المثلى - إن لم تكن الوحيدة - لتجنب الهزيمة تتمثل في القدرة على ضرب القوات الأمريكية قبل أن تتمكن من مهاجمتها. ولذلك قامت بصياغة الخطط وتوفير القدرات اللازمة لتطبيق مبدأ "منع الولوج والمنطقة المحرّمة" anti-access and area-denial (A2/AD)"، حيث يُستخدم مصطلح "منع الولوج" (A2 Anti-Access) للإشارة إلى التهديدات التي تمنع دخول القوات العسكرية من مسافات بعيدة، ويستعمل ذلك في الغالب ضد عمليات التقدم العسكرية من الجو أو من البحر.
أما مصطلح "المنطقة المحرّمة" (AD - Area Denial)، فيشير إلى العمليات العسكرية ووسائلها على مدى أقصر وبقدرات أقل، وهي مصممة للحد من حرية عمل القوات المعادية وتحركها باستخدام الأسلحة المختلفة في منطقة العمليات العسكرية نفسها أو القريبة منها.
ومن ثم تهدف الاستراتيجية الصينية إلى عدم ولوج حاملات الناقلات والقواعد الجوية وشبكات الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع الأمريكية بالقرب من أراضيها او حدودها البحرية، على اعتبار أن ذلك يعد تهديداً للأمن القومي الصيني.
ولمواجهة ذلك قامت واشنطن بتطوير استراتيجية "المعركة الجوية – البحرية" "Air Sea Battle"، بهدف تطوير شبكات وقوات متكاملة قادرة على الهجوم في العمق لتعطيل وتدمير قوات العدو عبر الجو والبر والبحر والإنترنت، على أن يكون ذلك إلى جانب الهجمات العسكرية التقليدية.
ومؤخراً تعالت الدعوات داخل الصين لتكثيف جهودها لتطوير قدرات حرب الفضاء الإلكتروني cyber-warfare ومضادات للأقمار الصناعية anti-satellite capabilities من أجل مواجهة استراتيجية واشنطن، وهي أدوات أكثر فعالية إذا استُخدمت أولاً قبل تلقي ضربات من قبل الطرف الآخر، مما يمثل أيضاً حافزاً للولايات المتحدة لبدء توجيه الضربة.
وتشير الدراسة إلى عدة مصادر للتوتر في شرق آسيا يمكن أن تتسبب في حدوث مواجهة بين الصين والولايات المتحدة، ومنها إقامة بكين منطقة للدفاع الجوي فوق جزر متنازع عليها في بحر الصين الشرقي، وهو ما يمكن أن يدفع واشنطن إلى عرض استخدام قواتها البحرية للتصدي لأي محاولات صينية للاستيلاء على هذه الجزر المتنازع عليها مع اليابان، كما أن عدم الاستقرار في كوريا الشمالية يمكن أن يحفز الصين والولايات المتحدة للتدخل لوضع أسلحة بيونج يانج النووية تحت السيطرة.
ثانياً: خصائص الهجمات عبر الفضاء الإلكتروني
تؤكد الدراسة على أن الهجوم الإلكتروني يستهدف تدمير الشبكات المعلوماتية التي يعتمد عليها الخصوم لتنفيذ عملياتهم العسكرية، ومن ثم فإن مثل هذا الهجوم الناجح لابد أن يتسم بالقدرة على تعطيل شبكات المعلومات وإسقاطها، أو بث معلومات خاطئة، وبذلك يعمل على تخريب ما يسمى "C4ISR" وهي الأنظمة الخاصة بالقيادة والسيطرة والاتصالات وأجهزة الحاسبات (الكمبيوتر) والاستخبارات والمراقبة والاستطلاع، وغيرها من القدرات العسكرية، بحيث تصبح الدولة عاجزة عن القيام بالعمليات العسكرية التقليدية.
من ناحية أخرى، تشير الدراسة إلى أن الحرب الإلكترونية لا تسبب من تلقاء نفسها حالة "عدم استقرار الأزمة crisis instability"، فكي تنجح في ذلك يجب أن يترافق استخدامها مع القدرات العسكرية التقليدية، ولكنها على الرغم من ذلك يمكن أن تؤدي إلى تفاقم حالة "عدم استقرار الأزمة"، وذلك لعدة أسباب تتسم بها الهجمات الإلكترونية:
أ- تميل آثار الهجوم الإلكتروني إلى أن تكون قصيرة المدى، فبمجرد إدراك الطرف الذي تم مهاجمته باختراق أحد شبكاته، يبدأ عملية تطهير أنظمته المتضررة، واستعادتها، وتأمينها أو عمل بدائل في خلال ساعات أو أيام فقط.
ب- يصعب تكرار الهجمات الإلكترونية بعد استخدامها للمرة الأولى، وذلك لأنها تنطوي على المكر والدهاء وليس القوة.
ج- قد يكون من الصعب على كل من المهاجم والمدافع تقييم آثار الهجوم الإلكتروني؛ فبالنسبة للمهاجم، ورغم معرفته بتفاصيل خطة الهجوم، فإنه لا يعرف بالضرورة مدى نجاح خطته. وبالنسبة للمدافع، فبالرغم من إدراكه أنه قد وقع خطأ ما، فإنه لا يعرف أيضاً إذا كان ذلك عرضياً أم مقصوداً، وبالتالي لا يعرف أين يبحث عن وجود أدلة على التخريب المتعمد.
د- يصعب التمييز بين عملية اختراق شبكة بهدف التجسس الإلكتروني، وبين اختراقها من أجل تخريبها، تمهيداً لشن هجوم عسكري نظامي؛ الأمر الذي قد يدفع الطرف الذي تمت مهاجمته إلى تفسير التجسس الإلكتروني على أنه تمهيد لقيام حرب، ويبدأ في التصرف والاستعداد وفقاً لهذا التصور.
هـ - قد يمر الهجوم الإلكتروني دون ملاحظته من قبل الهدف، فقد يتم صده من قبل أنظمة حماية الشبكة، أو أنه قد ينجح في اختراق أنظمة الحماية وإصابة المضيف، ولكن لا يترتب عليه ما يثير الملاحظة.
و- من السهل القيام بالهجمات الإلكترونية دون علم السلطات السياسية العليا في الدولة، حيث إن المهاجمين الإلكترونيين قد يكونون أقرب من المجتمع الاستخباراتي عن القوات المسلحة، ولذلك لا يمكن تجاهل فرضية نشوب الصراع دون علم السلطات السياسية.
وبشكل عام ترى الدراسة أن خطورة الحرب الإلكترونية تكمن في أنها قد تؤدي إلى تفاقم حالة "عدم استقرار الأزمة" ونشوب نزاع مسلح، وهذا مرده غموض آثارها وتعدد التفسيرات الخاصة بأهدافها.
ثالثاً: الأزمات الصينية - الأمريكية واحتمالات نشوب حرب
تحذر الدراسة من أن الهجمات الإلكترونية تنطوي على خطر التصعيد والوصول لمرحلة الحرب الإلكترونية العامة، التي تشمل المجال العسكري والمدني أيضاً. وفي هذا الصدد تواجه كل من واشنطن وبكين معضلة تتمثل في كيفية إجراء حرب إلكترونية ضد الشبكات الإلكترونية العسكرية للعدو (C4ISR) دون تجاوزها والعبور إلى المجالات المدنية، والتي قد تتسبب في الدخول في حرب إلكترونية مفتوحة ربما لا يمكن السيطرة عليها.
ويفترض الكاتبان أنه في حالة تصاعد الأزمة حول تايوان، فإن احتمال الدفاع الأمريكي عن الجزيرة وارد، وهو ما سيتبعه شن هجوم إلكتروني صيني. وفي هذه الحالة، فإن الولايات المتحدة قد تفترض أن هذا الهجوم يعد خطوة تمهيدية لشن ضربة عسكرية، وقد تلجأ إلى الرد العسكري؛ مما يتسبب في نشوب حرب بين البلدين، أو أنها قد تقرر الرد عبر القيام بهجمات إلكترونية مضادة، الأمر الذي قد يُساء تقديره في بكين ويتم تفسيره على أن الحرب باتت وشيكة، مما يُعجل بقيام ضربات عسكرية صينية ضد القوات الأمريكية، وقد يحدث هذا السيناريو بنفس الطريقة حتى إذا كانت الولايات المتحدة هي البادئة بشن الهجمات الإلكترونية، والنتيجة أن الهجمات الإلكترونية قد تؤدي وبسرعة إلى قيام حرب نظامية.
وطبقاً لتوقعات الكاتبين، فإنه من المرجح خلال المستقبل القريب أن تصبح حرب الفضاء الإلكتروني جزءاً لا يتجزأ من الحرب النظامية لكل من واشنطن وبكين، حيث أصبح يتم التعامل معها على نحو متزايد كمجال للحرب مثل الأرض أو البحر أو الجو، بدلاً من اعتباره حقل منفصل للصراع، وقد يكون لهذا تأثيرات متباينة على الاستقرار في منطقة غرب المحيط الهادي.
ختاماً، تؤكد الدراسة على أنه يمكن النظر إلى الحرب الإلكترونية كوسيلة منخفضة المخاطر نسبياً، تعمل على تخفيض قدرة العدو في الحفاظ على أنظمته وفيما توفره من قدرات متطورة، وبالتالي فقد تكون إغراءات استخدامها أكبر من مخاطرها، الأمر الذي يزيد من احتمالات المخاطرة باندلاع حرب نظامية، ومن ثم فإنه من الضروري التركيز على إقامة قنوات اتصال فعالة على أعلى المستويات السياسية لإدارة الأزمات، كما يجب على الولايات المتحدة والصين إجراء محادثات مباشرة لمناقشة أسباب زيادة احتمال اندلاع الحرب في حالة الاعتماد على حروب الفضاء الإلكتروني، وكيفية حدوث ذلك.
* عرض موجز لدراسة بعنوان: "حرب الفضاء الإلكتروني وعدم استقرار أزمة العلاقات الصينية الأمريكية"، المنشورة في أغسطس 2014 عن دورية Survival: Global Politics and Strategy، الصادرة عن معهد الدولي للدراسات الاستراتيجية (IISS).
المصدر:
David C. Gompert & Martin Libicki, Cyber Warfare and Sino-American Crisis Instability, Survival: Global Politics and Strategy, Volume 56, Number 4 (London: The International Institute for Strategic Studies, august – September 2014) PP 7-22.