بدأ أوائل هذا الشهر انسحاب القوات الأميركية المتبقية في أفغانستان بموجب الاتفاق الموقع بين ترامب وحركة «طالبان» في فبراير2020، وكان المفترض أن يشهد هذا الشهر (مايو2021) انتهاء الانسحاب لا بدايته، لكن الرئيس بايدن أرجأه لمراجعة جدواه ثم انتهى لتحديد موعد لإتمامه في سبتمبر القادم، أي في الذكرى العشرين للهجوم الأميركي على أفغانستان عقب أحداث 11سبتمبر2001 الإرهابية بسبب رفض «طالبان» التي كانت تتولى السلطة آنذاك تسليم ابن لادن، زعيم «القاعدة»، الذي اتهمته الولايات المتحدة رسمياً بالمسؤولية عن الأحداث. والواقع أن المرء يتحير في دلالة هذا التحديد الزمني لأنه يذكرنا بأن الولايات المتحدة لم تحقق أهدافها من العملية العسكرية التي قضت على حكم «طالبان» عقاباً لها على دورها في أحداث سبتمبر التي أدت إلى مقتل ما يزيد على 3 آلاف أميركي، لكن «طالبان» واصلت نشاطها حتى اضطُر ترامب إلى توقيع اتفاق معها. والطريف أن هذا الاتفاق كان ينص على انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان بعد 14 شهراً بشرط تعهد «طالبان» بمحاربة تنظيمي «القاعدة» و«داعش»، أي كأن الولايات المتحدة أنفقت ما يزيد على تسعمائة مليار دولار وفقاً لدراسة جامعة «براون» في 2019 وفقدت قرابة 2300 جندي وأكثر من 20 ألف جريح لكي تقنع «طالبان» بمحاربة «القاعدة» بدلاً من استضافتها! وكأن الولايات المتحدة احتاجت أكثر من 18 سنة لتكتشف أن «طالبان» ليست تنظيماً إرهابياً وتطلب منها محاربة التنظيمات الإرهابية، وهو بالمناسبة اكتشاف خاطئ على الأقل بالمعايير الأميركية التي اقتضت في 2001 ضرورة اجتثاث حكم «طالبان» لضلوعه في دعم الإرهاب العالمي.
ومن حسن الحظ أن كلاً من الرئيس الأميركي الذي اتخذ قراراً بالقضاء على «طالبان» (جورج بوش الابن)، والرئيس الذي اتفق معها على محاربة الإرهاب (دونالد ترامب) ينتميان معاً للحزب الجمهوري حتى لا يُقال بأن هذا التضارب راجع لاختلاف الرؤية بين الحزبين!
ويثير تطور السياسة الأميركية تجاه أفغانستان (2001-2021) على هذا النحو فكرة «حدود القوة العسكرية» في تحقيق أهداف الدول، فمن الصحيح أن مفهوم «القوة» في العلاقات الدولية مفهوم محوري، حتى إنه يمكن اختزال تحليل العلاقات الدولية في مفهومين هما «القوة» و«المصلحة»، فالدول تتحرك في الساحة الدولية بدافع من مصالحها كما تراها، لكنها لا تحقق من هذه المصالح إلا ما تسمح لها به قوتها. لكن الشائع أن يُنظر إلى مفهوم القوة باعتباره «القوة العسكرية»، وهذا غير دقيق، فليست القوة العسكرية سوى شكل من أشكال القوة، وقد ثبت غير ما مرة عجزها وحدها عن تحقيق أهداف الدول، والأمثلة عديدة أنتقي منها اثنين من خبرة الحرب الأميركية الفيتنامية في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته والغزو الأميركي للعراق (2003-2010). ففي الحالتين لم تمكّن القوة العسكرية الهائلة الولايات المتحدة من تحقيق أهدافها، إذ انتصر في تلك الحرب الفيتكونج المعارضون لنظام الحكم في جنوب فيتنام الذي حمته الولايات المتحدة بجنود وصل عددهم قرابة ربع مليون جندي مسلحين بأحدث الأسلحة وأشدها فتكاً، واجتاحوا «سايجون» العاصمة وتم توحيد شطري فيتنام. وفي الحالة العراقية خسرت الولايات المتحدة وفقاً لأرقامها الرسمية ما يزيد على 3 آلاف جندي و30 ألف جريح لكي تؤدي تداعيات السياسة الأميركية في العراق بعد الغزو إلى تسليم العراق للنفوذ الإيراني على طبق من ذهب.
ولا يعني هذا أن القوة العسكرية بلا جدوى بطبيعة الحال، ولكن المعنى بالتأكيد أن الاستخدام غير الرشيد لها قد يفضي إلى الهزيمة أو يؤدي إلى نتائج عكسية، وتحتاج فكرة «حدود القوة العسكرية» إلى نقاش معمق خاصة في ظل الظروف العالمية والإقليمية الراهنة التي تشهد اضطراباً واسعاً.
*نقلا عن صحيفة الاتحاد