بدأت اجتماعات الجولة الرابعة من مفاوضات فيينا التي تعقد بين إيران ومجموعة "4+1" بمشاركة أمريكية غير مباشرة في 7 مايو الجاري، حيث تتواصل جلسات اللجان الثلاثة الخاصة برفع العقوبات الأمريكية والالتزامات الإيرانية في الاتفاق النووي والتنسيق بين الطرفين، من أجل تقليص فجوة الخلافات القائمة وتعزيز فرص الوصول إلى تسوية جديدة لأزمة الاتفاق النووي. لكن كان لافتاً أنه رغم تأكيد العديد من المسئولين المشاركين في المفاوضات على أنها "تمضى في المسار الصحيح"، إلا أن ذلك لا ينفي أن هناك إشارات سلبية أخرى بدأت أطراف عديدة في توجيهها، توحي بأنها لم تعد تستبعد انهيار المفاوضات والعودة من جديد إلى المربع الأول للأزمة. فقد قال الرئيس الأمريكي جو بايدن، في 7 مايو الجاري، أن "إيران جادة في المفاوضات لكن ليس من الواضح إلى أى مدى". وكان وزير الخارجية الأمريكي انتوني بلينكين أكثر وضوحاً، عندما أشار إلى أن "واشنطن لا تعلم ما إذا كانت إيران مستعدة لاتخاذ القرارات المطلوبة للعودة إلى الامتثال للاتفاق".
رسائل الداخل:
تطرح تلك التصريحات دلالة رئيسية تتمثل في أن واشنطن تراقب بدقة تطورات الصراع السياسي الداخلي في إيران، لاسيما بعد تسريب حوار وزير الخارجية محمد جواد ظريف، وباتت ترى أن ذلك قد يعني أمرين: الأول، أن إيران لم تحسم، في الغالب، موقفها بعد من النتائج التي يمكن أن تنتهي إليها المفاوضات، وأن سماح المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي بوصول الصراع إلى هذا المستوى يعني أنه لم يتخذ بعد القرار الخاص بالوصول إلى صفقة مع القوى الدولية حول الاتفاق النووي.
والثاني، أن القيادة العليا في طهران تسعى عبر تصدير هذه الأزمة إلى الخارج وتصويرها على أنها صراع على صنع قرار السياسة الخارجية، إلى ممارسة ضغوط أقوى على القوى الدولية وإقناعها بتقديم تنازلات أكبر من أجل تمرير الصفقة في الداخل، على أساس أن أى صفقة يمكن أن لا تلبي مطالب تيار المحافظين الأصوليين الذي يوجه انتقادات مستمرة لأسلوب إدارة حكومة الرئيس حسن روحاني للمفاوضات مع مجموعة "4+1" لن تحظى بدعم داخلي، وقد تدفع طهران إلى رفضها والتمسك بموقفها الحالي. وقد كان لافتاً في هذا السياق، أن بعض أقطاب تيار المحافظين الأصوليين بدءوا في التلويح باقتراب موعد انتهاء المهلة التي حددها البرلمان للقوى الدولية من أجل رفع العقوبات قبل أن يقدم على اتخاذ خطوات تصعيدية جديدة ضد الوكالة الدولية للطاقة الذرية، في 23 مايو الجاري، بنزع الكاميرات الموجودة في المنشآت النووية، على نحو سوف يحول دون مراقبة الأنشطة النووية الإيرانية في الشهور الثلاثة الأخيرة.
محاور جديدة:
ربما يمكن القول إن ثمة محاور خلافية أخرى بدأت في الظهور، أو بمعنى أدق بدأت في النضوج، خلال الجولات الأربعة التي جرت فيها المفاوضات، على نحو ساهم في تأخير حسم الصفقة وإطالة أمد المفاوضات. وتتمثل أبرز تلك المحاور في:
1-معضلة أجهزة الطرد المركزي: بدأت أطراف عديدة مشاركة في المفاوضات، في إثارة تساؤلات حول مستقبل أجهزة الطرد المركزي الأكثر تطوراً التي أعلنت عنها إيران وبدأت في استخدامها فعلاً داخل منشآت تخصيب اليورانيوم في ناتانز وفوردو، على غرار جهازى "IR4" و"IR6"، واعتمدت عليهما في رفع مستوى التخصيب إلى 20% ثم إلى 60%. وقد أشارت تقارير عديدة إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية طالبت، عبر الوسطاء، بتدمير تلك الأجهزة أو نقلها خارج إيران، وهو ما ترفضه الأخيرة بالطبع، التي تصر على أن الاتفاق النووي ينص على تخزين الأجهزة الأكثر تطوراً تحت إشراف الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
وهنا، فإن المسألة تتعلق بانعدام الثقة. إذ لا تستبعد إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن أن تعود إيران من جديد إلى التلويح باستخدام تلك الأجهزة، عند نشوب أى خلاف حول آليات تنفيذ الاتفاق النووي. وبعبارة أدق، فإن إدارة بايدن ترى أن بقاء تلك الأجهزة في حوزة إيران يعني منحها ورقة ضغط فعّالة. والمسألة في هذا السياق لا تتعلق بهذه الأجهزة في حد ذاتها، وإنما تتصل بأن وجود تلك الأجهزة، حتى لو تعرضت لمشكلات فنية ناجمة عن التخزين، في حوزة إيران، قد يكون معناه اختصار الوقت الذي يمكن أن تحتاجه لإعادة تطوير برنامجها النووي، في حالة نشوب أزمة جديدة مع القوى الدولية، بشكل يمكن أن يقربها من المرحلة التي تسعى الأخيرة إلى الحيلولة دون الوصول إليها، وهى امتلاك القدرة على إنتاج القنبلة النووية.
2- مستوى العقوبات: ربما يكون أحد أهداف إيران، بالفعل، من إطالة أمد المفاوضات أو الاستغراق في التفاصيل الفنية والمعقدة، فضلاً عن إثارة أزمة تسريبات حوار ظريف، هو فرض خيارات محدودة أمام الولايات المتحدة الأمريكية، والضغط عليها لتوسيع نطاق العقوبات التي يمكن أن ترفعها بالتوازي مع اتجاه إيران إلى العودة من جديد للالتزام بتعهداتها في الاتفاق النووي. وهنا، كان لافتاً أن إيران ما زالت تطالب برفع "كامل" العقوبات المفروضة عليها، وهو ما ترد عليه إدارة بايدن بأن ذلك ليس وارداً، حتى لو أدى الأمر إلى المجازفة بتجميد المفاوضات وانهيارها، باعتبار أن هناك عقوبات ليست لها علاقة مباشرة بالاتفاق النووي، على غرار العقوبات الخاصة بالاتهامات الموجهة لإيران بدعم الإرهاب، وانتهاكات حقوق الإنسان. وقد أشارت تقارير عديدة إلى أن المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني رفض المقترح الأمريكي الذي تسلمه مساعد وزير الخارجية رئيس وفد التفاوض عباس عراقجي، والخاص بمستوى العقوبات التي يمكن أن ترفعها الولايات المتحدة الأمريكية عن إيران في حالة الوصول إلى اتفاق. وربما يكون ذلك هو السبب في التصريحات الأخيرة التي بدأت في التلميح إلى أن خيار انهيار المفاوضات لم يعد مستبعداً.
3- ثغرة الصواريخ: رغم أنه لم تظهر بوادر لخلافات بين إيران والقوى الدولية حول البند الخاص ببرنامج الصواريخ الباليستية، لاسيما في قرار مجلس الأمن رقم 2231 الخاص بالاتفاق النووي، إلا أنه قد تبرز بالفعل في الجولة الحالية، أو أى جولة قادمة في حالة ما إذا توافقت الأطراف المشاركة على ضرورة إفساح المجال أمام إجراء مزيد من المفاوضات. وهنا، فإن الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية عموماً قد تصر على ضرورة التزام إيران بعدم الالتفاف على الصياغة الفضفاضة التي وردت بخصوص الأنشطة المرتبطة ببرنامج الصواريخ الباليستية، والتي استغلتها إيران في الأعوام الماضية لإجراء مزيد من التجارب الخاصة بتلك الصواريخ، مستندة إلى أن الصواريخ التي تمتلكها ليست مصممة لحمل أسلحة نووية، بما يخرجها من نطاق الصواريخ التي ينص القرار الأممي على ضرورة التوقف عن إجراء أنشطة حاصة بها.
وربما تحاول الإدارة الأمريكية إثارة هذا المحور الخلافي، للاستعاضة عن استبعاد الملفات الخلافية الأخرى من المفاوضات التي تجري حالياً في فيينا، حيث كانت تصر في البداية على ضرورة إجراء مفاوضات شاملة تتضمن البرنامجين النووي والصاروخي والدور الإقليمي، لكنها اتجهت في النهاية إلى حصر المفاوضات في البرنامج النووي، اعتماداً على أن الوصول إلى صفقة في هذا السياق قد يهيئ المجال أمام إجراء مزيد من المفاوضات في مرحلة لاحقة حول الملفين الآخرين، وهى مقاربة تواجه إشكاليات عديدة أهمها رفض إيران لها، وصعوبة إقدامها على تقديم تنازلات في هذا الملفين تحديداً.
من هنا، يمكن القول، إن إطالة أمد المفاوضات الحالية يمثل نتيجة مباشرة لعمق وتعدد الخلافات العالقة بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، خاصة في ظل الارتباط الوثيق بين البرنامج النووي والملفات الخلافية الأخرى، لاسيما البرنامج الصاروخي والدور الإقليمي، فضلاً عن تشابك وتعقد مصالح وحسابات القوى الإقليمية والدولية المعنية بما يجري من مفاوضات في فيينا وما يمكن أن تفرضه من معطيات في النهاية.