نشر مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة تقريرا يوضح موقف البنوك المركزية من الأزمات التى تحدث فى دول الشرق الأوسط.. نعرض منه ما يلى:
يتناول التقرير الأزمات التى شهدتها بعض البنوك المركزية فى منطقة الشرق الأوسط، خلال الأشهر القليلة الماضية، وكيف تفسر التفاعلات التى جرت فى منطقة الشرق الأوسط، وذلك على النحو التالى
ففى ليبيا، طالب أعضاء مجلس النواب الليبى بتغيير هوية محافظ البنك المركزى: وهو الصديق الكبير الذى ينتمى إلى جماعة الإخوان وبقى فى منصبه لمدة عشر سنوات، إذ تمكنت الأخيرة عبر ذراعها السياسية (حزب العدالة والبناء) من السيطرة على مفاصل الدولة الهشة بطبيعتها ومناصبها السيادية ومن بينها البنك المركزى. غير أنه بعد تشكيل السلطة الليبية الجديدة، ظهرت ضغوط من مجلس النواب برئاسة عقيلة صالح لإقالة الصديق الكبير تنفيذا لمخرجات الاتفاق السياسى القاضى بإعادة تسمية شخصيات جديدة لشغل المناصب السيادية.
وقد شهدت فترة شغل الكبير المنصب تجاوزات مالية بما يعزز من هيمنة فصيل الإخوان عبر صرف رواتب لميلشيات وعقد صفقات سلاح مشبوهة والتلاعب بالأموال المجمدة. وفى هذا السياق، تقوم شركة استشارية دولية بالمراجعة المالية لحساب مصرف ليبيا المركزى بما يحدد مصير هذا المحافظ. ووفقا لبيان أصدرته بعثة الأمم المتحدة للدعم فى ليبيا فى 7 أبريل الجارى، فإن الشركة ستصدر توصيات حول تحسين نزاهة ووحدة النظام المصرفى فى البلاد، إضافة إلى خطوات توحيد المصرف المركزى، وتعزيز المساءلة والشفافية.
وتجدر الإشارة إلى أن ثمة أبعادا مفسرة للمطالبة بإزاحة محافظ البنك المركزى الليبى، الصديق الكبير من منصبه، تتجاوز ما أعلنه مجلس النواب بشأن رفض إقرار الميزانية الجديدة، وهى تكريس الدور السياسى للبرلمان، إذ إن الأخير تدخل فى عملية اختيار الوزراء، فضلا عن دوره فى إقرار موازنة الحكومة. إلى جانب تأكيد عملية المحاصصة الإقليمية، إذ توصلت الأطراف الليبية إلى أن يكون منصب محافظ البنك المركزى من نصيب إقليم «برقة» مقابل أن تكون وزارة المالية من نصيب إقليم «فزان» كنوع من التوازن فى المحاصصة الخاصة بالمناصب الحكومية والسيادية فى الملف الاقتصادى.
وكذلك هناك عامل يتعلق باستمرار حالة الصراع السياسى مع الإخوان وتحديدا بين البرلمان ومجلس الدولة الاستشارى، إذ إن الأخير يقوده الإخوانى خالد المشرى الذى أعلن أنه لن يرفض الموازنة لأنه لا يريد عرقلة عمل الحكومة على الرغم من تحفظاته على بعض بنودها، لكن فى خلفية هذا المشهد يؤكد مجلس الدولة على دعمه لمحافظ البنك المركزى الإخوانى. علاوة على تصاعد الغضب ضد أداء محافظ البنك المركزى وخاصة من وزارة الداخلية التى كشفت عن حجم هائل من الفساد المالى والإدارى لديه، مما قد يؤدى إلى عرقلة خطة الإصلاح. فضلا عن الحفاظ على مصداقية المؤسسات المالية الليبية.
أما فى اليمن، استخدمت معلومات البنك المركزى لانتهاك السرية. فقامت ميليشيا المتمردين الحوثيين باستخدام وحدة جمع المعلومات فى البنك المركزى بصنعاء لتنفيذ خطتها الرامية إلى انتهاك السرية التى تتسم بها المصارف، الأمر الذى يفتح بابا للتلاعب فى الودائع. وقد أدى ذلك إلى توقف لجنة مكافحة غسيل الأموال، ما فاقم من خطر القيام بعمليات غسيل الأموال وتمويل الميلشيات المسلحة والتنظيمات الإرهابية.
وفى سوريا، أصدر الرئيس السورى بشار الأسد، فى 13 أبريل الجارى، قرارا بعزل حاكم مصرف سوريا المركزى حازم قرفول، وفقا لوكالة الأنباء السورية الرسمية، والذى كان عُيِّن فى سبتمبر 2018 فى هذا المنصب. ولم تكشف وسائل الإعلام الرسمية عن سبب محدد لإقالة قرفول الذى فرضت عليه واشنطن عقوبات اقتصادية فى سبتمبر 2020. وتشير غالبية التحليلات إلى أن سوريا تواجه أزمة اقتصادية خانقة، زادت من حدتها العقوبات الغربية على نظام الأسد وتأثيرات كوفيدــ19. يضاف إلى ذلك الانهيار الاقتصادى الحادث فى لبنان، حيث يودع عدد من رجال الأعمال السوريين أموالهم فى المصارف اللبنانية. وهنا، يحاول النظام السورى الحد من تراجع قيمة العملة الوطنية بما أدى إلى ارتفاع التضخم، وتعقيدات لا أول لها من آخر فيما يتعلق بحصول المواطن السورى على الخدمات الرئيسية.
فى لبنان اتهم الرئيس اللبنانى ميشال عون فى كلمة للشعب اللبنانى، فى 7 أبريل الجارى، البنك المركزى اللبنانى ورئيسه رياض سلامة بالمسئولية عن الانهيار المالى، إذ قال: «إن حاكم مصرف لبنان المركزى رفض الإجابة على 73 سؤالا من 133 أرسلتها شركة ألفاريز أند مارسيل الاستشارية لإجراء التدقيق، وذلك بحجة أنها مخالفة لقانون النقد والتسليف أو لأنه لا جواب لديه»، وأضاف: «للمصرف المركزى أقول: إنك تتحمل المسئولية الأساسية لأنك خالفت قانون النقد والتسليف، وكان لزاما عليك أن تنظم العمل المصرفى وتأخذ التدابير لحماية أموال الناس فى المصارف».
***
أما فى تركيا فتصر حكومة أردوغان على الإمساك بمفاصل الهياكل المالية، وأصدر أردوغان قرارا فى 20 مارس الماضى، بإقالة محافظ البنك المركزى ناجى إقبال، بعد أقل من خمسة أشهر على تعيينه، بسبب موافقته، فى 18 مارس الماضى، على رفع سعر الفائدة إلى 19 فى المائة، وتعيين شهاب قاوجى أوغلو خلفا له لاسيما بعد تراجع قيمة العملة الوطنية (الليرة) وتزايد أعراض هشاشة الاقتصاد، خاصة فى ظل أزمة كوفيدــ19، وما يرتبط بذلك من ارتفاع معدلات التضخم.
يرفض الرئيس أردوغان علنًا أسعار الفائدة المرتفعة، لأنها تزيد من التضخم وفقا لتصوره، إذ سبق أن وصفها بأنها «أب وأم كل الشرور». ولعل ذلك يؤثر على مصداقية واستقلالية البنك المركزى التركى فى ظل هيمنة الرئيس على وضع السياسات النقدية، لاسيما بعد تحول البلاد إلى النظام الرئاسى منذ عام 2017، إذ يسعى الرئيس أردوغان إلى إعادة إدارة الاقتصاد ليصبح القرار الاقتصادى خاضعا لمؤسسة الرئاسة، فى الوقت الذى يتم إضعاف المؤسسات الرئيسية مثل البنك المركزى. كما تواجه تركيا أزمة مالية أخرى، تتعلق بتراجع احتياطياتها من النقد الأجنبى.
وتجدر الإشارة إلى أن هدف أردوغان هو خفض سعر الفائدة لتكون بمعدل 5 فى المائة بحلول الانتخابات الرئاسية المقبلة فى عام 2023. ولذا جاءت إقالة ناجى إقبال بعد طرحه، فى 12 مارس الماضى، حزمة إصلاحات اقتصادية جديدة، أكد فيها تصميم حكومته على الارتقاء بالبلاد إلى مصافى الدول العشر الكبرى اقتصاديا، من خلال العمل على منح استقلالية أكبر للمؤسسات المالية التركية حتى تتمكن من تحسين الأداء الاقتصادى ومعالجة المشكلات الرئيسية التى أضرت بالمستوى المعيشى للمواطنين وفى مقدمتها ارتفاع معدل التضخم.
ولم يكن قرار عزل محافظ البنك المركزى التركى السابق هو الأول من نوعه. ففى 7 نوفمبر الماضى، عزل الرئيس أردوغان رئيس البنك المركزى مراد أويصال من منصبه على خلفية التدهور الحاد فى قيمة الليرة أمام العملات الأجنبية الأخرى، وعين ناجى أقبال، رئيس إدارة الاستراتيجية والموازنة بالرئاسة خلفا له. وفى يوليو 2019، أقال أردوغان محافظ البنك المركزى الأسبق مراد جتينقايا. ولعل تلك الإقالات المتتالية تعكس ضغوط أردوغان على محافظى البنك المركزى لتخفيض أسعار الفائدة. وقاد ذلك فى أحد أبعاده إلى تخلص المستثمرين الأجانب من الأصول التركية.
وفى إيران، أكد محافظ البنك المركزى عبدالناصر همتى فى تصريح عبر تطبيق «كلوب هاوس»، فى 10 أبريل الجارى، على أن «الضغوط التى فرضت على إيران خلال الأشهر الـ32 الماضية، خلقت مشاكل أكثر جدية، ولكننا بدعم من قائد الثورة والحكومة، وهمم الشعب قد تجاوزنا هذه المرحلة الصعبة جدا والضغوط القصوى». وأضاف أن «أحداثا سيئة جدا وقعت فى العام الإيرانى الماضى منها تفشى جائحة كورونا وانخفاض أسعار النفط العالمية إلى ما دون 10 دولارات وقطع صادرات السلع بسبب كورونا والانخفاض الشديد فى سعر البنزين وانخفاض الطلب على المنتوجات البتروكيمياوية والصلب».
***
خلاصة القول، إن هناك حالات مختلفة تعكس أزمات البنوك المركزية فى عدد من الدول مثل ليبيا واليمن وسوريا ولبنان وتركيا وإيران، يحمل بعضها أزمات داخلية وبعضها الآخر مشكلات خارجية، على نحو يعقد من الوضع الاقتصادى الضاغط فى بؤر الصراعات العربية المسلحة أو القوى الإقليمية الشرق أوسطية، وهو مسار من المتوقع استمراره خلال العام الجارى؛ لأنه لا توجد مؤشرات على تصحيح الأوضاع المختلة فى تلك الدول.
المصدر : الشروق