تواصل الولايات المتحدة الأمريكية والعديد من الدول الأوروبية مساعيها من أجل تعزيز فرص استمرار العمل بالاتفاق النووي، ودفع إيران إلى العودة للالتزام ببنوده مقابل عودة الأولى إليه، إلا أنها لم تسفر عن نتائج تذكر في هذا السياق، حيث ما زالت إيران تتبنى سياسة متشددة تقوم على ضرورة رفع العقوبات الأمريكية المفروضة عليها أولاً قبل التوقف عن تخفيض مستوى التزاماتها في الاتفاق النووي والعودة من جديد إلى تطبيق بنوده بشكل كامل.
من هنا، بدأت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن في إجراء تغيير تكتيكي في سياستها إزاء الخلافات مع إيران تقوم في الأساس على "تجزئة" أى اتفاق محتمل من الممكن الوصول إليه في المرحلة القادمة، بما يعني التوافق في البداية على العودة المتزامنة للاتفاق، أى عودة إيران للالتزام بتعهداتها فيه، مقابل عودة الولايات المتحدة الأمريكية لمجموعة "5+1"، على أن تبدأ مرحلة أخرى بعد ذلك تتضمن إجراء مفاوضات حول الملفات الخلافية التي لا تقل أهمية، ولاسيما ما يتعلق ببرنامج الصواريخ الباليستية والدور الإيراني في منطقة الشرق الأوسط.
وفي هذا الصدد، كان لافتاً أن وزير الخارجية الأمريكي انطوني بلينكن ربط خلال اجتماع وزراء خارجية حلف الناتو في بروكسل، في 24 مارس الجاري، السعى للوصول إلى اتفاق "أطول وأقوى" في شأن زعزعة إيران للاستقرار الإقليمي وبرنامجها للصواريخ الباليستية، بمرحلة ما بعد العودة إلى الامتثال الكامل لخطة العمل المشتركة. وأضاف أن "الكرة موجودة في ملعبهم (الإيرانيين) لمعرفة ما إذا كانوا يريدون السير في طريق الدبلوماسية والعودة إلى الامتثال للاتفاق"، وأنه "إذا حصل ذلك فسنسعى إلى بناء اتفاق أطول وأقوى ولكن يتضمن بعض القضايا الأخرى ومنها تصرفات إيران وسلوكها وبرنامج الصواريخ الباليستية".
أهداف عديدة:
يمكن القول إن إدارة بايدن تسعى من خلال هذه المقاربة الجديدة إلى تحقيق أهداف عديدة، يتمثل أبرزها في:
1- تقدم أوّلي: يبدو أن الإدارة الأمريكية تحاول في هذا الصدد تحقيق تقدم أوّلي في الاتفاق النووي، بدلاً من التحرك في دائرة مفرغة، حيث بدا جلياً أنه منذ وصول الرئيس جو بايدن إلى البيت الأبيض، في 20 يناير الماضي، لم يحدث تقدم في الاتفاق مع إيران، بل إن الأخيرة أمعنت في مواصلة رفع مستوى التصعيد، على نحو بدا جلياً في زيادة مستوى التخصيب إلى 20% والتهديد برفعه إلى 60% في حالة ما إذا كانت في حاجة إلى ذلك حسب تصريحات المرشد علي خامنئي، وبدأت في استخدام أجهزة طرد مركزي من طرازات أكثر تقدماً على غرار جهازى "IR2M" و"IR6"، وتصاعدت تحذيرات الوكالة الدولية للطاقة الذرية من عدم تعامل طهران بشفافية معها. وقد أشارت اتجاهات عديدة إلى أن السياسة التي تبنتها إدارة بايدن خلال الشهرين الماضيين كانت أشبه بما يسمى بـ"الركض في المكان"، أى التحرك كثيراً دون حدوث تقدم يذكر في الملفات الخلافية، وهو ما يبدو أن الإدارة تسعى إلى تجاوزه عبر إجراء مفاوضات مع إيران على مراحل متعددة.
2- تراكم إيجابي: ربما ترى الإدارة الأمريكية أن نجاح المرحلة الأولى من هذه السياسة، والتي تتضمن العودة المتزامنة للاتفاق، يمكن أن تفرض تداعيات إيجابية تُهيِّئ المجال أمام إجراء مفاوضات جديدة حول برنامج الصواريخ الباليستية والدور الإقليمي. وتنطلق هذه التوقعات، على ما يبدو، من اعتبار أساسي ينصرف إلى أن نجاح المرحلة الأولى قد يدفع إيران إلى تبني سياسة أقل تشدداً وبالتالي يعزز من احتمال التوافق حول الملفات الخلافية الأخرى، وهى مقاربة قريبة من تلك التي اتبعتها إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، عندما توقعت أن يؤدي الاتفاق النووي إلى "تعديل سلوك" إيران بشكل عام سواء على المستوى النووي أو الإقليمي، وهى مقاربة ثبت أنها لم تتسامح مع المعطيات الموجودة على الأرض.
3- كبح النشاط النووي: لا ينفصل ذلك عن القلق المتصاعد الذي تبديه الولايات المتحدة الأمريكية، والدول الغربية بشكل عام، إزاء ارتفاع مستوى الأنشطة النووية الإيرانية، على نحو يبدو جلياً في زيادة نسبة اليورانيوم المخصب، وتوسيع نطاق عمليات التخصيب، واستخدام أجهزة طرد مركزي أكثر تطوراً، وتقييد عمل المفتشين الدوليين. وهنا، فإن هذا التغيير التكتيكي يهدف في المقام الأول إلى إيقاف هذا التقدم السريع في البرنامج النووي، ودفع إيران إلى العودة للالتزام بالمستويات التي يحددها الاتفاق، على غرار إبقاء مستوى التخصيب عند 3.67%، وحصر عمليات التخصيب في منشأة ناتانز، واستخدام أجهزة الطرد المركزي من طراز "IR1" فقط.
عقبات رئيسية:
مع ذلك، لا يبدو أن فرص نجاح هذا التغيير التكتيكي في تحقيق نتائج إيجابية مضمونة، في ظل وجود عقبات أساسية ثلاث هى:
1- مقاربة طهران: قد لا تتجاوب إيران مع هذا النهج بسهولة. فقد سبق أن وجهت رسائل متعددة بأن أية مفاوضات محتملة مع الإدارة الأمريكية سوف تقتصر على العودة للاتفاق النووي فقط، دون التطرق إلى الملفات الخلافية الأخرى، لاسيما برنامج الصواريخ الباليستية والدور الإقليمي. وربما يمكن القول إن إيران تواصل التصعيد الحالي من أجل تحقيق هدفين: أولهما، رفع العقوبات الأمريكية المفروضة عليها. وثانيهما، حصر تلك التفاهمات المحتملة في الاتفاق النووي فقط.
2-ضغوط تل أبيب: لن تحظى هذه المقاربة، في الغالب، بقبول من جانب إسرائيل، التي ما زالت مُصِرَّة على ضرورة ضم الملفات الأخرى إلى أية مفاوضات محتملة، لاسيما ما يتعلق بالدور الإقليمي، في سوريا على سبيل المثال، وربما ترى أن هذا الملف يجب أن يحظى بالأولوية بسبب التهديدات التي يفرضها على مصالحها وأمنها.
3- إشكالية العقوبات: إن أى تجزئة للمفاوضات مع إيران سوف تستدعي بالضرورة النقاش حول رفع أم إبقاء العقوبات. وفي الغالب، فإن الإدارة الأمريكية سوف تحاول، في حالة مواصلة هذا النهج، تقليص العقوبات وليس رفعها من أجل ضمان استمرار إيران في المفاوضات في حالة نجاح المرحلة الأولى بالعودة المتزامنة للاتفاق النووي، وهو ما قد لا تقبله الأخيرة، التي ما زالت تركز على أن الهدف الأساسي لأية مفاوضات جديدة يتمثل في رفع العقوبات مقابل الالتزام ببنود الاتفاق النووي فقط.
من هنا، يبدو أن التصعيد سوف يبقى عنواناً رئيسياً للتفاعلات بين طهران وواشنطن على الأقل في المدى القريب، لاسيما أن الأولى ما زالت حريصة على تأكيد أنها ليست مضطرة للموافقة على أية مقاربة مختلفة للوصول إلى توافق حول الاتفاق النووي لا تستوعب حساباتها ومصالحها التي تدفعها حتى الآن إلى عدم الاستجابة لضغوط ودعوات الدول الغربية لإجراء مفاوضات جديدة.