أحدث تطبيق قانون "قيصر" الأمريكي صدمة في الداخل اللبناني، وذلك تحسباً من ارتداداته المحتملة على المشهدين الاقتصادي والسياسي، والتي تتركز في تهديد النهوض بقطاع الطاقة وخططه المستقبلية. وتتزايد المخاوف أيضاً من التأثير على القطاع المصرفي، مع ترجيح اتساع نطاق التهريب مع سوريا مرة أخرى، فضلاً عن تأجيج النزاع داخلياً على المستويين الشعبي والسياسي.
مرحلة أولى:
بدأت الولايات المتحدة الأمريكية التطبيق الفعلي للمرحلة الأولى من قانون "قيصر" لحماية المدنيين السوريين في 17 يونيو الجاري (وذلك من أصل 4 مراحل سيتم تحديد موعد تطبيقها تباعاً حتى أغسطس المقبل)، وهو القانون الذي أقره الكونجرس الأمريكي في ديسمبر 2019، ويستهدف بالأساس قطع أي إمدادات عن النظام السوري.
إذ ينص على فرض عقوبات اقتصادية على الحكومة والجيش السوري، وملاحقة الأفراد والمجموعات والدول التي تدعمهما أو تتعامل معهما، وذلك من خلال تجميد أصولهم في الولايات المتحدة أو التي تدخل ضمن حوذة شخص أو مؤسسة أمريكية، ومنع دخولهم الأراضي الأمريكية أو الحصول على تأشيرات دخول.
وبحسب نص القانون، ستُفرض هذه العقوبات على أى شركة أو فرد يقدم دعماً مالياً أو تكنولوجياً للنظام السوري، أو الاستثمار ودعم قطاعى الطاقة (بترول وغاز) أو الطيران العسكري، أو دعم المرتزقة والميليشيات العسكرية الداعمة للنظام السوري، وستشمل العقوبات مصرف سوريا المركزي حال ثبوت ضلوعه في عمليات غسل أموال.
احتجاجات موازية:
اللافت في هذا السياق، هو أن الاعلان عن تطبيق قانون "قيصر" تزامن مع تصاعد موجات الاحتجاجات الشعبية في لبنان، والتي أظهرت تحسبها من تأثير القانون على الدولة، وذلك على خلفية سعى قوى "8 آذار" التي يتزعمها حزب الله لتطبيع العلاقات مع نظام الرئيس السوري بشار الأسد، إضافة إلي انتفاض المعارضة السياسية في الداخل على نهج النظام الحالي (الذي تسيطر عليه قوى "8 آذار") في مقاربة علاقاته مع سوريا.
وجاء رد الفعل الأبرز من جانب حزب الله، حيث أدانت كتلة "الوفاء للمقاومة"، في 18 يونيو الجاري، القانون على اعتبار أنه "إجراء عدواني أحادي ضد من يناهض السياسة الأمريكية التي تعتمد بالأساس على حماية إسرائيل".
تأثيرات اقتصادية:
تتمثل أبرز التأثيرات الاقتصادية التي يتوقع أن يفرضها القانون على لبنان في:
1- قطاع الطاقة: يقف قانون "قيصر" عائقاً أمام استفادة لبنان من الجوار الجغرافي مع سوريا في تعزيز التعاون في مجال الطاقة، وذلك من خلال ما يلي:
أ- الكهرباء: يفرض القانون تحدياً جديداً أمام تصدير الكهرباء من سوريا إلي لبنان، إلا أنه لا يستبعد أن يتم وضع استثناء أمريكي لاستمرار التصدير في الظروف الطارئة التي تواجهها لبنان، وذلك أسوة بالاستثناءات التي مُنحت للعراق لاستيراد الكهرباء من إيران.
ب- تصدير الغاز والنفط: سيقضي القانون على أي مخطط للنظام السوري أو روسيا يستهدف تصدير الغاز السوري إلي لبنان المجاورة، أو حتى الاعتماد على الموانئ اللبنانية في تصدير الغاز عبر السفن كبديل عن نظيرتها السورية التي تواجه حصاراً.
كما أن القانون يقوَض أي توجه لتأسيس شبكة أنابيب إقليمية للغاز تمتد إلي لبنان على البحر المتوسط، ولعل أبرزها مشروع "خط الغاز الإسلامي" الذي يستهدف تصدير الغاز الإيراني من حقل بارس الجنوبي إلى العراق وسوريا ولبنان، ليمتد في المستقبل إلى أوروبا كما تخطط طهران.
2- القطاع المصرفي: تعمل في سوريا 7 مصارف كانت لبنانية بالأساس ولكن انفصلت عن بنوكها الأم منذ عام 2011، وأصبحت تُدار من قبل شركات خاصة ومجالس إدارة مستقلة، ولكن ترتبط تلك المصارف بنظيرتها اللبنانية على اعتبار أن الأخيرة أحد المساهمين فيها، وبالتالي لا يستبعد أن يمتد تأثير قانون "قيصر" للمصارف اللبنانية، خاصة وأن المصارف العاملة في سوريا تحت إمرة المصرف المركزي السوري المستهدف من قبل الولايات المتحدة.
3- التهريب: بالرغم من اتجاه السلطات اللبنانية في الفترة الأخيرة للتنسيق مع نظيرتها السورية لمواجهة عمليات التهريب عبر الحدود البرية، في محاولة لتعزيز المبادلات التجارية عبر المعابر الشرعية بينهما، إلا أن قانون "قيصر" قد يؤدي إلي التضييق على حركة التجارة بين البلدين على اعتبار أنها تدعم نظام الأسد، خاصة مع رصد حجم تلك المبادلات ونوعية السلع التي يتم تبادلها.
وربما يدفع ذلك لزيادة نشاط التهريب مرة أخرى هرباً من رصد تلك الحركة، وتجدر الإشارة إلى أنه لم يتم التأكيد بشكل صريح في نصوص قانون "قيصر" على استهداف المعاملات التجارية بين سوريا والعالم الخارجي، إضافة إلي أن واشنطن أشارت إلى عدم المساس بالمساعدات الانسانية، وبالتالي قد يتم التذرع بأن تصدير المنتجات الغذائية والمحاصيل الزراعية اللبنانية إلي سوريا يستهدف تعزيز الأمن الغذائي في سوريا.
انعكاسات سياسية:
ربما تمتد انعكاسات القانون على لبنان إلى المستوى السياسي، على نحو يمكن تناوله فيما يلي:
1- تهديد الشرعية: يتيح القانون فرض عقوبات على قيادات قوى "8 آذار" لدعمهم نظام الأسد، وذلك كإجراء بديل لعدم إقرار الولايات المتحدة قانون عقوبات يُطال حلفاء حزب الله، خاصة قيادات حركة أمل والتيار الوطني الحر.
وقد يؤدي ذلك إلى اندلاع أزمة سياسية في الداخل اللبناني حال فرض عقوبات على تلك القيادات، خاصة لو كانوا وزراء أو نواباً، لأن ذلك قد يساهم في تهديد شرعية النظام باعتبار أنه سيؤثر على علاقاتهم الخارجية.
2- تأجيج الصراع: قد يتحول القانون إلى محور جديد للصراع السياسي بين السلطة الحالية وكل من المعارضة الشعبية والسياسية، وذلك على خلفية إعادة إحياء مطالب احتجاجات أكتوبر 2019، والتي تؤكد على ضرورة إعادة إنتاج نظام جديد عبر تأليف حكومة مستقلة، وإجراء انتخابات نيابية جديدة تؤدي لترشيح رئيس جمهورية جديد، مما قد ينتج موجة احتجاجات جديدة بدعم من أحزاب المعارضة الرئيسية.
3- تراجع قدرة الحكومة: لا يستبعد أن يؤدي القانون إلى نشوب خلافات داخل مجلس الوزراء بسبب عدم التوافق على اعتماد آلية مناسبة لمواجهة تأثيراته، وذلك في ظل وجود ضغوط من حزب الله تستهدف الخروج من تلك الأزمة عبر تقليص العلاقات مع الولايات المتحدة في مقابل تعزيزها مع قوى أخرى مثل الصين وروسيا.
ختاماً، يدفع قانون "قيصر" الأمريكي إلى فرض واقع جديد في لبنان، عبر تقليص نفوذ قوى "8 آذار" التي تحاول تجنب تزايد الأعباء السياسية والاقتصادية عليها، الأمر الذي قد يسفر عن الاتجاه للامتثال بشكل أكبر للتدابير الأمريكية، وعدم الرضوخ لأجندة حزب الله، على اعتبار أن تبني سياساته سيؤدي بلبنان إلى مزيد من التأزم، سواء داخلياً أو في سياق علاقاتها مع الخارج.