عرض: إيمان فخري - باحثة دكتوراه بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية - جامعة القاهرة
بدأت الولايات المتحدة في تبني نهج المشاركة والانخراط مع الصين منذ عام 1972، ومنذ ذلك الوقت شهدت العلاقات الصينية-الأمريكية مراحل من التقارب والتعاون، وفي أوقات أخرى فترات من التباعد والاختلاف. وقد أرسى قواعد هذا النهج الرئيس المناهض بشدة للشيوعية "ريتشارد نيكسون" ومستشاره للأمن القومي "هنري كيسنجر" عندما توجَّها إلى بكين في زيارة حملت في طياتها رسالة واشنطن بأنه من الضروري إنهاء العداء القائم بين البلدين، ليتمكنا من مجابهة خطر الاتحاد السوفيتي السابق.
وانعكس ذلك في محادثات "نيكسون" مع رئيس مجلس الدولة الصيني آنذاك "تشو إن لاي"، حيث صرح الأول بأنه "إذا كان شعبانا عدوين، فإن مستقبل هذا العالم الذي نعيش فيه معًا سيكون مظلمًا بالتأكيد". كما أصر "نيكسون" على أن للبلدين "مصالح مشتركة" تتجاوز خلافاتهما، وأنه "بينما لا يمكننا سد الفجوة بيننا، إلا أننا يمكننا أن نقللها ونخلق مساحات للحوار المشترك"، وأنهى الرئيس الأمريكي حديثه بأن "العالم يشاهد ليرى ما سنفعله".
ومع التدهور الذي تشهده العلاقات الأمريكية-الصينية على خلفية جائحة فيروس كورونا المستجد، والانتقادات المتبادلة بين مسئولي البلدين بشأنها، نشرت مجلة "السياسة الخارجية" Foreign Policy مقالًا سينشر بالعدد القادم من المجلة الذي يصدر في ربيع هذا العام بعنوان "النهاية القبيحة للعلاقات الصينية الأمريكية". وفيه ينطلق "أورفيللي شيل" (المتخصص في العلاقات الأمريكية-الصينية) من مقولة رئيسية مفادها أن تدهور مسار العلاقات الحالي بين واشنطن وبكين يُعزى إلى الأيديولوجيا الجامدة للرئيس الصيني "شي جين بينغ" والأيديولوجيا القومية للرئيس الأمريكي "دونالد ترامب"، فضلًا عما ساهمت به أزمة فيروس كورونا المستجد في إذكاء الصراع بين البلدين، حيث تحاول كل دولة إلقاء اللوم على الأخرى كسبب للأزمة الحالية.
يرى الكاتب أن العلاقات الصينية-الأمريكية لم تشهد توترات شديدة بسبب الحرب التجارية بين الدولتين فقط، ولكن تعود بداية هذا التوتر إلى صعود "تشي جين بينغ" إلى سدة الحكم في الصين وتبنيه أيديولوجيا جامدة. وبطبيعة الحال انتقلت العلاقات الثنائية إلى مستوى أعلى من التوتر والتدهور مع صعود "ترامب" إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة وتبنيه أيديولوجيا قومية.
أهم مراحل العلاقات
أبدى "دنغ شياو بينغ" منذ توليه مهام الرئاسة في الصين عام 1978، التزامه بأجندة جريئة للإصلاح والانفتاح على العالم الخارجي، وكان مناصرو نهج المشاركة في الولايات المتحدة يأملون في أن تدفع هذه السياسات الجديدة الصين إلى التواؤم مع النظام العالمي الليبرالي القائم على القواعد الديمقراطية الغربية، ومع مرور الوقت تصبح بكين أكثر تقاربًا وتفاهمًا مع مصالح الولايات المتحدة.
فكان لدى مناصري هذا النهج قناعة كاملة بأن حدوث التقارب الصيني-الأمريكي هو أمر لا مفر منه، وأنه إذا أرادت الصين المشاركة بشكل كامل في السوق العالمية، فلن يكون أمامها خيار سوى الاندماج وفقًا للقواعد الاقتصادية الحالية، أي وفقًا لقواعد الولايات المتحدة. بل كانوا متفائلين للغاية حيال حدوث هذا التقارب، إلى الحد الذي ظهر فيه آنذاك حديث عما يسمى "Chimerica" أو تشكيل "مجموعة من البلدين" للتدليل على أن علاقات البلدين ستصل لمرحلة التنسيق والاتساق الكامل.
كما أكد مؤيدو هذا النهج أن أية سياسات عدائية ستتبعها الولايات المتحدة تجاه الصين لن تضر سوى التيار الإصلاحي في الصين، الذي يراهنون عليه بشكل كبير لتحقيق التقارب بين واشنطن وبكين.
ويشير الكاتب إلى أن النظرة التفاؤلية حيال مستقبل العلاقات الأمريكية-الصينية قد أدت إلى التقليل من شأن الاختلافات العميقة بين قيم الصين والقيم الغربية. وفي هذا السياق، تجاهل الرئيس "جيمي كارتر" (الذي تم وصفه بأنه "أول رئيس لحقوق الإنسان" في أمريكا) انتهاكات بكين المتعددة لحقوق الإنسان، ولم يقم باستقبال الرئيس الصيني "دينغ شاو بينغ" في البيت الأبيض فحسب، بل أعاد العلاقات الدبلوماسية الرسمية بين البلدين.
وتبنى الرئيس "جورج بوش الأب" سياسة "كارتر" ذاتها تجاه الصين، فحتى بعد مذبحة ساحة "تيانانمن"، أرسل الرئيس الأمريكي مستشاره للأمن القومي "برنت سكوكروفت" مرتين إلى بكين لمطالبة "دنغ" بعدم السماح بحدوث أي تراجع للعلاقات بين البلدين.
ومع انهيار الاتحاد السوفيتي في عام 1991 الذي كان السبب الرئيس وراء هذا التقارب فقد توقع البعض انتهاء نهج الشراكة بين البلدين. ومما عزّز من إمكانية حدوث توترات في العلاقات الثنائية بين البلدين إعلان الرئيس "بيل كلينتون" أنه لن يكون مثل سلفيه اللذين تسامحا مع الصين بعدما قتلت المتظاهرين في ساحة "تيانانمن"، وأن إدارته لن تقوم بتدليل الطغاة، ولكن انتهى به الأمر إلى احتضان الرئيس الصيني "جيانغ زيمين"، بل والضغط من أجل أن تصبح من "الدول الأولى بالرعاية" بالنسبة للولايات المتحدة. وأطلق "كلينتون" على هذا النهج الجديد اسم "سياسة المشاركة الشاملة Comprehensive Engagement"، وكان يأمل من أنه حالما تندمج الصين في العالم الاقتصادي الرأسمالي فإنه سيلي ذلك اتّباعها للديمقراطية وفقًا للقيم الغربية.
وقد واصل الرئيس "باراك أوباما" في بداية حكمه اتّباع السياسة ذاتها تجاه الصين، محاولًا بث روح جديدة في العلاقة من خلال قيام وزيرة الخارجية "هيلاري كلينتون" بطمأنة بكين بأن إدارته لن تسمح لقضايا مثل حقوق الإنسان بأن تعيق التعاون بين البلدين بشأن القضايا المتعلقة بتغير المناخ والأزمة الاقتصادية.
ويُشير الكاتب إلى أن الشركات والمستهلكين الأمريكيين قد استفادوا من السياسات السابق الإشارة إليها، لكن الصين كانت الأكثر استفادة في هذا الشأن. فخلال الثلاثين عامًا التي اتبعت فيها الولايات المتحدة سياسة المشاركة مع الصين، استطاعت الأخيرة أن تطور اقتصادها الهش، ودشنت بنيتها التحتية الحديثة، وأصبحت جزءًا مهمًا من المؤسسات العالمية.
ويذكر أن الولايات المتحدة باتباعها سياسة المشاركة قد وفرت للصين البيئة الملائمة للتركيز على إنجازاتها الاقتصادية والازدهار بدلًا من استنزاف قدراتها إزاء القلق المستمر حيال إمكانية حدوث نزاع وصراع مع واشنطن.
أسباب تغيير العلاقات
يُشير الكاتب إلى أنه مع تولي "تشي جين بينغ" مهام الرئاسة في الصين عام 2012، بدأت طبيعة العلاقات الثنائية بين واشنطن وبكين في التغيير. فقد استبدل "تشي" شعار الصعود السلمي الذي استخدمه سلفه "جيانغ زيمين" بـشعارين جديدين هما: "حلم الصين" و"تجديد الصين"، حيث ارتكزت استراتيجيته على تعزيز دور ومكانة الصين على الصعيدين الإقليمي والعالمي، وفي الوقت ذاته عمد إلى تركيز السلطات بشكل أكبر في يده ليصبح نظامه أكثر شمولية واستبدادًا من أسلافه.
وقد أدت استراتيجية "تشي" إلى خلق توترات ليس مع الولايات المتحدة فحسب بل مع العديد من الشركاء التجاريين للصين الذين وجدوا أنفسهم عالقين في علاقات غير متكافئة بشكل متزايد لصالح بكين.
ويرى الكاتب أن استراتيجية "تشي" قد أفرزت سياسات عدوانية ومتهورة للصين نتج عنها احتلالها وعسكرتها لبحر الصين الجنوبي، وتراجع مستوى الحكم الذاتي الذي وعدت بكين به هونج كونج في عام 1997، مما خلق جيلًا كاملًا من معارضي بكين من الشباب في هونج كونج، وارتفاع مستوى التوتر مع اليابان حول جزر دياويو/سينكاكو المتنازع عليها في بحر الصين الشرقي، والتباعد والتوتر بين الصين وتايوان، وتراجع العلاقات مع حزب الكومينتانغ المؤيد لبكين في تايوان، ناهيك عن تحويل بكين إقليم شينجيانغ الذي تقطنه أقلية الإيغور المسلمة إلى معسكر اعتقال ضخم.
وبناء عليه، بدأت إدارة "أوباما" في إعادة تقييم جدوى الحفاظ على سياسة المشاركة مع الصين. ولكن مع قدوم "ترامب" وصقور إدارته، مثل: بيتر نافارو (المستشار التجاري للرئيس "ترامب") ومايكل بيلسبري وستيف بانون، الذين لطالما أكدوا أن صعود الصين وقوتها الاقتصادية والعسكرية تمثل تهديدًا للمصالح الاستراتيجية الأمريكية؛ فقد أخذت العلاقات منحى تصاعديًّا، وشهدت الكثير من مراحل التوتر.
ومع صعود "ترامب" بأجندة قومية بدأت تزداد وتيرة النزاعات بين البلدين، ولم ينتج عن ذلك فقط توتر العلاقات الدبلوماسية والحرب التجارية، بل أدى تغيير الاستراتيجيات الحاكمة للبلدين إلى حدوث تآكل خطير في نسيج التعاون بينهما، ووصل إلى حد تعطيل التبادلات الثقافية.
التأثير المتوقع
يشير الكاتب إلى أنه مع اشتداد وتيرة الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، والجدل المحموم حول الانفصال عن سلاسل التوريد الصينية، ظهرت أزمة فيروس كورونا المستجد التي حسمت هذا الجدل إلى ضرورة خلق سلاسل تصنيع وتوريد خارج الصين. ويرى الكاتب أنه متى تنتهي أزمة انتشار الفيروس، فستسرع الاقتصادات العالمية نحو تنويع سلاسل التوريد والتصنيع لكي لا تظل معتمدة على الصين بشكل أساسي. ويضيف أن هناك عدة شركات أمريكية بدأت بالفعل في تنويع سلاسل توريدها، والاتجاه نحو فيتنام بدلًا من الصين.
ويرى الكاتب أن عدم قدرة "تشي" الأولية على إدارة أزمة كورونا قد أدى إلى تقويض أهم مصدر للشرعية السياسية للحزب الشيوعي الصيني والمتمثل في النمو الاقتصادي، حيث تُظهر الإحصائيات الأولية أنه في الفترة من يناير إلى فبراير حدث انخفاض في الاستهلاك بنسبة 20,5%، وانخفاض بنسبة 13,5% في التصنيع على أساس سنوي. ومن المتوقع أن يستمر هبوط المؤشرات العامة للاقتصاد الصيني، فحتى في الوقت الذي تكافح فيه بكين لتقف على قدميها، فإن الأسواق في بقية العالم تدخل في حالة إغلاق، مما سيؤثر سلبًا بدون شك على تعافي الاقتصاد الصيني.
ويذكر الكاتب أنه على الرغم من الجهود الصينية لتحويل هذه الأزمة إلى انتصار دعائي عالمي، إلا أن التعامل الفاشل في بداية الأزمة قد وجه ضربه قوية ليس للنظام الصيني أو الحزب الشيوعي فحسب بل إلى شخص الرئيس الصيني الذي ركز كل السلطات في يده. علاوة على أن سمعة "تشي" لا تزال متضررة من القمع الذي مارسته السلطات الصينية ضد الأطباء الذين حذروا من انتشار فيروس جديد في مدينة ووهان في بداية الأزمة.
ويخلص الكاتب في نهاية المقال إلى نتيجتين رئيستين؛ تتمثل الأولى في أن أزمة فيروس كورونا المستجد قد أعطت إدارة "ترامب" المبرر المنطقي لإنهاء أي أمل يتعلق بإمكانية اتباع نهج المشاركة مع الصين مرة أخرى، وأن أغلبية الأمريكيين لا يزالون متمسكين بنظام سمته الأساسية هي العولمة، لكن مع أن تلعب الصين دورًا أقل أهمية، وألا يكون لها دور مهيمن في النظام العالمي والاقتصادي.
وتتعلق الثانية بأنه من المرجح أن الصين ستخرج من هذه الأزمة وهي دولة أكثر استبدادية وأكثر ميلًا نحو صراع مع النظام الديمقراطي الليبرالي، بل إنه من غير المستبعد أنه حال عودة الفيروس للانتشار في الصين بالتزامن مع عودة المصانع للعمل بشكل كامل في مسعى من "تشي" لإنعاش الاقتصاد الصيني؛ فإن الرئيس الصيني سيعزز من قبضته القوية وسيطرته على البلاد زاعمًا أن ذلك هو الحل الوحيد للتغلب على الأزمة.
المصدر:
Orville Schell, “The Ugly End of Chimerica: The Coronavirus Pandemic Has Turned A Conscious Uncoupling Into A Messy Breakup”, Foreign Policy, 3 April 2020.