توسعت دول العالم في إجراء اختبارات الإصابة بفيروس كورونا بهدف الكشف عن الحجم الحقيقي للإصابات، والأفراد الذين لديهم مناعة ضد فيروس كورونا لمنحهم شهادات بالمناعة ضد الفيروس، بالإضافة إلى استخلاص الأجسام المضادة لتوظيفها في علاج المصابين. وتواجه استراتيجية "الاختبارات الشاملة" عدة تحديات يتمثل أهمها في: محدودية الموارد المالية، وتباين كفاءة العنصر البشري من دولة لأخرى، ونقص المواد الكيميائية المستخدمة في إجراء الاختبارات، والتركيز على اختبارات الكشف عن الإصابة مع تجاهل بعض الدول لاختبارات المناعة والأجسام المضادة على الرغم من أهميتها في عودة الحياة إلى طبيعتها.
أنواع "الاختبارات الشاملة":
اتخذت الدول إجراءات احترازية عديدة، تتنوع في أسلوبها وفي نطاقها للحد من انتشار فيروس كورونا. وعلى الرغم من قيام العديد من الدول بإجراء حظر للتجول، وتقليص عدد ساعات العمل، فضلًا عن الحجر الصحي وإرشادات الوقاية؛ إلا أن أعداد المصابين أخذت منحنى تصاعديًّا خطيًّا في بعض الدول، بينما تتفاقم تلك الزيادة بمعدل رأسي في دول أخرى.
وقد دفع هذا الأمر الحكومات إلى تبني "الإجراءات غير الشائعة" Uncommon Measures التي تُميّز أداء دولة عن أخرى في هذا الشأن، وعلى رأسها الاختبارات الجماعية Mass Testing. وتحتل الولايات الولايات المتحدة رأس القائمة وفقًا لموقع Worldometers، حيث أجرت ما يزيد على مليونَيْن ونصف المليون اختبار للكشف عن المصابين بالفيروس، ثم احتلت ألمانيا المركز الثاني بواقع مليون و317 ألف اختبار، تليها روسيا في المركز الثالث بما يزيد على مليون اختبار، بينما جاءت الإمارات العربية المتحدة في المركز الرابع بما يزيد على 648 ألف اختبار، فيما احتلت كوريا الجنوبية المركز الخامس بحوالي 510.4 آلاف اختبار.
وتُعد الاختبارات الشاملة Mass Testing منهاجية اتّبعتها بعض الدول لعمل حصر كامل وشامل لعدد المصابين بفيروس كورونا بهدف تطبيق العزل الفوري -سواء المنزلي أو في الحجر الصحي- على من تكون نتيجة تحاليله إيجابية بالإضافة للمخالطين له، دون انتظار ظهور الأعراض وتوجه المُشتبه في إصابته للمستشفى لعمل الفحوصات اللازمة. لكن هذه الفكرة المبدئية عن منهاجية الاختبارات الشاملة تبدو قاصرة إلى حد بعيد. فبرغم أنه من الناحية النظرية تبدو هذه الآلية ذات فعالية كبيرة، إلا أنه من الصعب حتى في أكثر النظم الصحية المتقدمة تطبيق العزل على كافة هذه الحالات. وفي هذا الإطار يجب التفريق بين نوعين من الاختبارات، وذلك فيما يلي:
1- اختبار المسحة: يهدف هذا الاختبار الطبي إلى التعرف على ما إذا كان الشخص مصابًا بفيروس كورونا من عدمه، ويتم ذلك عن طريق أخذ مسحة أو عينة من الأنف أو الحلق للكشف عن مدى تواجد آثار للحمض النووي للفيروس فيما يعرف بـ(PCR-Based Kits). ومن الجدير بالذكر أن هذا النوع من الاختبارات هو المنتشر حاليًّا، ويتم بناءً على نتائجه الإيجابية عزل المصابين ومخالطيهم.
2- اختبار الدم: يهدف هذا الاختبار الطبي إلى التعرف على ما إذا كان الشخص قد أُصيب بفيروس كورونا من عدمه، وذلك بالكشف عن مدى تواجد الأجسام المضادة في عينة الدم، حيث لا يستغرق هذا الاختبار بضع ثوانٍ. وتفكر الدول التي تُجري هذه النوعية من الاختبارات في منح شهادة للشخص الذي يحمل أجسامًا مضادة (Immunity Certificates) تؤكد ذلك، ومن ثم لا يخضع لأي قيود في الحركة أو العمل طالما أصبحت لديه مناعة ضد المرض.
المصدر: هيئة الإذاعة البريطانية.
وفي هذا السياق، قامت دول -مثل ألمانيا وكوريا الجنوبية- بالتوسع في إجراء اختبارات الدم لإجراء فرز حقيقي ومعبّر للسكان فيما يتعلق بالإصابة والشفاء من فيروس كورونا، بينما لا تزال دول -مثل: الولايات المتحدة، وإيطاليا، والمملكة المتحدة- تولي اهتمامًا لاكتشاف المصابين الجدد.
تجارب دولية وإقليمية:
تتمثل أهم التجارب الدولية والإقليمية الناجحة لإجراء الاختبارات فيما يلي:
1- المملكة المتحدة: أعلنت بريطانيا أنه لكي يتم الكشف عن السكان بالكامل خلال فترة أسبوع فإنه يلزم إجراء حوالي 10 ملايين اختبار يوميًّا، وهو أمر مستحيل في الوقت الحالي. إلا أن الحكومة البريطانية تحاول في الوقت الراهن حشد كل الإمكانيات معاملها الوطنية ومصنعي المواد اللازمة لإجراء هذه الاختبارات واسعة النطاق، على اعتبار أن تكلفة هذه العملية المُعقدة أقل من إنتاج المصل وتوزيعه في حالة تردي الوضع أكثر من ذلك.
وفي هذا الإطار، بدأت وزارة الصحة البريطانية بالفعل بالتواصل مع مصنعي المواد الكاشفة Reagents المستخدمة في إجراء التحاليل لتأمين احتياجات المعامل الوطنية منها، كما بدأت في وضع خطة تضمن عمل هذه المعامل على مدار الساعة طوال الأسبوع عن طريق حصر طلاب العلوم البيولوجية والخريجين الذين سبق لهم العمل بالمعامل الطبية وفقًا لتوزيع جغرافي قريب من محل السكن للبدء في توزيعهم على هذه المعامل. فضلًا عن هذا، تدرس حاليًّا الحكومة البريطانية فكرة التعاقد مع شركة البريد الوطني وشركة أمازون لتسليم واستلام عينات الاختبار بالمنازل منعًا للتكدس، بالإضافة للتواصل مع المنظمات والجمعيات الخيرية لتنسيق تلك المهمة فيما يتعلق بالمشردين والمواطنين بلا مأوى.
2- الولايات المتحدة: على الرغم من احتلالها رأس القائمة في عدد الاختبارات التي أُجريت، إلا أن التقديرات تشير إلى أن تطبيق هذه المنهاجية في الولايات المتحدة كان متأخرًا نسبيًّا، تمامًا مثل تأخرها في تطبيق الإجراءات الاحترازية الأولية منذ إعلان أول إصابة بالفيروس، مما يفسر العدد الكبير في الإصابات. لكن مؤخرًا ونتيجة للإمكانيات العلمية والمادية الهائلة للولايات المتحدة، نجحت في تحقيق قفزة نوعية في عدد الاختبارات، حيث فاقت مليونَيْ اختبار في أقل من شهر، والفضل بالأساس يرجع إلى تركيز الإدارة الأمريكية على رفع قدرة معامل المستشفيات الجامعية العريقة، مثل معامل كلية الطب بجامعة هارفارد، التي لديها القدرة وحدها على إجراء حوالي 1500 اختبار في اليوم الواحد.
يضاف إلى ذلك توجيه مبالغ طائلة لدعم البحث العلمي، لا سيما فيما يتعلق بتطوير الاختبارات الطبية، حيث قام العالمان "كريستوفر رولي" و"إيان ماكلود" من جامعة هارفارد بتطوير منظومة تعرف باسم PANDAA التي استُخدمت للكشف عن مرض الإيدز في بوتسوانا عن طريق عمل منظومة اختبارات غير مكلفة تناسب الدول ذات الدخول الضعيفة والمتوسطة، وهي محاولة للولايات المتحدة لأن تكون الاختبارات شاملة ليس فقط على المستوى الوطني بل المستوى العالمي أيضًا كسبق علمي وتكنولوجي وطبي.
3- كوريا الجنوبية: تقدم كوريا الجنوبية نموذجًا فريدًا في هذا الشأن نظرًا لتقدم المنظومة الطبية فيها بشكل كبير، حيث إنها أصبحت قادرة على إجراء الاختبارات على نطاق أوسع من بريطانيا، وذلك بالتركيز مبكرًا على هذا المجال، مما مكّنها من تحقيق فائض في إنتاج عينات الاختبار. وعلى الرغم من أن التعداد السكاني في كوريا الجنوبية أقل قليلًا من التعداد في بريطانيا؛ إلا أن كوريا الجنوبية تمتلك ضعف عدد المعامل الموجودة في بريطانيا، بقدرة إجراء اختبارات توازي ضعفين ونصف القدرة البريطانية.
المصدر:
Our World in Data, Oxford Martin School, University of Oxford, Available on:
https://ourworldindata.org/grapher/covid-19-total-confirmed-cases-vs-total-tests-conducted?time=1..81&country=DEU+KOR+GBR+USA
4- ألمانيا: تعتبر ألمانيا هي النموذج الأكثر نجاحًا في تطبيق منهاجية الاختبارات الشاملة من حيث التوقيت، حيث بدأت مبكرًا حتى قبل إعلان أول حالة إصابة بها، كما أن لديها إمكانيات إجراء 15 ألف اختبار لكل مليون مواطن، وهو معدل يفوق معدلات الولايات المتحدة وإيطاليا وإسبانيا.
ويرجع نجاح التجربة الألمانية إلى المعامل التي طورت عينات اختبار منذ منتصف شهر يناير بعد انتشار الوباء في الصين، وبدأت استخدامه بشكل موسع على المستوى الوطني بعدها بأيام قليلة. يُضاف إلى ذلك القدرة الاستيعابية الكبيرة لوحدات العناية المركزة في ألمانيا، وتطبيق إجراءات التباعد الاجتماعي بشكل صارم وسريع، مما قد يفسر معدل الوفيات الأقل من فرنسا (أربعة أضعاف المعدل الألماني) وبريطانيا (ضعفَيِ المعدل الألماني) رغم أن الأخيرة أبلغت عن عدد إصابات أقل.
وتشير تقديرات رسمية إلى أن ألمانيا بمقدورها الآن إجراء حوالي نصف مليون اختبار في الأسبوع، مقارنة بإسبانيا التي يمكنها إجراء بين 105 إلى 140 ألف اختبار أسبوعيًّا، وإيطاليا التي أجرت ما يقرب من 200 ألف اختبار الأسبوع الماضي في طفرة رقمية في عدد الاختبارات. ليس هذا فحسب، فنجاح النموذج الألماني لا يتمثل فقط في تلك المؤشرات الرقمية الإيجابية، لكن أيضًا في عدم الاكتفاء بما تحقق، حيث تم الإعلان عن تخطيط الحكومة لرفع هذا المعدل ليصل إلى 200 ألف اختبار يوميًّا، وبدأ التعاقد مع مُصنّعي المستلزمات اللازمة لوضع الخطة موضع التنفيذ.
5- الإمارات العربية المتحدة: حققت الإمارات تقدماً كبيراً من حيث حجم الاختبارات التي تم إجراؤها، وفي هذا السياق تم تسهيل عملية إجراء الفحوصات حيث دشنت مركزاً مخصصاً للكشف عن الإصابة بفيروس كورونا في السيارة، بحيث يتم إجراء الفحص في مدة لا تتجاوز 5 دقائق، وسيقدم هذا المركز خدماته لحوالي 600 شخص يومياً على أن تكون الأولوية لأصحاب الأمراض المزمنة، والمسنين، والحوامل.
تحديات التطبيق الشامل:
على الرغم من فعالية هذه الاختبارات، إلا أنه تظل هناك مجموعة من التحديات التي تواجه تطبيق هذه الآلية تتمثل فيما يلي:
1- الإمكانيات المادية وتوافر المعامل: يتضح من العرض السابق أن مشكلة الإمكانيات المادية وتوافر المعامل هي العائق الرئيسي أمام تطبيق مثل هذا النمط من الاختبارات في كثير من دول العالم. فعلى الرغم من الأرقام الإيجابية المُحققة في الدول المتقدمة، إلا أن التركيز ما زال منحصرًا على الحالات المشتبه بها وتلك التي تعاني من الأعراض ومخالطيهم، وذلك حتى يتم توسيع ودعم إمكانيات القطاع الطبي والمعامل.
2- تجاهل اختبارات الأجسام المضادة: تركز الدول عادة على الاختبارات المسحية، بيد أنه يجب التركيز أيضًا على النوع الآخر من الاختبارات (اختبارت الأجسام المضادة)، خاصة وأن منح شهادات للشخص المتمتع بالمناعة سيكون له تأثير إيجابي مباشر على حركة المواطنين، وعودة النشاط الاقتصادي لطبيعته. إلا أن اختبارات الأجسام المضادة بأخذ عينة من الدم لم تثبت دقتها بالشكل الكافي لتعميمها، وإن كانت منضبطة علميًّا من حيث المبدأ والوسائل المستخدمة.
3- كفاءة العنصر البشري: ففي الوقت الذي تركز فيه الدول على بناء المختبرات وشراء المعدات اللازمة، يغفل كثير منها تدريب العنصر البشري على إجراء تلك الاختبارات. وهنا يدخل في المعادلة مؤشر آخر بالغ الخطورة والأهمية، وهو نسبة اكتشاف الفيروس من أول اختبار، فقد أثبتت التجارب المعملية أن هناك نسبة لا بأس بها من الاختبارات غير المأخوذة بشكل صحيح، بحيث لا تكفي العينة لاكتشاف وجود الحمض النووي للفيروس من عدمه، ومن ثم فإن النتيجة السلبية للاختبار قد تكون غير معبرة بالفعل عن عدم إصابة الشخص بالفيروس.
4- نقص المواد الكيميائية: فقد تتوافر القدرة الشرائية والمعامل والعناصر المدربة، لكن نتيجة لتزايد الطلب على تلك المواد المستخدمة في استخراج الحمض النووي للفيروس أثناء الاختبارات، يصبح الإمداد بها غير متوافق مع حجم الطلب أو سرعة نموه.
ختامًا، إن منهاجية "الاختبارات الشاملة" (Mass Testing) لها العديد من العوائد الإيجابية، إلا أن تنفيذها يواجهه العديد من التحديات، التي تستلزم من الحكومات تبني مقاربة شاملة تأخذ في الحسبان أصحاب المصلحة المتعددين Multi-stakeholders approach، من منتجين، وموردين، وباحثين، وإحصائيين، وأطقم طبية، فالتحديات لا تقتصر على عدم توفر الإمكانيات المادية، بل على توظيف تلك الإمكانيات المادية بشكل متوازن وعادل يأخذ في الحسبان أكبر عدد من أصحاب المصلحة.