دخل التصعيد بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية مرحلة جديدة مع قيام طائرة أمريكية من دون طيار، في 3 يناير الجاري، بشن هجوم صاروخي أسفر عن مقتل قاسم سليماني قائد "فيلق القدس" التابع للحرس الثوري وأبو مهدي المهندس نائب رئيس هيئة "الحشد الشعبي" العراقية وبعض المسئولين الآخرين عقب خروجهم من مطار بغداد الدولي. إذ ربما تفرض تلك الخطوة قواعد ومعطيات جديدة سوف تؤثر دون شك على المسارات المحتملة للمواجهة بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية خلال المرحلة القادمة، خاصة أنها تتوازى مع تصاعد حدة الأزمات الداخلية والإقليمية التي تواجهها إيران وحلفائها على خلفية الحراك الشعبي الذي ما زال مستمراً في لبنان والعراق، ويندلع على فترات داخل إيران.
رسالتان رئيسيتان:
سعت الولايات المتحدة الأمريكية إلى توجيه رسالتين عبر الهجوم الذي أسفر عن مقتل قائد "فيلق القدس" قاسم سليماني ومرافقيه في 3 يناير الجاري. الرسالة الأولي، كانت موجهة إلى إيران، ومفادها أن واشنطن لن تتسامح، خلال المرحلة القادمة، مع المحاولات التي تقوم بها إيران لاستهداف مصالحها سواء في العراق أو في منطقة الشرق الأوسط بشكل عام، حيث بدا لافتاً أن الهجوم جاء بعد فترة وجيزة من محاولة الميليشيات الحليفة لإيران في العراق اقتحام السفارة الأمريكية، في 31 ديسمبر 2019، رداً على الضربات التي وجهتها القوات الأمريكية لمواقع "كتائب حزب الله العراق"، في العراق وسوريا قبل ذلك بيومين.
وبمعنى آخر، فإن التحركات التي قامت بها إيران وحلفائها في الفترة الأخيرة لاستهداف المصالح الأمريكية، والتي أسفرت عن مقتل متعاقد مدني أمريكي في الهجوم على القاعدة العسكرية "K1"، فرضت تحولاً جديداً في التصعيد، وفقاً للرؤية الأمريكية، باعتبار أن إيران تخطت في هذا الصدد "الخطوط الحمراء" التي حددتها واشنطن مسبقاً وتتمثل في إراقة دماء أمريكية أو، على أقل تقدير، تهديد حياة أمريكيين.
وقد كان لافتاً، على سبيل المثال، أن إيران حرصت، خلال الإجراءات التصعيدية التي اتخذتها منذ 12 مايو 2019، عندما بدأت في استهداف ناقلات وسفن شحن ومنشآت نفطية بهدف رفع كلفة الإجراءات العقابية الأمريكية ضدها، على عدم استهداف مصالح واشنطن بشكل مباشر. وحتى عندما أسقطت دفاعاتها طائرة الدرونز الأمريكية، في 20 يونيو من العام نفسه، كانت حريصة في الوقت ذاته على عدم إسقاط طائرة أخرى كانت تقل جنوداً أمريكيين.
وقبل أن تقوم واشنطن بالهجوم الأخير، حرص المسئولون الأمريكيون على توجيه تحذيرات لإيران بأنه سيتم تحميلها المسئولية الكاملة عن أية تهديدات قد توجه للمصالح الأمريكية. فقد قال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في تعليقه على حادث اقتحام السفارة الأمريكية في بغداد: "قتلت إيران متعاقداً أمريكياً وأصابت كثيرين. قمنا بالرد بقوة وسنفعل ذلك دوماً. الآن تنسق إيران هجوماً على السفارة الأمريكية في العراق. سيتم تحميلهم كامل المسئولية. وإضافة إلى ذلك، نتوقع أن يستخدم العراق قواته لحماية السفارة".
دعم الرئيس:
أما الرسالة الثانية، فكانت موجهة إلى الداخل الأمريكي. إذ كان لافتاً أن الهجوم الذي أسفر عن مقتل سليماني ومرافقيه يتوازى مع تصاعد حدة الخلاف بين الرئيس ترامب والديمقراطيين في مجلس النواب على خلفية المحاولات التي يبذلونها من أجل تفعيل إجراءات عزله من منصبه، فضلاً عن أن هذا الهجوم يأتي قبيل إجراء الانتخابات الرئاسية الأمريكية في نهاية العام، والتي يسعى فيها الرئيس ترامب إلى تجديد ولايته الرئاسية لمدة أربعة أعوام قادمة.
ولذا، سعت الإدارة الأمريكية إلى الترويج إلى أن هذا الهجوم يمثل الضربة الثانية التي شنتها في غضون ما يقرب من شهرين ضد "أهداف ثمينة"، حيث تمثلت الضربة الأولى في قتل زعيم تنظيم "داعش" أبو بكر البغدادي في محافظة إدلب السورية في 27 أكتوبر 2019.
ولذا، يبدو من المتوقع أن تحاول الإدارة الأمريكية استغلال ذلك لتعزيز موقع الرئيس في الداخل في مواجهة خصومه السياسيين، ودعم فرصه في تجديد فترته الرئاسية، حيث بدا لافتاً أن هناك حرصاً من جانب بعض المسئولين الأمريكيين على الإشارة إلى أن مقتل سليماني يدخل في إطار العمل على حماية الأمن القومي الأمريكي، باعتبار أنه متهم بالمسئولية عن عمليات أسفرت عن سقوط ضحايا أمريكيين، وهى القضية التي تحظى باهتمام خاص على الساحة الداخلية الأمريكية، بشكل يبدو جلياً في الدعاوى القضائية التي رفعتها عوائل ضحايا بعض هذه العمليات ضد إيران في المحاكم الأمريكية.
خيارات محتملة:
يفرض مقتل سليماني ضغوطاً جديدة على إيران، خاصة لجهة توقيته. إذ أنه يأتي في خضم أزمة داخلية تواجهها الأخيرة، بسبب استمرار الاحتجاجات الرافضة سواء للقرارات الاقتصادية التي تتخذها الحكومة والخاصة برفع أسعار الوقود، أو للتوجهات التي يتبناها النظام في الخارج وتقوم على دعم الحلفاء على حساب معالجة الأوضاع المعيشية في الداخل.
فضلاً عن أنه يأتي في سياق العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة الأمريكية والتي فقدت إيران بسببها عوائد ضخمة من صادراتها النفطية التي تراجعت بشكل كبير، من نحو 2.6 مليون برميل يومياً في مايو 2018 إلى ما يقرب من 200 ألف برميل يومياً في نهاية عام 2019، حسب بعض التقديرات.
إلى جانب أن التطورات الطارئة على الساحة الإقليمية لا تبدو مواتية بالنسبة لإيران، خاصة في ظل استمرار الاحتجاجات الشعبية المنددة بنفوذها الإقليمي في كل من لبنان والعراق، والتي لم تؤثر عليها الإجراءات التصعيدية المتبادلة بين إيران وحلفائها من ناحية والولايات المتحدة الأمريكية من ناحية أخرى.
من هنا، ورغم أن إيران توعدت بالانتقام لمقتل سليماني ومرافقيه، فإن ذلك لا يعني أن الخيارات متعددة أمامها لتحويل هذه التهديدات إلى خطوات إجرائية على الأرض، باعتبار أن الهجوم الأمريكي الأخير فرض قواعد جديدة للتصعيد سوف تضعها طهران في اعتبارها في حالة ما إذا أقدم على محاولة الرد على مقتل سليماني، خلال المرحلة القادمة.