عرض: ياسمين أيمن، باحثة في العلوم السياسية
عادةً ما يكون المحدِّد الاقتصادي هو العامل المحدد لمدى رضاء المواطنين عن أداء حكوماتهم، وأنماط تصويتهم في الانتخابات الوطنية، حيث يميلون إلى دعم سياسات الدولة أوقات الرخاء الاقتصادي، إلا أنه في حال تبدلت الأوضاع، ولم يجدوا ما يسد احتياجاتهم؛ فسيطالبون الحكومة بالقيام بما يسدها، من خلال المطالبة بإعادة توزيع الثروات، أو دفع إعانات البطالة، أو عمل الدولة على بناء شبكات حماية اجتماعية تحمي سكانها من الوقوع في براثن الفقر. ورضاء المواطنين عن أداء الحكومات هو ما يمكنها من الاستمرار لفترات أطول.
وفي سياق متصل، نشرت دورية " Socio-Economic Review" في مايو من العام الجاري دراسة للباحثين "دنجمان وارتز" (قسم العلوم الاجتماعية بكلية لندن الجامعية) و"توني رودن" (قسم الحكومة بكلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية) بعنوان "متجمد أم مرن؟ الأيديولوجيا السياسية في مواجهة فقدان الوظائف والبطالة"، تناقش العلاقة بين فقدان الوظائف وتغير الأيديولوجيا السياسية للمواطنين، مستندة إلى بيانات مجمعة خلال الفترة من عام 2007 حتى عام 2016 عن المواطنين الهولنديين عبر استطلاعات رأي تمت على مراحل متباينة.
تشريح مفهوم "الأيديولوجيا":
تعرف الدراسة الأيديولوجيا السياسية بـ"أنها مجموعة من المواقف السياسية والأخلاقية التي تضم محتويات فعالة، ومحفزة، وإدراكية، فتؤثر على معتقدات وقيم الناس، وتدفعهم لانتهاج سلوك سياسي محدد". وغالبًا ما يتم قياسها باستخدام "مقياس يسار-يمين" "Left-Right Dimension" يأخذ أرقامًا من صفر إلى 10، حيث يعبر اليسار عن الميل لسياسات إعادة التوزيع والقيم التقدمية. أما اليمين فيعبر عن القيم المحافظة، وسياسات الحرية الاقتصادية.
وتشير إلى أن الأيديولوجيا السياسية تتشكل خلال مراحل التنشئة الاجتماعية الأولى للأفراد. وكلما زاد استقرار تلك المراحل كانوا أكثر قدرة على تحديد مواقفهم، وكانت توجهاتهم السياسية أكثر ثباتًا أو "تجمدًا". لكنها تتحدث عن أن هناك جدلًا فكريًّا حول مقدار مرونة الأيديولوجيا السياسية عند البالغين، حيث يرى البعض أنها جامدة. وفي المقابل، هناك مدرسة فكرية تؤمن بمرونتها وقابليتها للتغيير. وتطبق ذلك على المهاجرين الذين يتعرضون لصدمات مختلفة كفيلة بتغيير توجهاتهم السياسية.
واستطردت الدراسة في توضيح عوامل رجوح كفة اليسار أو اليمين، حيث ذكرت أن الأفراد الذين يفقدون وظائفهم أو يشعرون بالتهديد على مصالحهم المادية غالبًا ما سيميلون ناحية اليسار، وحينها سيدعمون مخططات الدولة للرفاه، فضلًا عن شعورهم بالتلاحم مع الأفراد الذين يمرون بنفس تجربتهم الاقتصادية الراهنة.
لكنها تضيف أن الأمر ليس بتلك البساطة؛ حيث إن الأشخاص الذين يفقدون وظائفهم سيكونون بحاجة لتحقيق نمو وخلق وظائف جديدة، وهذا ما تدعمه الأيديولوجيا السياسية لليمين. فضلًا عن كونهم أكثر عداءً للمهاجرين دون غيرهم، وهنا سيبرز الميل بصورة كبيرة لأفكار اليمين المعادية لاستقبال المزيد من المهاجرين؛ حفاظًا على نصيب السكان الحاليين من الوظائف.
ولمناقشة تلك الجدلية، اعتمدت الدراسة على حالات تطبيقية، متمثلة في الولايات المتحدة الأمريكية وهولندا؛ حيث وجدت أن الأفراد يتوجهون لدعم زيادة إنفاق الدولة لتحقيق الرفاه في حال فقدانهم وظائفهم، كما يدعمون سياسات إعادة التوزيع، وهو ما يدعم توجه فاقدي الوظائف لدعم الأيديولوجيات اليسارية. وتضيف أن الأفراد حتى لو شعروا بالتحسن وحصلوا على وظائفهم فسيبقون على دعمهم لها، مطالبين الدولة بدفع تعويضات عن البطالة.
أسباب تغيير الأيديولوجيات:
ولتفسير تلك التوجهات تحدد الدراسة أربعة محدِّدات رئيسية عن طريق تحليلها يمكن استنباط أسباب تغير توجهات الأفراد السياسية، وتتلخص في:
أولًا- "الجرعة": أي مدى قساوة الصدمة الاقتصادية، وحجمها بالنسبة للأفراد. فتلقي واحدة متمثلة في فقدان شخص وظيفته لا يعني بالضرورة إعادة تفكيره في الأيديولوجيا السياسية، وإنما حجم الصدمة الاقتصادية، فضلًا عن أن قوتها هي المحدد؛ فمثلًا حين يفقد أحدهم وظيفته ولا يمتلك تعويضًا أو مدخرات فسيتجه في هذه الحالة للتفكير كليًّا في الأيديولوجيا المتبعة، ويبدأ في المطالبة بخلق شبكات حماية اجتماعية، بمعنى أنه سيميل ناحية اليسار.
ثانيًا- عنصر المفاجأة في الصدمة الاقتصادية وفقدان الوظيفة: فكلما ارتفعت نسبة التوقع بفقدان الوظيفة في مرحلة مسبقة، كان الشخص أكثر قدرة على ضبط أموره، وأكثر ثباتًا على أيديولوجياته. كما أن الخبرات السابقة المتعلقة بموضوع فقدان الوظيفة تجعل الشخص أكثر عقلانية وثباتًا. والعكس صحيح، فحينما يتعرض الشخص لفقدان وظيفته بصورة فجائية فإنه يعيد النظر في أيديولوجياته بصورة كلية، وقد يميل لليسار كليًّا من هول المفاجأة.
ثالثًا- القدرة على مجابهة الصدمة الاقتصادية بامتلاك موارد مالية أخرى، أو مخزون مالي يساعده على الاستمرار، أو كما تسميها الدراسة "قدرات التخزين عند الأسرة"؛ حيث تشير إلى أن الأفراد القادرين على الحفاظ على نفس نمط الحياة الاقتصادي بالرغم من فقدان الوظائف هم الأكثر قدرة على الحفاظ على أيديولوجياتهم السياسية، بعكس الأفراد الذين يعيشون في تعثر مالي بالأساس، حيث تشبههم الدراسة بأفراد على "حافة الهاوية" بانتظار أقل مجهود لدفعهم للسقوط. وفقدان الوظيفة في تلك الحالة يكون محفزًا رئيسيًّا وسريعًا لدفعهم نحو إعادة انتهاج أيديولوجيا يسارية.
رابعًا- التوقعات أو طول أمد الصدمة الاقتصادية: تعتبر هي المحدد الأخير الذي تشير إليه الدراسة. فكلما طالت الفترة التي يفقد فيها الشخص وظيفته كان هناك توجه للأيديولوجيا اليسارية، حيث سيميل الشخص لتأمل خطط الدولة للدعم العام، وستبنى آماله المستقبلية وتوقعاته على مصالحه الشخصية بعيدًا عن المنطق. ويختلف ذلك عن الأشخاص الذين يمتلكون ما يستطيعون العيش به إلى حين الحصول على فرص عمل أخرى.
التجربة الهولندية:
ركزت الورقة على تحليل البيانات التي تم جمعها من استطلاعات رأي تم إجراؤها في فترات متباينة عن المواطنين في هولندا ابتداءً من عام 2007 حتى عام 2016. وقد ضمت أسئلة متعلقة بمستويات الدخل والوظائف للأفراد الذين يبلغون سن السادسة عشرة فيما أكثر، وأسئلة أخرى تتعلق بتحول المواطنين عن أيديولوجياتهم السياسية في حال مواجهتهم صدمات اقتصادية تؤثر على مستوى معيشتهم. كما تم الربط بين سياسات الهجرة وإعادة توزيع الثروات، وتأثيراتها على الأحزاب التقليدية المنتمية لليسار ولليمين.
وتوضح الدراسة أنه خلال الفترة من فبراير 2007 حتى أكتوبر 2010 تولى قيادة البلاد حكومة ائتلافية يسارية، ومن أكتوبر 2010 وحتى نوفمبر 2012 كان الحكم من نصيب حكومة ائتلافية مكونة من أحزاب اليمين. وتشير إلى أن كلتا الحكومتين قد تم حلهما قبل اكتمال فترتهما للحكم في البلاد؛ مما استدعى إجراء انتخابات مبكرة، وتشكيل حكومة أرجوانية تتكون من حزب يساري وحزبين ينتميان لليمين، وقد قضت الحكومة الأرجوانية مدتها كاملة حتى نوفمبر 2017.
وعن الأحزاب الشعبوية ترصد الدراسة التصاعد المتنامي لحزب من أجل الحرية الشعبوي، حيث ارتفعت نسبة تأييده من 6% في عام 2006، حتى بلغت 15% في عام 2012. ومن الجدير بالذكر أن سياسات الحزب هي خليط بين اليمين (خاصة في رؤيته تجاه المهاجرين) واليسار (بشأن تخفيض سن التقاعد).
وبالإشارة إلى الوضع الاقتصادي، توضح الدراسة أن الاضطرابات التي تعرض لها الاقتصاد الهولندي خلال الفترة من عام 2007 وحتى عام 2016، التي ساهمت في ارتفاع معدل البطالة من 2.8% في عام 2008 إلى 7.4% في عام 2014؛ قد دفعت بعض المواطنين إلى تغيير توجهاتهم الأيديولوجية، لكن ذلك لا يمكن التعويل عليه كثيرًا؛ لأن الركود الاقتصادي والتضخم لم يكن قويًّا مثل بقية دول البحر الأبيض المتوسط، التي ارتفعت نسبة البطالة بها إلى 25% في عام 2012.
فإلى جانب فقدان الوظائف تشير الدراسة للسياسات التقشفية التي اتبعتها الحكومة الأرجوانية التي ضمت أكبر أحزاب اليسار "حزب العمال PvdA" مما جعل المواطنين لا يميلون ناحية اليسار، ويدعمون أحزابًا مناهضة للمؤسسية أو يفقدون الثقة بالعملية السياسية برمّتها وبالمشاركة في التصويت، مما يؤكد على تضافر العوامل المختلفة لتغيير أيديولوجيات الأفراد وغياب اليقين عن توجههم ناحية اليسار أم اليمين، فالأمر مرتبط بالمصالح لدرجة كبيرة.
نتائج تحليل البيانات:
لتوضيح الحالة الهولندية بصورة أكبر، يسترسل الكاتبان في شرح الأرقام والبيانات المجمعة كما يلي:
أولًا- كيفية ضبط متغيرات البحث: يوضح الباحثان خلال الدراسة الطريقة الإحصائية التي تمت وفقًا لها تحليل البيانات، وضبط المتغيرات الجديرة بالبحث والتحليل. فعند قياس البطالة أو العمل لم يتوقف الأمر عليهما وعلى ارتباطهما بالأيديولوجيا السياسية، وإنما كانت هناك عوامل أخرى أُخذت بعين الاعتبار عند تحليل البيانات؛ ومنها العمر، حيث وجدا أنه بتقدم العمر تحدث حالة من حالات الثبات الأيديولوجي بعكس صغار السن الذين يكونون أكثر مرونة في تغيير أيديولوجياتهم السياسية.
وكذلك الحالة الاجتماعية؛ فثبات أو جمود الشخص وتغير مواقفه مرتبط لحد كبير بتحمله مسئولية أسرة كاملة أو عزوبيته، أو كونه منفصلًا حديثًا أو أرمل. ففي حال كان متكفلًا بأسرة فهو بحاجة لعمل ثابت وقوانين تدعم استقرارها؛ لذا سيميل ناحية اليسار. وفي المقابل، إذا كان منفصلًا حديثًا فهو أكثر عرضة للاضطرابات النفسية وفقدان وظيفته، وبالتالي سيميل ناحية اليسار كونها تدعم قوانين حماية الأسرة.
فضلًا عما سبق، هناك عامل التعليم الذي يؤثر على طبيعة الوظيفة التي يحصل عليها الشخص، ويؤثر على معتقداته السياسية وعلى ثباتها. بالإضافة إلى الحالة الصحية للأفراد، فكلما كانوا أقل صحة اتجهوا لليسار لرغبتهم في دعم الحكومة للقطاع الصحة، على عكس الأفراد الأصحاء الذين سيكونون أكثر حفاظًا على وظائفهم ومن ثم أكثر ميلًا ناحية اليمين، علاوة على مقدار دخل الأسرة وطرق الحصول عليه، فكلما كانت الأسرة أكثر قدرة على الاستقرار الاقتصادي دون الاعتماد على الوظيفة فقط كانت أكثر محافظة على فكرها السياسي الذي سيميل ناحية اليمين.
ولم تُغفل الدراسة العامل الجندري، وكذلك تجارب العمل السابقة من حيث كون الشخص معتادًا على البطالة، أم يعمل منذ فترات طويلة. وتشير الدراسة إلى أن كل العوامل السابقة مؤثرة في تحليل البيانات المجمعة عما يقرب من عشرة آلاف هولندي.
ثانيًا- نتائج تحليل البيانات: توصلت الدراسة إلى أن فقدان الوظائف لا يتسبب في تغير أيديولوجي ناحية اليسار دائم عند الأفراد، ولكن الأمر يرتبط بطول أمد فقدان الوظيفة. فكلما طالت المدة وجد أن نسبة تحرك الميل الأيديولوجي تبلغ نحو 0.2 ناحية اليسار. وأن الأفراد الفاقدين لوظائفهم حينما يجدون فرص عمل جديدة يظلون متوجهين ناحية اليسار.
وعن عنصر المفاجأة في فقدان الوظيفة فقد توصلت الدراسة إلى أن توقع الأفراد بفقدان وظائفهم لا يؤثر كثيرًا على توجهاتهم الأيديولوجية. وفيما يخص قدرة الأسرة على تحمل أعباء المعيشة دون الاعتماد على الوظيفة، فقد أشارت الدراسة إلى أن الأسر التي تمتلك موارد دخل غير الناتج عن الوظيفة تكون أقل ميلًا لتغيير أيديولوجياتها، والعكس صحيح، حيث تتوجه الأسر الأكثر احتياجًا للوظيفة لتغيير أيديولوجياتها ناحية اليسار.
وفيما يخص عامل عدم المساواة في الدخل والهجرة، فقد استنبطت الدراسة أن الأفراد الذين يفقدون وظائفهم سيكونون أكثر تأثرًا بسياسات عدم المساواة في توزيع الدخل، لذا سيميلون لسياسات إعادة التوزيع، أي للأيديولوجيات اليسارية. بينما ستكون مشاعر الكراهية تجاه الهجرة هي الأقل تأثيرًا على توجههم ناحية اليسار.
وختامًا، تشير الدراسة إلى أن العلاقة بين فقدان الوظيفة وتغير الأيديولوجيا السياسية لا ينتج عند الافتقار للمال فقط، لكن لتغير المكانة الاجتماعية، والهوية الخاصة بالفرد، حيث يسعى الأفراد للحفاظ على مكانتهم وهويتهم التي اكتسبوها على مدار أعوام، ولذلك تحدث إعادة بلورة للأفكار المحملين بها، والتمسك بما يحقق لهم أكبر قدر ممكن من الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي.
وتلعب أحزاب اليمين الشعبوية على تلك النقطة جيدًا، حيث تثير حفيظة المواطنين تجاه المهاجرين باعتبارهم عامل تهديد لمصالحهم، لكن الدراسة أشارت إلى حاجة تلك الأحزاب لتبني برامج حماية اجتماعية عامة تتشابه مع ما يدعو إليه اليسار. وبالتالي، فهي لديها خلل في تلك النقطة.
النص الأصلي:
Dingeman Wiertz and Toni Rodon, "Frozen or malleable? Political ideology in the face of job loss and unemployment", Socio-Economic Review, 2019, Vol. 0, No. 0, 1–25