ما زالت إيران حريصة على إجراء مزيد من التجارب الصاروخية وتوجيه تهديدات مباشرة لبعض دول الجوار، في سياق محاولتها رفع مستوى التصعيد ردًا على الإجراءات العقابية التي تتخذها الولايات المتحدة الأمريكية ضدها. واللافت أن ذلك يأتي في الوقت الذي تحاول فيه حكومة الرئيس حسن روحاني تحفيز الدول الأوروبية من أجل تفعيل خطواتها لمواصلة التعاملات بين الطرفين وإنقاذ الاتفاق النووي الذي يواجه اختبارًا صعبًا في الفترة الحالية.
إجراءات تصعيدية:
أعلن الحرس الثوري، في 24 أغسطس 2019، عن إجراءه تجربة صاروخية جديدة، بعد يومين فقط من كشف وزارة الدفاع الإيرانية عن منظومة دفاعية جديدة أطلقت عليها اسم "باور 373"، وادعت على لسان رئيس منظمة الصناعات التكنولوجية شهرام شاهرخ أنها تتفوق في قدراتها على منظومة "باتريوت" الأمريكية.
وفي الواقع، فإن ثمة ملاحظتين مهمتين في هذا السياق: الأولى، أن الحرس الثوري بدأ في تغيير نهجه بالإعلان مباشرة عن إجراء تجارب صاروخية جديدة، بعد أن كان يتعمد، في بعض الأحيان، فرض تعتيم كامل على مثل هذه الأنشطة التي تثير ردود فعل رافضة من جانب القوى الدولية المعنية باستمرار العمل بالاتفاق النووي.
إذ لم تقر إيران، على سبيل المثال، بإجراء تجربة على صاروخ متوسط المدى من طراز "شهاب 3"، في 24 يوليو 2019، إلا بعد مرور أسبوع، حيث اضطرت إلى ذلك، بعد أن كشف بعض التقارير الإعلامية الأمريكية، استنادًا إلى مسئولين لم تكشف عن هوياتهم، أن إيران قامت بالفعل بإجراء تلك التجربة.
ويبدو أن تعمد إيران الإسراع بالإعلان عن التجربة الجديدة، التي أجريت بالفعل في 23 أغسطس الجاري، جاء بعد أن كشفت تقارير جديدة، في 17 من الشهر نفسه، عن أن إيران تستعد لإطلاق صاروخ جديد، بعد أن ظهر نشاط متزايد لموقع مخصص لإطلاق الصواريخ.
والثانية، أن إيران لم تعلن بعد عن نوعية الصاروخ الذي أجرت تجربة إطلاقه ولا مداه أو الهدف منه، خاصة أنها حاولت خلال الفترة الماضية إطلاق صواريخ تحمل أقمارًا صناعية، لكن ربما تعلن عن ذلك لاحقًا، في إطار سياستها التصعيدية الحالية.
اعتبارات عديدة:
يمكن تفسير إقدام الحرس الثوري على مواصلة إجراء هذه التجارب بالتوازي مع إعلان وزارة الدفاع عن تطوير منظومة دفاعية جديدة، في ضوء اعتبارات عديدة يتمثل أبرزها في:
1- الضغط على الأوروبيين: تعمدت إيران الإعلان عن هذه الخطوات قبيل وبالتوازي مع انعقاد قمة مجموعة السبع الصناعية في باريس، في الفترة من 24 وحتى 26 أغسطس الجاري، لممارسة أكبر قدر من الضغوط على الدول الأوروبية من أجل دفعها إلى اتخاذ إجراءات أكثر فعالية، وفقًا لرؤية إيران، من أجل مواصلة التعاملات بين الطرفين واستمرار العمل بالاتفاق النووي.
إذ ما زال المسئولون الإيرانيون حريصين على توجيه انتقادات قوية للجهود التي تبذلها الدول الأوروبية في هذا السياق، خاصة فيما يتعلق بتفعيل آلية "انستكس"، التي اعتبروا أن إيران لم تحصل على عوائد اقتصادية عبرها بعد.
وفي رؤية طهران، فإن مثل هذه الخطوات التي تتوازى مع إصرار إيران على مواصلة تخفيض التزاماتها في الاتفاق النووي، لا سيما فيما يتعلق بزيادة كمية تخصيب اليورانيوم ورفع مستواه، وربما زيادة عدد أجهزة الطرد المركزي في المرحلة القادمة، سوف توجه رسائل إلى الدول الأوروبية بأن عدم تفعيل تلك الآلية ورفع مستوى التعاملات قد يدفع إيران إلى اتخاذ إجراءات أكثر تصعيدًا، وربما الاتجاه في النهاية إلى الخروج من الاتفاق النووي برمته على غرار الخطوة التي اتخذتها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في هذا الصدد.
2- عدم تبلور موقف غربي موحد: قرأت طهران التباينات القائمة في المواقف الأوروبية والأمريكية إزاء آليات التعامل مع الخطوات التصعيدية التي تتخذها على أنها تمثل مؤشرًا يكشف عن عدم وجود موقف غربي موحد يمكن أن يفرض مزيدًا من الضغوط والعقوبات عليها في المرحلة القادمة.
وقد استندت إيران في هذه القراءة إلى مؤشرات عديدة، منها، على سبيل المثال، قرار سلطات جبل طارق بالإفراج عن سفينتها التي قامت، بالتعاون مع القوات البريطانية باحتجازها في 4 يوليو الفائت، حيث رفضت السلطات، في 18 أغسطس الجاري، الطلب الذي تقدمت به الولايات المتحدة الأمريكية باحتجاز السفينة التي كانت تستعد للمغادرة، مبررة ذلك بأن "العقوبات الأمريكية غير قابلة للتطبيق في الاتحاد الأوروبي".
كما أن إيران تتابع المواقف التي تتبناها الدول الأوروبية إزاء الدعوات الأمريكية والبريطانية لتشكيل حشد بحري بهدف تأمين الملاحة في منطقة الخليج، حيث ترى أن التحفظات التي تبديها بعض تلك الدول تشير إلى وجود تباينات في السياسات الغربية بشكل عام تجاهها.
3- الرد على التحذيرات الأمريكية: تحاول إيران عبر تلك الخطوات الرد على التحذيرات التي وجهتها الولايات المتحدة الأمريكية في الفترة الأخيرة من المخاطر التي يمكن أن ينتجها رفع بعض القيود المفروضة على إيران بمقتضى الاتفاق النووي في بداية عام 2021، وهى القيود الخاصة ببيع وشراء إيران لبعض الأسلحة التقليدية على غرار أنظمة الدفاع الجوي والدبابات وغيرها.
وبمعنى آخر، فإن إيران تسعى عبر ذلك إلى تقليص أهمية التداعيات التي يمكن أن يفرضها رفع هذه القيود، عبر الإيحاء بأن لديها من القدرات العسكرية، خاصة في مجال الدفاع الجوي والصواريخ الباليستية، ما يمكن أن تستعيض به عن شراء مثل هذه الأسلحة من الخارج، لا سيما من دول مثل روسيا أو الصين.
ومن هنا، تعمد المسئولون الإيرانيون المقارنة بين المنظومة الدفاعية الجديدة "باور 373"، التي كان لافتًا أن إيران أعلنت عنها أكثر من مرة وعلى مراحل مختلفة، وبين بعض الأنظمة الدفاعية الدولية، مثل منظومة "إس 300" الروسية و"باتريوت" الأمريكية.
إذ أشار الرئيس حسن روحاني، خلال زيارته لمقر وزارة الدفاع للإعلان عن المنظومة الجديدة، في 22 أغسطس الجاري، إلى أنها "أقوى من إس 300 وقريبة جدًا من إس 400 الروسية".
4- التصعيد في مسارات متوازية: تحرص طهران في الوقت الحالي على تبني سياسة التصعيد في مسارات متوازية. إذ لم تعد تحصر إجراءاتها التصعيدية فيما يتعلق بتخفيض مستوى التزاماتها في الاتفاق النووي، أو توجيه تهديدات لحرية الملاحة في منطقة الخليج، وإنما بدأت في توسيع نطاق تلك الإجراءات لتمتد إلى الإعلان عن إجراء مزيد من التجارب الصاروخية والتلويح برفع مستوى الدعم للتنظيمات الإرهابية والمسلحة الموالية لها.
5- متابعة التحركات الإسرائيلية: تبدي المؤسسة العسكرية الإيرانية اهتمامًا خاصًا بمتابعة التطورات التي تجري على الساحة العراقية، خاصة عقب الهجمات التي تعرضت لها بعض مخازن الأسلحة والمواقع التابعة للميليشيات الموالية لها، لا سيما ميليشيا الحشد الشعبي، حيث باتت تعتبر أن هذه الهجمات، التي يحتمل أن تكون إسرائيل هى الطرف الذي قام بشنها، تشير إلى اتجاه الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل إلى توسيع نطاق المواجهة معها، بداية من البرنامجين النووي والصاروخي، مرورًا بوجودها العسكري في سوريا، وانتهاءً بنفوذها في العراق، وهو ما يبدو أنه دفعها إلى توجيه رسائل مضادة بأنها قد تتجه بدورها إلى تبني هذا الخيار عبر الإيعاز للميليشيات الموالية لها، التي قد تقدم لها مستوى أعلى من الدعم العسكري، بالانخراط بشكل مباشر في التصعيد الحالي.
وعلى ضوء ذلك، يمكن القول في النهاية إن إيران سوف تتجه إلى مواصلة تبني إجراءات تصعيدية خلال المرحلة القادمة، على نحو سوف يزيد من حدة التوتر على الساحة الإقليمية، في ظل إصرارها على توسيع نطاق تلك الإجراءات وعدم حصرها في البرنامج النووي.