تتصاعد وتيرة المواجهات الميدانية بين قوات الجيش السوري والمليشيات الموالية له وبين فصائل "هيئة تحرير الشام" في إدلب، والتي بدأت منذ منتصف مارس 2019، بعد نحو 6 أشهر من توقيع اتفاق سوتشي بين روسيا وتركيا. وعلى الرغم من إبقاء الاتفاق قائمًا في محاولة لتجنب اتساع نطاق التوتر بين الطرفين، إلا أن التطورات الجارية توحي بوجود تفاهمات روسية – تركية جديدة على تحركات نوعية في إدلب في مواجهة فصائل بعينها، بعد أن توصلت روسيا إلى مخرج أعلن عنه مؤخرًا وزير الخارجية سيرجي لافروف بقوله أن "الاتفاق يسمح بمكافحة الإرهاب"، وذلك في مقابل دعم المسار السياسي الخاص باللجنة الدستورية كضمانة للمعارضة التي تمثل إدلب معقل الشق المسلح منها.
ويتوازى ذلك مع التقارب الملحوظ في المواقف الروسية والأمريكية والتركية حول إدلب، والذي بدا جليًا عقب الزيارة التي قام بها الأسبوع الجاري وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو إلى سوتشي، إذ ركز في تصريحاته على عملية التفاوض بين المعارضة والنظام، الأمر الذي يرفع من سقف التوقعات بشأن تفعيل مسار جنيف لهذا الغرض كبديل لمسار آستانا، حيث كان لافتًا مسارعة وزير الخارجية التركي مولود تشاويش أوغلو إلى الإعلان عن أن أزمة اللجنة الدستورية في طريقها إلى الحل، في تغريدة على حسابه على موقع "تويتر".
ومن هنا، يمكن القول إن هذه المعطيات تؤشر إلى أن إدلب سوف تشكل منعطفًا جديدًا في الصراع السوري، باتجاه إنضاج التفاهمات الدولية والإقليمية حول مناطق نفوذ النظام في مواجهة آخر معاقل المعارضة المسلحة، قبيل الانتقال إلى شرق الفرات التي ستكون المنطقة التالية وفقًا لتلك التفاهمات.
دلالات عديدة:
كشفت العمليات العسكرية الجارية عن مستوى التشابك المعقد والتداخل بين المدنيين والمسلحين الذين يفرضون هيمنتهم على مناطق واسعة من المدينة. فعلى مدار الصراع السوري، مثلت إدلب "خزانًا" لفصائل المعارضة والتنظيمات الإرهابية، بعد أن تم نقل عناصرها في إطار التفاهمات حول إنشاء مناطق خفض التصعيد، فى حين أنها في الأساس من المدن السورية ذات الكثافة السكانية العالية، وهو ما يفسر ارتفاع عدد الضحايا من المدنيين، على نحو دعا الأمم المتحدة إلى التحذير من تداعيات المعركة على المستوى الإنساني.
وتتوقع مراكز الرصد والتحليل أن تكون إدلب أكثر المواقع كُلفة في الصراع السوري، واللافت في هذا السياق أن النظام السوري عاد مرة أخرى لاستخدام البراميل المتفجرة في معاركه ضد خصومه بعد التراجع عن استخدامها لفترة طويلة. وبحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، فمنذ 30 إبريل 2019، ألقى النظام ما لا يقل عن 82 برميلًا متفجرًا على ريف اللاذقية الشمالي الشرقي وريفى حماة وإدلب بالتوازي مع قيام المقاتلات الروسية بشن 6 غارات، بشكل مكن قوات النظام من فرض سيطرتها على 13 منطقة باستخدام القوة.
وقد استنفرت حالة التصعيد الفصائل المسلحة، لا سيما التابعة لـ"هيئة تحرير الشام"، والتي تنتشر في إدلب وأرياف حلب الغربي وحماة الشمالي واللاذقية الشمالي الشرقي. وظهر أبو محمد الجولانى قائدها في تسجيل مصور يدعو إلى "حمل السلاح للدفاع عن إدلب"، مشيرًا إلى أن "تصعيد القصف السوري والروسي أسقط كافة الاتفاقيات حول إدلب"، وقد كان لافتًا تركيز الجولاني، في حديثه المصور، على فشل المسار السياسي من آستانا إلى سوتشي، حيث لم يركز على الموقف الميداني بقدر تركيزه على التفاهمات السياسية.
تداعيات سياسية:
يبدو أن العملية العسكرية التي تجري حاليًا في إدلب سوف تفرض تداعيات سياسية عديدة قد تشكل بدورها متغيرات مهمة في مسار الأزمة السورية بشكل عام، وهو ما يكشفه المؤشران التاليان:
1- مناورات أنقرة والنظام: تأخذ المعركة في إدلب بعدًا استراتيجيًا خاصًا بالنسبة لتركيا منذ بدء اندلاع الصراع السوري، حيث كانت أنقرة حريصة على أن تشملها ترتيبات أمنية خاصة، وظلت على مدار سنوات الصراع أحد أدوات التوظيف التركي في الصراع السوري وأصبحت "خزان" التنظيمات الموالية لها في الصراع، بما يعني أن أنقرة تخشى تقليص تأثير تلك الأدوات.
وفى المقابل، تبدو المعركة في إدلب بالنسبة للنظام بمثابة معركة بين القوات المُوالِية والمُعارِضة له من جانب، ومعركة مع تركيا من جانب آخر، خاصة بعد أن زادت الأخيرة من عدد قواتها المشاركة في عملية خفض التصعيد بدعوى أن بعض النقاط تعرضت لإطلاق نار من جانب قوات النظام، وهو مؤشر أيضًا قد يقود إلى فتح مجال لاحتكاكات فرعية في إدلب تنخرط فيها قوات تركية.
2- دفع مسار التسوية: يرجح على نطاق واسع لدى الخبراء والمراقبين أن يشهد المسار السياسي للأزمة السورية تحولات جديدة في ضوء الموقف في إدلب. فالأطراف المناوئة للنظام السوري ترى أن إدلب كانت تمثل ضمانة للمعارضة المسلحة، وهو ما يقتضى أن تتركز التفاهمات حول ذلك، وأرجعت العديد من التقديرات فشل مسار آستانا وتلميح كافة الأطراف، بما فيها روسيا، إلى الحاجة لأفكار جديدة للتعاطي مع الأزمة ومع التقارب الأمريكي – الروسي والتركي – الأمريكي حول إدلب، إلى ظهور اتجاه بات يرى أن هناك مسارًا آخر ستفرضه تلك المتغيرات قد يتمثل في العودة إلى جنيف، لا سيما في ظل المؤشرات الأخرى الخاصة بتوسيع دور الأمم المتحدة في رعاية الحوار.
سيناريوهات محتملة:
وعلى ضوء ذلك، من المتصور أن التداعيات الميدانية للمعركة سترفع من حدة الضغوط التي يتعرض لها النظام، نظرًا لتشابك الوضع الميداني وسقوط المزيد من الضحايا المدنيين. وهنا، فإن أحد الاتجاهات يرجح أن تتحول الانتقادات الدولية إلى تفعيل تحرك مضاد، في حين يرى اتجاه آخر أن تلك المعطيات قد تتحول إلى ورقة للضغط على النظام من خلال مجلس الأمن في أقصى الظروف، بهدف التعجيل بالمسار السياسي.
وبالنسبة لتركيا، يمكن القول إن التصعيد الحالي وضعها في مأزق الدفاع عن "الوكلاء" أو "الحلفاء" في إدلب، حيث قد تقدم على إبرام تفاهمات غير معلنة أو صفقة تتضمن تحييد الموقف تجاه فصائل المعارضة المسلحة أو "الجيش السوري الحر"، في مقابل ترك فصائل "هيئة تحرير الشام" تواجه مصيرها، على أن يتم إنقاذ قيادتها مع ترك الباب مفتوحًا أمام العناصر الوافدة للهروب من الساحة، على نحو ما جرى، إلى حد ما، مع تنظيم "داعش".
وقد يحتمل أيضًا في ضوء التطورات التي تشهدها إدلب أن يتم نقل العديد من الفصائل إلى شرق الفرات، وفقًا لتفاهمات غير معلنة، وهو ما يحقق مصلحة مزدوجة لتركيا والنظام في آن واحد للحد من سيطرة مليشيا "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) على تلك المنطقة ودفعهما إلى الدخول في مواجهات لاستنزاف قدراتهما.
وقد كان لافتًا أن الجولاني أعلن، في تسجيله قبل الأخير، دعم موقف تركيا في مواجهة الأكراد الذين هيمنوا على مناطق العرب السنة في شرق الفرات. وسبق أيضًا أن ألمحت تركيا، بالتزامن مع إعلان الولايات المتحدة انسحابها من سوريا، عن نقل 25 ألفًا من عناصر "الجيش السوري الحر" من إدلب إلى شرق الفرات، حيث من المتصور أنها ستراهن على دور لهم في مواجهة الأكراد، على غرار ما جرى في العديد من المعارك السابقة، وهو ما يؤشر في النهاية إلى أن الصراع السوري مقبل على استحقاقات سياسية وميدانية سوف تحدد المسارات المحتملة له خلال المرحلة القادمة.