أعتقد أن هنري كيسينجر هو الذي وصف نهجه في إدارة المفاوضات العربية – الإسرائيلية بأنه بمثابة خلق الوهم بوجود زخم للتعويض عن نقص الزخم. لم يكن الهدف هو التوصل لنتيجة، بل بالأحرى الإبقاء على كل المشاركين في هذه العملية، والتمسك بقاعدة أن الأجيال المتعاقبة من الدبلوماسيين الأميركيين هم الذين «قادوا» عملية سلام أكثر من الحرص على إقامة سلام عادل ودائم. لعقود من الزمان، كان ما يقوله الفلسطينيون هو «كل العملية، لا سلام». ويبدو أن إدارة ترامب قد اتخذت خطوة أخرى إلى الأمام في هذا النهج. بدلاً من إضاعة الوقت في محاولة خلق تصور للمفاوضات بين الحكومة الإسرائيلية المتعنتة أيديولوجيا والسلطة الفلسطينية الضعيفة والمعطلة، وعد فريق ترامب بالقيام بالعمل بأنفسهم من خلال تجميع «صفقة القرن».
ونحن ننتظر كشف النقاب عن هذه «الصفقة» منذ ما يقرب من عامين وقيل لنا على فترات منتظمة إنها ستخرج إلى النور «في غضون أسابيع أو شهور». وكما أرى، فإن الفريق المؤلف من كوشنر وجرينبلات وفريدمان ربما توصل إلى طريقة لوضع «برهان الخلف» (هي برهنة أساسها إثبات صحة المطلوب بإبطال نقيضه أو فساد المطلوب بإثبات نقيضه). لحكمة كيسنجر من خلال خلق وهم التوصل إلى صفقة من أجل تعويض عدم وجود صفقة.
في خلال العامين الماضيين، من أجل زيادة التشويق والترقب فيما يتعلق بالضبط بما قد تتضمنه الصفقة، كانت هناك تسريبات من مصادر «رسمية» (عربية وإسرائيلية وأميركية). وكان فريق ترامب ينفي بحياء مصطنع كل من هذه التسريبات مع ملاحظة تحذيرية بأن جهودهم ظلت عملا قيد التقدم ولن يتم الكشف عنها إلا عند اكتمالها وفي الوقت المناسب. ونظراً لأن معظم التسريبات قد أشارت إلى مقترحات غير مقبولة تماماً للفلسطينيين، فقد أرفق فريق ترامب إنكاره بتحذير مفاده أنه يجب على الفلسطينيين ألا يرفضوا «الصفقة» حتى يرونها – ووعد بأنها ستتضمن مقترحات من شأنها تحسين حياتهم.
وهكذا فإننا لدينا أسئلة وفيرة حول ما الذي تنطوي عليه الصفقة. وقد أصبحت لعبة التخمين، في حد ذاتها، صناعة من نوع ما – تقريباً مثل التحقيقات اللاهوتية في العصور الوسطى. وهذا يقودني لأن أسأل «ماذا لو لم تكن هناك صفقة القرن؟».
وما يغذي سخريتي هو حقيقة أنه خلال نفس فترة العامين، بينما كان من المفترض أنه يتم إعداد «الصفقة»، كانت إدارة ترامب وحكومة نتنياهو مشغولين للغاية في اتخاذ خطوات لتوضيح نواياهم تجاه الفلسطينيين.
فقد قام ترامب، على حد تعبيره، «بإخراج القدس من طاولة المفاوضات» من خلال الاعتراف بها عاصمةً لإسرائيل. ومن خلال إغلاق القنصلية الأميركية ورفض تقديم المساعدات الأميركية للمؤسسات الفلسطينية في القدس الشرقية، فقد وضع ترامب هذا المجتمع الفلسطيني الأسير بالكامل تحت السيطرة الإسرائيلية. وبالمثل، فقد حاولت إدارة ترامب إبعاد قضية اللاجئين الفلسطينيين «عن طاولة التفاوض» من خلال تعليق كل مساعدات الأونروا وتوضيح أنهم لا يعتبرون أحفاد هؤلاء الذين أُجبروا على النفي عام 1948 لاجئين.
وفي الوقت نفسه، ومن خلال صمتها، قبلت إدارة ترامب الإجراءات الإسرائيلية أحادية الجانب التي حددت مسبقاً مستقبل الأراضي والحقوق الفلسطينية. وتوسعت المستوطنات الإسرائيلية، وتم إضفاء الشرعية على البؤر الاستيطانية غير القانونية، بينما تسارعت عمليات الهدم الإسرائيلية للمنازل الفلسطينية واستغلال الموارد والأراضي الفلسطينية بمعدل ينذر بالخطر. أضف إلى ذلك قيام الإدارة: بتعليق كافة المساعدات الفلسطينية، وقبول «قانون دولة القومية اليهودية»، واتخاذ إجراءات لحماية إسرائيل من المحكمة الجنائية الدولية، والجهود المبذولة لتجريم دعم حركة مقاطعة إسرائيل –وكلها ساهمت في تعزيز العجز الفلسطيني وشعور إسرائيل بالإفلات من العقاب. ومع وضع كل هذا في الاعتبار، أقترح أنه يجب أن تنتهي لعبة التخمين. حتى لو كان هناك «صفقة القرن» (وما زلت غير واثق بشأن هذا السؤال)، يمكننا أن نتأكد بأنه لن يكون هناك: إنهاء احتلال الأراضي التي تم الاستيلاء عليها في حرب 1967، أو خلق سيادة فلسطينية حقيقية وسيطرة على أراضيهم ومواردهم، أو إعطاء الفلسطينيين الفرصة للتجارة بحرية وبشكل مستقل مع العالم الخارجي، أو الاعتراف بحقوق اللاجئين الفلسطينيين، أو القيام بأي شيء لإعادة توحيد المناطق التي يطلق عليها الآن «القدس الشرقية» تحت السيطرة الفلسطينية. وأخيراً، فإن «التلميح» بأن الصفقة ستغدق المال على الفلسطينيين «لجعل حياتهم أفضل» هو أمر مهين بقدر ما هو بلا فائدة. ونصيحتي هي أن نتوقف عن اللعب ونترك مجموعة ترامب تمارس لعبة الخداع بنفسها.
*نقلا عن صحيفة الاتحاد