مثَّل تعامل نيوزيلندا مع حادثة كرايست تشيرش نقطة تحول كبيرة في تاريخ تعامل الغرب مع الجرائم الإرهابية ضد المسلمين. فعلى الرغم من عدم تواني المجتمع الغربي المتشبث بثقافة الحرية والقيم الليبرالية عن وصم جرائم التنظيمات التي تحسب نفسها فكريًّا على الإسلام بالإرهابية، إلا أنه في المقابل كثيرًا ما غلبت السياسات المترددة والمساحات الرمادية على العمليات الإرهابية المتبعة ضد مسلمين. وهو ما اختلف في تعامل نيوزيلندا مع هذه العملية الإرهابية منذ اللحظة الأولى، حيث سرعان ما قامت الحكومة النيوزيلندية باتخاذ العديد من الإجراءات التضامنية مع الضحايا والاستباقية أيضًا بما يمنع تكرار مثل هذه العمليات مستقبلًا، ولم يختلف موقف الساسة النيوزيلنديين كثيرًا ومنهم القوميون، مما قد يمنع محاولات بعض التنظيمات المتطرفة لاتخاذ هذه العملية ذريعة لشن عمليات انتقامية ويوقف تشكل دائرة عنف جديدة.
إجراءات الحكومة:
اختفت المساحات الرمادية في تعامل الحكومة النيوزلندية برئاسة "جاسيندا أرديرن" مع العملية الإرهابية في مسجدي "النور" و"لينوود" في مدينة كرايست تشيرش. ففي الوقت الذي كانت تتعاطى فيه وسائل الإعلام الغربية مع الحادث بمصطلحات "المسلح" و"المهاجم"، أعلنت "أرديرن" أنه عمل إرهابي. وسنتناول فيما يلي الإجراءات والسياسات التي اتبعتها الحكومة النيوزلندية بزعامة "أرديرن" لإدارة أزمة مسجدي كرايست تشيرش.
1- لجنة تحقيق ملكية: مثَّل إعلان رئيسة وزراء نيوزيلندا تشكيل "لجنة ملكية" للتحقيق في ملابسات الحادث أهمية كبيرة، لا سيما أن "أرديرن" عملت منذ اللحظة الأولى على كشف ملابسات الحادث بكافة جوانبها للوصول إلى تفسيرات حقيقية للمشكلة، خاصة أن نيوزيلندا بلد آمن. ويأتي قرار الحكومة النيوزلندية بتشكيل لجنة تحقيق ملكية كرد ملائم على هذه الجريمة، إذ تُخصَّص اللجان الملكية للقضايا ذات الأهمية العامة، ويكون عمل اللجان الملكية مستقلًا تمامًا.
2- إبراز الرموز الإسلامية: تبنت حكومة "أرديرن" منذ وقوع الحادث استراتيجية إزالة المسافات بين مجتمع المسلمين والنيوزيلنديين من خلال إظهار أنماط التضامن المختلفة معهم. وفي هذا السياق، تم بث الأذان وصلاة الجمعة في الشاشات التلفزيونية الحكومية والخاصة.
وفي هذا السياق، قادت "أرديرن" نحو خمسة آلاف شخص للتضامن مع الأقلية المسلمة، ودعت للوقوف دقيقتين حدادًا على أرواح الضحايا بالقرب من مسجد النور (موقع الحادثة). ووجهت حديثًا للجالية المسلمة قائلة: "نيوزيلندا تشاطركم الأحزان، نحن واحد"، وعملت على توظيف اللغة العربية والتراث الإسلامي للتعبير عن تضامنها مع الضحايا وأهاليهم، كاستعانتها بأحد الأحاديث النبوية التي تحض على التراحم والتعاطف بين الناس.
وقامت بارتداء الحجاب لبث الطمأنينة في نفوس الأسر المسلمة التي أضحت تخشى على نفسها من المتطرفين بعد هذا العمل الإرهابي. وتبعتها في ذلك الشرطيات والمذيعات في القنوات الفضائية النيوزيلندية، بل والمواطنات في الشوارع. وحرصت "أرديرن" في خطابها تجاه الضحايا على استخدام لغة المجموع "نحن" لتعزيز وحدة المجتمع وتضامنه. وفيما يتعلق بالإرهابي، دعت الإعلام إلى تجاهله وعدم إبراز اسمه، وتعزيز وجود الضحايا وذكر قصصهم وآثارهم. من جانب آخر، تعهدت الحكومة بتحمل تكاليف المآتم للضحايا بما في ذلك تحمل الأعباء المالية لسفر عائلات الضحايا إلى نيوزيلندا للمشاركة في تأبين ذويهم، أو تحمل تكاليف نقل الجثامين إلى أوطانهم الأصلية في حال رغب أهالي الضحايا في ذلك.
3- تعديل قوانين حيازة الأسلحة: رغم قوة لوبي شركات الأسلحة في نيوزيلندا، إلا أن "أرديرن" أعلنت أنها ستغير قوانين حيازة الأسلحة حرصًا على أمان وسلامة المجتمع. وبالفعل اتخذت قرارات فورية لحظر بيع الأسلحة الهجومية ونصف الآلية ذات الطراز العسكري التي استخدمها الإرهابي في الهجوم على المسجدين. ومن المتوقع أن تظهر قوانين جديدة تُشدد في مسألة الحصول على الأسلحة الفردية.
4- مناهضة اليمين المتطرف: في الوقت الذي تردد فيه الإعلام والساسة في الغرب في توصيف الجريمة، أعلنت "أرديرن" أنه لا مساحة رمادية في هذه الجريمة، ونددت بالأيديولوجيا القومية وخرافات تفوق العنصر الأبيض، ورفضت دون تردد محاولة ربط أحد المشرّعين بمجلس النواب الأسترالي بين هجرة المسلمين والعنف، معتبرة أن محاولة الربط بين الجانبين "عار" و"مخزية". ودعت "أرديرن" إلى إطلاق حملة عالمية لاجتثاث أفكار اليمين المتطرف، ورفضت في الوقت نفسه الحجج التي تزعم نمو العنصرية بسبب تزايد أعداد المهاجرين، ودعت إلى اعتبار العنصرية جريمة عالمية. يُضاف إلى ذلك تأكيدها على إيمان المجتمع النيوزيلندي بالتعدد والتنوع.
تضامن مجتمعي:
أبدى المجتمع النيوزيلندي تضامنًا كبيرًا مع الأقلية المسلمة، وهو ما يتضح في قيام العديد من الأفراد بالتخلي الطوعي عن الأسلحة، وجمع التبرعات لصالح الضحايا وأسرهم، ومقاومة الإسلاموفوبيا بكافة المظاهر، مثل: بث الأذان، واستخدام اللغة العربية، وارتداء الحجاب في وسائل الإعلام والأماكن العامة، وهو ما يمكن إيضاحه بشكل تفصيلي فيما يلي:
1- التنازل عن الأسلحة: رغم عدم إقرار قانون تنظيم حيازة الأسلحة بعد، إلا أن العديد من النيوزيلنديين بادروا بالتخلي الطوعي عن أسلحتهم، وهو ما يعكس بصورةٍ أو بأخرى نسخة مختلفة تمامًا عن الخطابات المعادية للمسلمين والمهاجرين التي انتشرت مؤخرًا في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية. وبرز هذا النمط المتسامح في نيوزيلندا على مستوى المجتمع، والحكومة، وأحزاب المعارضة على حدٍّ سواء.
2- التضامن مع الجالية المسلمة: تنوعت أنماط مقاومة الإسلاموفوبيا التي تبناها النيوزيلنديون للتعبير عن تضامنهم مع ما تعرضت له الأقلية المسلمة بنيوزيلندا. واتخذت هذه المظاهر أشكالًا مختلفة من التضامن لم تكن معهودة في المجتمعات الغربية من قبل، مثل احتشاد الآلاف من النيوزيلنديين حول المساجد وداخلها للتعرف على الثقافة الإسلامية والتضامن مع المسلمين هناك.
وفي السياق ذاته، مثَّل بث الأذان في وسائل الإعلام الرسمية، وطباعة صحيفة The Press النيوزيلندية على صفحتها الأولى كلمة "السلام" باللغة العربية، وتحتها أسماء ضحايا الحادث الإرهابي، محاولة لطمأنة المسلمين بنيوزيلندا، ومظهرًا مبتكرًا من مظاهر تعزيز وجود الضحية. وتواصلت هذه المظاهر بإقدام عددٍ كبير من النساء بالاقتداء برئيسة الوزراء "أرديرن" لارتداء الحجاب في وسائل الإعلام والشوارع.
3- دعم الأحزاب القومية: أكد غالبية الساسة النيوزيلنديين باختلاف توجهاتهم رفضهم للعملية الإرهابية، وقامت أحزاب المعارضة النيوزيلندية بإرسال وفدٍ إلى مدينة كرايست تشيرش لتقديم العزاء لأهالي الضحايا، وإعلان التضامن معهم. في السياق نفسه، تغير مواقف أحزاب المعارضة من مسألة حيازة الأسلحة بعد الحادث؛ إذ عارض "ونستون بيترز"، نائب رئيس الوزراء وزعيم حزب "نيوزيلندا أولًا" القومي الشعبوي، في السابق أي إصلاحات لقوانين السلاح، ولكنه تراجع عن ذلك الموقف بعد جريمة المسجدين قائلًا: "الواقع هو أن عالمنا بعد الساعة الواحدة مساء في يوم 15 مارس قد تغير، ويجب أن تتغير قوانيننا"، مما يعني دعمه لإصلاحات قوانين السلاح التي تبنتها الحكومة النيوزيلندية بزعامة "أرديرن". واعتبر زعيم الحزب الوطني النيوزيلندي أن الهجمات غيَّرت البلاد إلى الأبد، معتذرًا -في الوقت نفسه- عن تأخر السياسيين في إدراك خطورة انتشار الأسلحة.
4- حملات جمع التبرعات: دشَّن النيوزيلنديون العديد من المبادرات لجمع التبرعات لصالح الناجين، وأهالي ضحايا مذبحة كرايست تشيرش. وتُجمَع هذه التبرعات بمبادرة من منظمات نيوزيلندية غير حكومية مثل المجلس النيوزيلندي لدعم الضحايا، ومؤسسة "سبارك" النيوزيلندية التي أكدت وصول حجم التبرعات لديها إلى 10 ملايين دولار أمريكي.
إيقاف دورة التطرف:
أبرزت حادثة كرايست تشيرش النقيض المتسامح لخطاب الكراهية الذي تزامن مع صعود تيارات اليمين المتطرف في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية. ومثَّل تعاطي "أرديرن" مع المذبحة عامل ضغط على الحكومات الغربية المتطرفة. فعلى سبيل المثال، أعادت العملية الإرهابية الضغوط السياسية والشعبية على إدارة "ترامب" فيما يتصل بتعاطي إدارته مع الأقليات، وملف الهجرة. وحمل حادث كرايست تشيرش ضغوطًا أمام إدارة "ترامب" من أجل وضع حدٍّ لانتشار الأسلحة تخوفًا من تكرار حوادث مشابهة هناك، خاصة مع تنامي أنشطة الجماعات المتطرفة.
ويتوقع بعض المحللين أن تشهد أنشطة اليمين المتطرف في أوروبا أفولًا خلال الفترة المقبلة، وذلك بعدما كان من المتوقع أن تشهد نيوزيلندا والمجتمعات الغربية سلسلة كبيرة من حوادث العنف الموجهة ضد المسلمين، بيد أن التعامل الصارم للحكومة النيوزيلندية مع الحادث قد يوقف هذه الحوادث لفترة طويلة، حيث تجاوزت الحكومة المساحات الرمادية، وعززت من ظهور الضحية، وواجهت بحسم خطاب الكراهية الذي يتبناه اليمين المتطرف.
ختامًا، عكس موقف رئيسة وزراء نيوزيلندا إيمانها الحقيقي بمبدأ التعددية داخل المجتمع النيوزيلندي، ورفض التطرف بكافة صوره وأبعاده، ونجحت في تقييد نمو موجة من الكراهية داخل المجتمع النيوزيلندي، وسدَّت الطريق أمام التنظيمات الإرهابية كتنظيم "القاعدة" و"داعش" لاستغلال الحادث وإبراز الجالية المسلمة في نيوزيلندا بمظهر المضطهدين من كافة الأطراف.