أدّت المصالح الفرنسية في الحفاظ على علاقات مستقرة مع الجزائر إلى دفعها إلى التزام الحياد والحذر في المواقف المعلنة تجاه الاحتجاجات الشعبية في الجزائر من خلال التأكيد على الحرص على استقرار الجزائر، وتهدئة الجاليات الجزائرية بفرنسا، ودعم العملية الانتقالية التي أعلنها الرئيس "عبدالعزيز بوتفليقة"، بالتوازي مع الإشادة بسلمية المتظاهرين، بهدف تحييد احتمالات تبني مواقف شعبية معادية لها، وهو ما يرتبط بالحسابات الداخلية المعقّدة التي تواجهها باريس فيما يتعلق بسياستها تجاه الجزائر.
دوافع اهتمام باريس:
يكشف التفاعل الفرنسي الحذر في التعامل مع الاحتجاجات على ترشح الرئيس "عبدالعزيز بوتفليقة" لولاية خامسة عن مدى الأهمية التي تتمتع بها الجزائر في حسابات السياسة الخارجية الفرنسية، حيث جاءت التصريحات الفرنسية الرسمية فيما يخص الوضع في الجزائر مقتضبةً وتحاول عدم إثارة غضب النظام عبر التشديد على احترام سيادة الجزائر، بالإضافة إلى محاولة إرضاء المتظاهرين عبر التعبير عن الإعجاب بسلمية الحراك، ويمكن القول إن الاهتمام الفرنسي بالجزائر يعود إلى عدة أسبابٍ لعل من أهمها:
1- المصالح الاقتصادية: بلغت قيمة الصادرات الفرنسية إلى الجزائر ما يقدر بحوالي 2.3 مليار يورو في الشهور الستة الأولى من عام 2018 وفقًا لما أعلنته الخزانة العامة الفرنسية في نوفمبر 2018، بالإضافة إلى أن فرنسا تستورد حوالي 10٪ من حاجتها من الغاز الطبيعي من الجزائر، كما تشير بعض التقارير إلى وجود ما يقرب من 500 مؤسسة فرنسية في الجزائر، بالإضافة لمصانع شركتي رينو وبيجو.
2- التعاون الأمني: تنتشر القوات الفرنسية التي يُقدر عدد أفرادها بالآلاف في إفريقيا ضمن مهمات أمنية لمواجهة تمدد التنظيمات الإرهابية في صحراء وساحل إفريقيا. وتُعد الجزائر دولةً متاخمةً لمناطق تمركز القوات الفرنسية، وتحتاج فرنسا إلى التعاون الاستخباراتي مع الجزائر لملاحقة هذه التنظيمات، مع الاستعانة بالخبرات الجزائرية في مواجهة الإرهاب. وبالتالي فإن أي عدم استقرارٍ يحدث في الجزائر سوف ينعكس سلبًا على هذا التعاون.
3- أزمة لاجئين محتملة: تبدو احتمالات تدهور الوضع الأمني في الجزائر بدرجة كبيرة مستبعدة في الوقت الحالي، نظرًا لما أظهرته الأطراف الجزائرية من وعي في التعاطي مع هذه المرحلة الحساسة، كتمسك المتظاهرين بسلمية الحراك، واستيعاب الجيش للمتظاهرين، ومحاولات النظام الجزائري التفاوض لإقناع المتظاهرين بتقديم التنازلات؛ إلا أن الساسة الفرنسيين يطرحون تساؤلًا مفاده: هل سيستمر هذا الاستقرار النسبي أم ستتحول الاحتجاجات السلمية إلى صراع عنيف بين عدد من الأطراف؟ وهو ما ستكون له انعكاساته على تزايد أعداد المهاجرين الجزائريين إلى فرنسا، حيث أشارت بعض الصحف الفرنسية إلى التخوف من نشوب أزمة "لجوء واسعة" تُقدر بعدة ملايين في حال تدهور الأوضاع في الجزائر، لا سيما وأن النسبة الأكبر من مواطني الجزائر من الشباب.
4- الجالية الجزائرية: تتفاوت الأرقام في تحديد العدد الإجمالي للجالية الجزائرية في فرنسا. وفي هذا السياق، أشار تقرير صادر عن المعهد الوطني الفرنسي للإحصاء والدراسات الاقتصادية في عام 2018 إلى أن إجمالي المهاجرين في فرنسا يبلغ 6.2 ملايين نسمة، كما تعد الجالية الجزائرية من أكبر الجاليات الأجنبية في فرنسا، ولقد انتشرت تظاهرات الجزائريين في أكبر المدن الفرنسية كباريس ومرسيليا وتولوز معبرةً عن تماثل موقف الجزائريين بفرنسا مع نظرائهم في الجزائر. وتتخوف السلطات الفرنسية من أن يؤدي تدهور الأوضاع في الجزائر إلى انتقال الغضب إلى هذه الجالية الضخمة، ولا سيما مع انتشار العديد من التفسيرات التي تؤكد ميل فرنسا إلى تأييد النظام الحالي.
توجهات الداخل الفرنسي:
سعت فرنسا إلى عدم الظهور كداعم للنظام الجزائري الحالي، وذلك على الرغم من مصلحة فرنسا في الحفاظ على استقرار الجزائر في ظل تعقد عملية إيجاد بديل حالي لـ"بوتفليقة". وفي هذا الإطار، يمكن الإشارة إلى المواقف الفرنسية المتدرجة وفقًا للتالي:
1- حياد حذر: لم تقم فرنسا بالتسرع وإعلان موقفها من التظاهرات على الفور حيث تعلم باريس أن كل تصريح رسمي يصدر من أحد مسئوليها حول هذه الأزمة سينظر إليه النظام والمتظاهرون على أنه محدد لمستقبل الجزائر. وأعقب هذا التريث قيام "ماكرون" بالاتصال بالسفير الفرنسي في الجزائر "كزافييه دريانكور" في 28 فبراير 2019 لكي يطلب منه القدوم إلى فرنسا لمقابلة وزير الخارجية الفرنسي "جان إيف لودريان" لمناقشة تطورات الأوضاع في الجزائر معه.
2- لا تدخل.. لا عدم مبالاة: حدد وزير الخارجية الفرنسي "جان إيف لودريان" في إحدى الجلسات الأسبوعية لتوجيه الأسئلة للحكومة الفرنسية في البرلمان، ثلاث نقاط تحدد الموقف الفرنسي الرسمي من الجزائر، كالتالي: الجزائر دولة ذات سيادة، وبلد صديق، كما أنها دولة محورية في إفريقيا وحوض البحر المتوسط، فيما صرح رئيس الوزراء "إدوار فيليب" لقناة "بي إف إم" الفرنسية، في 6 مارس 2019، بأن موقف فرنسا الرسمي يقوم على "لا تدخل، ولا عدم مبالاة" Ni ingérence, Ni indifference.
3- تأييد عدم الترشح: بعد قيام الرئيس الجزائري بإعلان عدم ترشحه لولاية جديدة، وتأجيل الانتخابات الرئاسية، أشاد الرئيس الفرنسي "ماكرون"، في 12 مارس 2019، من جيبوتي بقرار الرئيس الجزائري "بوتفليقة"، حيث وصفه بأنه "يفتح صفحة جديدة في التاريخ الجزائري"، كما دعا إلى مرحلة انتقالية بمهلة معقولة في الجزائر.
4- مخاوف اليمين الفرنسي: من جانب آخر، جاءت مواقف القوى السياسية الفرنسية الكبرى متفاوتة، حيث صرحت "مارين لوبان" الأمين العام لحزب "التجمع الوطني" الذي ينتمي إلى أقصى اليمين (الجبهة الوطنية سابقًا) بأن على الحكومة الفرنسية التوقف عن منح الجزائريين تأشيرات دخول استباقًا لتدهور الوضع في الجزائر، وللحد من تدفق أفواج المهاجرين. مشيرة في تصريح صحفي في 13 مارس 2019 إلى أنه "ثمة اتفاقات بين الجزائر وفرنسا تتيح دخول الجزائريين بطريقة بالغة السهولة".
فيما حذّر "لوران فوكييه" رئيس حزب الجمهوريين اليميني من خطر وصول الإسلاميين إلى السلطة في الجزائر، وعدم ضرورة الاستهانة بالتهديدات التي يمكن أن تلحق بفرنسا من جراء ذلك، مشيرًا إلى أن "عدم ترشح بوتفليقة كان ضرورة، ولكن حذار من أن يتحول الانتقال الديمقراطي المنتظر في الجزائر إلى انتقال إسلامي يصل عبره أعداء الديمقراطية إلى الحكم في الجزائر، لأن هذا السيناريو سيكون كارثيًّا على فرنسا".
مرحلة "ما بعد بوتفليقة":
تستعد فرنسا للتحضير لمرحلة ما بعد "بوتفليقة" للحفاظ على مصالحها مع الجزائر. وفي هذا الإطار قامت باريس بالتالي:
1- تهدئة الجالية الجزائرية: تسعى فرنسا للتواصل مع كافة الأطراف المؤيدة والمعارضة للنظام للتحضير لمرحلة ما بعد بوتفليقة، كما تحرص باريس على تهدئة الجالية الجزائرية التي أبدى بعض أفرادها استياء من قيام الرئيس "ماكرون" بالإشادة بقرار "بوتفليقة" بعدم الترشح لعهدة رئاسية خامسة، وهو ما ظهر من خلال احتجاجاتهم في العديد من المدن الفرنسية في 17 مارس، وبالتالي قام الإليزيه بتحديد موعد للقاء بين الرئيس "ماكرون" ووفد يمثل الجالية الجزائرية، مع استبعاد اللجوء إلى خيارات مثل التي تطالب بها أحزاب أقصى اليمين كوقف تأشيرات الدخول للجزائريين.
2- التواصل مع النظام: يسعى "ماكرون" للحفاظ على علاقة جيدة مع النظام الحالي بهدف الحفاظ على المصالح الفرنسية الاقتصادية والاستراتيجية في الجزائر، خصوصًا في ظل وجود احتمالات متصاعدة بوجود دور ما للنظام الحالي في المستقبل، لا سيما وأن المقربين من "بوتفليقة" يهدفون إلى تحويل العملية الانتقالية إلى عملية اختيار خليفة له، وليس لتغيير النظام، كما تتخوف باريس من أن يحاولوا تعزيز علاقاتهم مع دول أخرى مثل الصين وروسيا بما يضر المصالح الفرنسية.
3- دعم العملية الانتقالية: تزايدت المطالبات داخل فرنسا بضرورة تحديد جدول زمني لإدارة الفترة الانتقالية، مع تحديد موعد الانتخابات بدقة. ويرى بعض المحللين السياسيين الفرنسيين أن هناك عددًا من الاحتمالات لمرحلة ما بعد "بوتفليقة"، يتمثل أولها في شخصية قادرة على تمثيل الحراك الشعبي، بيد أنه احتمال ضعيف نظرًا للضعف التنظيمي الذي تتميز به هذه الحركات الاحتجاجية، فيما يتمثل الاحتمال الثاني في أن يصل أحد أفراد أحزاب المعارضة إلى السلطة بعد أن يتعهد بتنفيذ مطالب الحراك الشعبي، وهو أيضًا احتمال ضعيف لأنه تم إبعاد معظم الأحزاب المعارضة من قبل المتظاهرين لعدم اقتناعهم بهم، أما الاحتمال الثالث فهو أن تقوم إحدى الشخصيات المقربة من النظام بالانشقاق عليه وتعلن انضمامها للاحتجاجات الشعبية. غير أن معظم المحللين الفرنسيين يُرجّحون أن الأمر سينتهي بالتوافق على شخصية تمثل حلًّا وسطًا للجميع (الجيش، والمتظاهرين، وبقايا نظام بوتفليقة).
4- دعم استقرار الجزائر: تؤكد بعض النخب الفرنسية القريبة من دوائر صنع القرار أن المصلحة الفرنسية تقتضي ضرورة نسج علاقة جديدة مع دول البحر المتوسط قائمة على عدم المشاركة في مخططات زعزعة الاستقرار في هذه الدول تحت أي عذر كان حتى لو كان ذلك لتحقيق مصالح اقتصادية أو استراتيجية مؤقتة. ومن ثمّ يؤكد هؤلاء على ضرورة أن تبنّي موقف يدعم استقرار الجزائر.
ويتخوف البعض في باريس من احتمالية قيام بعض أنصار "بوتفليقة" بتبني العنف لفرض خيار معين، إلا أن الغالبية تستبعد اللجوء إلى هذا السيناريو في ظل افتقارهم لقواعد شعبية مؤيدة لهم، وحرص المتظاهرين على عدم الانجرار إلى أي ممارسات عنيفة.
ختامًا، قامت سياسة فرنسا التقليدية على تعزيز العلاقات مع النظام الجزائري أيًّا كان حفاظًا على مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية هناك، إلا أن الاحتجاجات الأخيرة دفعت باريس إلى تغيير سياساتها لتتبنى حالة من "الترقب الحذر" تجاه ما يجري في الجزائر.