حققت دولة الإمارات العربية المتحدة إنجازاً ديبلوماسياً هاماً باحتوائها للأزمة الحادة التي اندلعت مؤخراً بين الهند وباكستان، فكان لتدخل صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، دوراً محورياً في تجنيب منطقة جنوب آسيا نزاعاً مدمراً بدا وشيكاً ومحَقَّقاً.
الخطوة الإماراتية الموفقة تلت زيارة هامة لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لباكستان، نتج عنها توقيع اتفاقيات اقتصادية بقيمة 20 مليار دولار، تضاف إلى القروض السعودية الإماراتية التي مكنت رئيس الحكومة الجديد عمران خان من التغلب على الأزمة المالية الخطيرة التي واجهته عند وصوله للسلطة في أغسطس الماضي.
ومن الجلي أن المقاربة السعودية الإماراتية لدعم باكستان تندرج في أفق المقتضيات الموضوعية للمصالح الحيوية العربية التي تدفع في اتجاه العلاقة المحورية مع هذه القوة الإسلامية الآسيوية الكبرى، التي هي بؤرة الرهان الاستراتيجي العالمي الكبير المرتكز في الصراع حول التحكم في المجال الأوروآسيوي الذي تشكل باكستان حلقة أساسية من حلقاته. والمعروف أن الدولة الباكستانية التي انفصلت عن الهند عام 1947 ولدت «بطريقة قيصرية»، حسب عبارات المؤرخ الباكستاني البريطاني «طارق علي»، وقد ظل الصراع حادا بين النخب السياسية حول طبيعة الدولة الباكستانية: هل هي الوريث التاريخي للكيان الإسلامي في شبه القارة الهندية، ومن ثم فهويتها الدينية التي تأسست عليها شرعيتها كما هو منطلق «حزب الرابطة الإسلامية الباكستانية» الذي قاد البلاد للاستقلال ولا يزال في نسخه المتجددة يحمل هذا التوجه، أم هي دولة وطنية حديثة متعددة الانتماء القومي والإثني بما يفرض عليها الشكل الفيدرالي الاتحادي والنظام الديمقراطي التعددي، وفق المشروع الذي عبّرت عنه حقبة رئيس الحكومة ذو الفقار علي بوتو مؤسس «حزب الشعب» الذي انقلب عليه الجيش وأعدمه؟
وإذا كان الصراع الإقليمي مع الهند شكّل منذ استقلال باكستان محور منظورها الاستراتيجي للعلاقات الدولية، فإن هذا المنظور تأرجح بين مقاربتين متمايزتين: أداء دور الوكيل الإقليمي للولايات المتحدة الأميركية في جنوب آسيا ووسطها في مواجهة الاتحاد السوفييتي أيام الحرب الباردة وروسيا حالياً، مع ما يترتب على هذا الدور من مكاسب في الصراع مع الهند (الحليف التقليدي لموسكو)، أو توطيد التحالف مع الصين بصفتها الشريك القوي في اللعبة الإقليمية في مواجهة الخصم المشترك (الهند) كما هو أساس التوجه الحالي؟
وإذا كان مشروع التحديث السياسي والتنموي في باكستان قد تعطّل نتيجةً لهيمنة المؤسسة العسكرية المتحالفة مع القوى القبلية والجماعات الدينية على الحكم، فإن انخراط قيادتها العسكرية السياسية في حروب «الجهاد الأفغاني»، بدعم أميركي، قد حملها تدريجياً إلى مستنقع أزمات المنطقة، وقلّص ارتباطها الحيوي بالولايات المتحدة التي زاد انفتاحها على الهند، بما فرض على باكستان توطيد تحالفها الاستراتيجي مع الصين.
ومن هنا ندرك أهمية المكون الباكستاني في طريق الحرير الجديد الذي بلورته الصين في مشروعها للتحكم في مسالك التجارة الدولية، من حيث كون الممر الباكستاني جسراً حيوياً بين الطرق البرية والبحرية في المجال الأوروآسيوي. بيد أن هذا المشروع الذي لا تزال تعوقه عراقيل جغرافية وأمنية عديدة، تراه باكستانُ فرصةً أساسية لتطوير بنيتها التحتية وتحديث منشآتها الاقتصادية، وإن كان يضعها في تناقض قوي مع المحور الهندي الروسي وفي تعارض مع المصالح التركية والإيرانية. وإذا كانت الإدارة الأميركية لا تزال تحتاج لباكستان في حوارها المتواصل مع قيادات «طالبان» البشتونية، إلا أن باكستان نفسها تستشعر خطر قيام دولة بشتونية متشددة على حدودها الشمالية، كما تنظر بعين الارتياب إلى التوافق التركي الإيراني في ملفات المنطقة، وقد تردت علاقاتها مؤخراً بطهران.
ومن هنا أهمية الاحتضان العربي لباكستان من حيث هي القوة الإقليمية الآسيوية الإسلامية الوحيدة التي يمكن الاعتماد عليها في إدارة أزمات المنطقة، بما يعني تشجيع الخط الحداثي المعتدل الذي ينتهجه راهناً رئيس الحكومة عمران خان، والعمل على تأهيل باكستان اقتصادياً لأداء دور الجسر الحيوي مع دول جنوب آسيا، والسعي لاحتواء نزاعها الطويل مع الهند التي تظل شريكاً أساسياً لا غنى عنه لبلدان الخليج ولبقية العالم العربي.
*نقلا عن صحيفة الاتحاد