في الأربعين يجدر بالمرء أن يقف أمام المرآة. لا يمكن التشاطر على استحقاقات العمر، لا من الأفراد ولا من الثورات. حافة الأربعين تعني الابتعاد أكثر عن أيام المراهقة وصخب الشباب. تعطي فرصة لإعادة القراءة والتقويم. تشجع على مغادرة مركب الأوهام، وتساعد على إدخال الأحلام في امتحان الأرقام. إنها فرصة للتصالح مع الوقائع وتخطي زمن الصدام والجدران إلى زمن التعايش والجسور. تصالح مع الحقائق الإقليمية والدولية ومع المواثيق التي تحكم سلوك الدولة الطبيعية.
تحتفل إيران اليوم بالذكرى الأربعين لانتصار الثورة من دون أن تبعث إلى الدول القريبة والبعيدة برسالة تفيد أنها عازمة على استخلاص العبر من استحقاق الأربعين. يمكن القول إن مضمون رسالتها يسير في الاتجاه المعاكس، أي تجديد النفخ في جمر الثورة.
لا يجادل أحد في حق إيران في العيش في ظل أي نظام يختاره شعبها. المشكلة أصلاً ليست مع خيارات إيران داخل خريطتها. المشكلة هي أن إيران تطالب أهل المنطقة والعالم بالتعايش مع هجوم واسع تشنه في المنطقة ويسعى إلى تكريس دورها معبراً إلزامياً في حياة ويوميات مجموعة من الدول. ولا يجادل أحد في حق إيران أن تتمسك بما اعتنقته قبل أربعين عاماً. لكن هل يحق لإيران أن ترج توازنات المنطقة، وتجعل العيش في بعض دولها شبيهاً بالعيش المضطرب على خط الزلازل؟
لنترك الاحتفالات الرسمية جانباً. يتمنى العربي أن يعرف شعور الإيراني في الذكرى الأربعين للثورة، ذلك لأننا محكومون بالعيش معاً في هذا الفخ التاريخي والجغرافي الذي يسمى الشرق الأوسط. وهل يعتقد الإيراني العادي أن خير طريقة للتعايش هي أن يعلن جنرال إيراني أن بلاده صاحبة الكلمة الأولى والأخيرة في أربع عواصم عربية؟ وهل ما تحتاجه إيران فعلياً هو الوجود العسكري والاستخباراتي والآيديولوجي وراء حدودها الدولية؟ وما هي تكلفة النزاعات التي انخرطت فيها إيران؟ وهل تعلمت الدرس من انهيار الاتحاد السوفياتي تحت أعباء تقديم النجاح في الخارج على النجاح في الداخل؟
بماذا يشعر الإيراني العادي إذا وقف مع الثورة أمام المرآة اليوم؟ هل يشعر بالكرامة الوطنية لأن الصواريخ الإيرانية ترابط في أكثر من موقع في الإقليم؟ وهل يشعر بأن شعار «الموت لأميركا» يعفي الحكومة من تقصيرها في مكافحة البطالة والفقر ومن العواقب الموجعة للعقوبات الأميركية الحالية على اقتصاد البلاد؟ هل يعتبر البرنامج النووي وسادة لا بدَّ منها و«بوليصة تأمين» للثورة ونظامها، أم يعتبره حلماً باهظاً ومجازفة أوقعت البلد في عزلة؟
بماذا يشعر اليوم الذين ولدوا بعد الثورة ونسبتهم تصل إلى سبعين في المائة من السكان؟ وهل بينهم من يسأل لماذا يعيش نحو ثلاثين مليون إيراني تحت خط الفقر؟ ولماذا لم تتمكن الثورة بعد أربعة عقود من تحسين حياة الناس وتنفيذ ما وعدتهم به؟ وهل إنتاج أجيال جديدة من الصواريخ أهم من كبح البطالة والاستثمار في التعليم وتأمين الرفاه؟ وهل بينهم من يسأل لماذا كان حجم الاقتصاد الإيراني عشية الثورة ضعف حجم اقتصاد كوريا الجنوبية الذي بات بعد أربعة عقود أكبر بسبع مرات من الاقتصاد الإيراني؟ وهل هناك من يسأل لماذا نجحت الصين في العقود الأربعة نفسها في إخراج سبعمائة مليون مواطن من الفقر، واحتلال موقع الاقتصاد الثاني في العالم، في حين أمضت إيران العقود الأربعة مشتبكة مع دول الإقليم ومثيرة قلق دول قريبة وبعيدة؟
هل يعتقد الإيراني الذي ولد بعد الثورة أن الحضور الإيراني القوي في قرار بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء وإخراج مجموعات من نسيجها الوطني وإلحاقها بقاموس الثورة الإيرانية يحجز لبلاده مقعداً دائماً في زعامة الإقليم، أو يجعل منها الشريك الأكبر لـ«الشيطان الأكبر»؟ وهل تستطيع إيران التمسك إلى الأبد بالقاموس نفسه الذي صاغه الخميني، رغم الزلزال الكبير الذي ضرب عالم المعسكرين الذي ولدت في ظله؟ وهل مصلحة إيران تكمن في اجتذاب عواصم جديدة إلى فلكها أم اللحاق بالثورات العلمية والتكنولوجية التي شهدها العالم بين انتصار الثورة واحتفالها بالذكرى الأربعين للانتصار؟ وهل الإشعاع عن طريق الجيوش الموازية والجوّالة أفضل من الانتماء إلى الثورة الصناعية الرابعة؟ وهل الانشغال بتطوير الصواريخ أهم من الانشغال بدخول عالم الروبوتات والاستثمار والازدهار؟
يمكن كتابة الكثير عن أربعة عقود من عمر الثورة الإيرانية. أسعفتها هدايا لم تكن تتوقعها. أولها الغزو العراقي للكويت الذي جعل الأنظار تتركز على بغداد، لا على طهران. الثانية هجمات 11 سبتمبر (أيلول) التي جعلت أنظار العالم تتركز على ما سمي «التشدد السني»، الذي كان في جزء منه رداً على قيام الثورة الإيرانية بإشعال خط التماس الشيعي - السني. والثالثة قيام الجيش الأميركي بإطاحة نظام صدام حسين الذي كان رغم محاصرته يشكل عائقاً أمام تدفق النفوذ الإيراني في عواصم «الهلال». والرابعة موقف باراك أوباما في سوريا، ونجاح إيران في نشر ميليشياتها هناك. في المقابل تصرفت الثورة بواقعية مفرطة حين تعلق الأمر بسلامتها، وقصة «إيران – كونترا» كانت لافتة. ثم إن إيران قصفت المدن العراقية بصواريخ حصلت عليها من ليبيا، على رغم دور الأخيرة في إخفاء الإمام موسى الصدر.
ماذا لو وقف شاب إيراني ولد بعد الثورة أمام ضريح ماوتسي تونغ في بكين؟ هل يشعر أن الثورة الإيرانية لم تعثر على رجل من قماشة دينغ هسياو بينغ الذي أنقذ النظام من مصير قاتم فيما لو استمر ماو يحكم البلد من ضريحه؟ ألا ينتابه الشعور نفسه لو وقف أمام ضريح لينين في موسكو؟ وهل يطرح على نفسه سؤالاً صعباً، مفاده إلى متى يستمر الخميني في حكم إيران من ضريحه؟ ومتى تعثر الثورة الإيرانية على دينغ ينقذها بدفعها إلى التقاعد تحت عباءة الدولة؟
*نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط