قام الرئيس الفلسطيني محمود عباس بزيارة إلى مصر في الأسبوع الماضي، والتقى ضمن فعاليات الزيارة بعدد من الإعلاميين والكتاب المصريين وأدلى في سياق هذا اللقاء بتصريحات مهمة عن الظروف الراهنة التي تمر بها القضية الفلسطينية، وعلى الرغم من عدم الدقة التي تشوب عادة التقارير الإعلامية عن هذه اللقاءات في غياب صدور بيان رسمي عنها، فإن ثمة قواسم مشتركة فيما نُشر عن اللقاء لفتني منها حديث الرئيس عباس عن اتفاقية أوسلو الذي ألمح فيه إلى إمكان إلغائها، وقد اختلفت الصياغات التي أوردت هذا المعنى في الصحف المصرية التي صدرت يوم الخامس من يناير الجاري فنسبت صحيفة «الأهرام» مثلاً إليه أنه أكد عدم تراجعه عن موقفه حتى ولو أدى الأمر إلى إلغاء اتفاقية أوسلو، ثم استطردت الصحيفة في مكان آخر من تقريرها أنه تحدث عن مراجعة اتفاق باريس المعنى بالأمور الاقتصادية ثم يتم الانتقال بعد ذلك إلى الاتفاقات الأخرى حتى ولو أدى الأمر إلى إلغاء اتفاقية أوسلو، ونسبت صحيفة «الشروق» إليه قوله إنه لا مانع لدى الفلسطينيين من إلغاء اتفاقية أوسلو، وأنه أكد وقف التنسيق الأمني وإلغاء الاتفاق الاقتصادي مع الإسرائيليين إذا أصروا على رفض إعادة الحقوق الفلسطينية، ورغم اختلاف الصياغات من الواضح أن ثمة تلميحاً إلى أن إلغاء اتفاقية أوسلو أصبح إحدى الخطوات المحتملة التي يمكن أن يلجأ إليها الرئيس الفلسطيني في إدارة الأزمة الراهنة التي يمر بها العمل الفلسطيني.
وقد عُقدت اتفاقية أوسلو كما هو معروف في 1993 بعد أن تعثر مسار المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية في مؤتمر مدريد وشارك الفلسطينيون في مسار بديل في أوسلو، وقد أثارت الاتفاقية منذ توقيعها جدلاً واسعاً بين مؤيد ومعارض كان يعكس طبيعتها، فقد حققت دون شك مكسباً تاريخياً للشعب الفلسطيني باعتراف إسرائيل بمنظمة تحريره بعد أن كانت تصفها بالإرهابية، وبأنها تمثل الشعب الفلسطيني بعد أن كانت تنكر وجوده وفقاً لمبدأ شعب بلا أرض أي اليهود لأرض بلا شعب أي فلسطين.
الاتفاقية أسست لمؤسسات السلطة الفلسطينية التي مثلت شكلاً جنينياً لدولة، يمكن أن يتطور، غير أنه من ناحية أخرى لم تعترف إسرائيل بموجب الاتفاقية بالدولة الفلسطينية بينما اعترفت منظمة التحرير بالدولة العبرية، كما أن الاتفاقية لم تضع أي قيود على الاستيطان، ولم تُشِر إلى أي حلول أو مبادئ حلول لقضايا الوضع النهائي بحيث يكون المسار التفاوضي مفتوحاً على كل الاحتمالات التي لا يمكن أن تجافي حقائق القوة في الصراع التي ترجح كفتها بشدة لصالح إسرائيل، وبالتالي كان لكلٍ من أنصار الاتفاقية وخصومها حججهم الوجيهة، غير أن مرور السنين ومماطلة إسرائيل في تنفيذ الاتفاقية بل وتنكر اليمين الإسرائيلي المتشدد الحاكم لها وتغول سياساتها الاستيطانية والقمعية بدأ يُظهِر حدود الاتفاقية أو حتى عقمها، ومن هنا بدأ الحديث يتردد عن التمرد على الاتفاقية بل وإلغائها.
ويعنى ما سبق أن الحديث عن إلغاء الاتفاقية ليس بلا أساس، بل لقد بدأت إثارته منذ مدة من فصائل وقيادات فلسطينية مع تأكد عقم مسار أوسلو، ومع ذلك فمن الواجب التحسب لتبعات هذا القرار وأولها أنه سوف يُوَظف إسرائيلياً بالتأكيد ضد الفلسطينيين في الساحة الدولية، غير أن الأهم من ذلك أن إلغاء الاتفاقية يجب أن يسبقه تحسب واعٍ للبدائل، وبالنظر للظروف الدولية والعربية السائدة فإن حديث البدائل لا يمكن إلا أن يكون فلسطينياً، وذلك بمعنى أن النضال الفلسطيني لا يمكن أن يتقدم خطوة واحدة للأمام دون استعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية تمهيداً لصياغة استراتيجية موحدة للنضال تحدد أهداف النضال الفلسطيني ووسائله على النحو الذي يفضي إلى تصحيح ولو نسبي في الوضع الفلسطيني بما يسمح بالتوصل إلى تسوية الحد الأدنى الذي لا يمكن للفلسطينيين أن يتنازلوا عنه لأن المطروح حالياً وفقاً للتصورات الإسرائيلية والأميركية لا يمكن أن يكون مقبولاً، وإذا كانت الأوضاع الفلسطينية الراهنة تشي باستحالة التوصل في الأمد القريب إلى مصالحة بين أهم فصيلين فلسطينيين، فإن مسؤولية باقي الفصائل والقيادات الفلسطينية تحتم عليها إما أن تضغط عليهما من أجل إعلاء مصلحة الوطن على المصالح الفصائلية الضيقة أو تُبَلور قوة ثالثة تكون أكثر قدرة على توحيد النضال الفلسطيني في سبيل تحقيق أهدافه المشروعة.
*نقلا عن صحيفة الاتحاد