مع حلول الذكرى الأربعين لاندلاع الثورة التي أطاحت بنظام الشاه "محمد رضا بهلوي" في عام 1979، تبدو إيران مقبلة على استحقاقات سياسية في الداخل والخارج لا تبدو هينة. وربما يمكن القول، إن التداعيات التي سوف تفرضها تلك الاستحقاقات سوف يكون لها دور في تحديد الاتجاهات المستقبلية لنظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية، لا سيما في ظل تصاعد حدة الأزمات الداخلية التي يواجهها، واتساع نطاق الخلافات مع القوى الإقليمية المعنية بتحقيق الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، وتراجع الرهان على العوائد التي كان من الممكن أن يُنتجها الاتفاق النووي، خاصة على صعيد تحسين العلاقات مع القوى الدولية، ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية.
ومن دون شك، فإن ما يُكسِبُ الاستحقاقات التي تنتظر إيران في عام 2019 أهميةً خاصةً يتمثل في أن هذا العام سوف يشهد صراعات سياسية داخلية بين القوى والمؤسسات الرئيسية تمهيدًا للانتخابات البرلمانية والرئاسية التي سوف تُجرَى في عامي 2020 و2021، والتي يُتوقع فيها أن يحاول تيار المحافظين الأصوليين السيطرة على مراكز صنع القرار، وإقصاء تيار المعتدلين، خاصة بعد سقوط رهان التيار الأخير على الاتفاق النووي بعد انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية منه في 8 مايو، وإعادة فرض عقوبات أمريكية على مرحلتين في 7 أغسطس و5 نوفمبر 2018.
استحقاقات متعددة:
يمكن تناول أهم الاستحقاقات التي يُتوقع أن تواجه إيران خلال العام الجديد على النحو التالي:
1- احتجاجات داخلية متواصلة: استغلت بعض القوى المجتمعية حلول الذكرى الأولى للاحتجاجات التي شهدتها نحو 190 مدينة إيرانية في ديسمبر 2017، وانطلقت من مدينة مشهد حتى وصلت إلى العاصمة طهران، من أجل الدعوة إلى الاحتشاد من جديد للتنديد بسياسات النظام، وإصراره على المضيّ قدمًا في تنفيذها، وعدم التراجع عنها رغم كل الضغوط الداخلية والخارجية التي تعرّض لها في عام 2018.
وكان لافتًا -في هذا السياق- ظهور ما يسمى بحركة "الأربعاء الأبيض" (چهارشنبه سفيد) في إيران، والتي تتمثل في احتفاء بعض الإيرانيين بالفتاة "ويدا موحد" التي تحدّت السلطات الإيرانية ونزعت الحجاب في شارع الثورة، منددةً بالقيود الشديدة التي تتعرض لها المرأة الإيرانية، على نحو بدا جليًّا في الحملة التي شنّتها بعض القوى على مواقع التواصل الاجتماعي للتضامن مع "ويدا".
وبالطبع، فإن ما يزيد من احتمالات تصاعد حدة الاحتجاجات الداخلية في الفترة القادمة، هو تزايد تأثير العقوبات الأمريكية التي فُرضت على إيران، والتي أدت إلى تراجع الصادرات النفطية الإيرانية إلى أقل من مليون برميل يوميًّا، وأدت إلى انخفاض سعر العملة الوطنية، حيث وصل الدولار في الموازنة الجديدة (يبدأ العام الإيراني الجديد في 21 مارس 2019) التي قدمها الرئيس "حسن روحاني" لمجلس الشورى للتصويت عليها، في 26 ديسمبر 2018، إلى 5700 تومان، رغم أنه يتجاوز ضعف هذا المبلغ في السوق السوداء.
كما أن إيران لا تنتظر الحصول على عوائد كبيرة من الاتفاق النووي، خاصة في ظل تراجع طموحاتها في قدرة الدول الأوروبية على تفعيل الإجراءات المالية التي يمكن من خلالها احتواء تأثير العقوبات الأمريكية، على نحو دفعها إلى إعادة التهديد بالبحث عن خيارات أخرى غير استمرار الالتزام بالاتفاق النووي.
2- تفاقم أزمات القوميات: يبدو أن المشكلات الاجتماعية التي تشهدها مناطق القوميات، سوف تتواصل خلال عام 2019، وربما يتسع نطاقها، خاصة أن الحكومة لم تُقدّم من الإجراءات ما يمكن أن يساعد على احتوائها، وهو ما يزيد من احتمالات اندلاع موجة جديدة من الاضطرابات الأمنية، نتيجة نشوب مواجهات مسلحة بين بعض المجموعات التي تنتمي لتلك القوميات والمؤسستين العسكرية والأمنية في إيران، خاصة في مناطق البلوش والأكراد.
ويتوازى مع ذلك استمرار احتجاجات مناطق الأحواز، نتيجة السياسات التي تتبناها الحكومة، خاصة فيما يتعلق باستنزاف الموارد الطبيعية التي تحظى بها، وعدم الاهتمام برفع مستوى المعيشة وتطوير البنية التحتية فيها، على نحو بدا جليًّا في المظاهرات التي نظّمها عمال مصانع الفولاذ وقصب السكر في الشهور الأخيرة، للمطالبة بالحصول على رواتبهم المتأخرة، وتحسين ظروف معيشتهم.
3- اتساع نطاق الخلافات مع الدول الغربية: تتزايد احتمالات استمرار التوتر والتصعيد بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية في عام 2019، خاصة بعد انتهاء المهلة التي منحتها الأخيرة لثماني دول مستوردة للنفط الإيراني للاستمرار في استيراده حتى مايو من هذا العام، وهو ما سيفرض تداعيات قوية على الصادرات النفطية الإيرانية التي ستحاول الإدارة الأمريكية، في مرحلة لاحقة، إيصالها إلى المستوى صفر رغم العقبات العديدة التي يمكن أن تحول دون حدوث ذلك.
ومع أن إدارة الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" قررت، في 19 ديسمبر 2018، الانسحاب من سوريا، على نحو قوبل بترحيب من جانب إيران؛ فإن ذلك لا ينفي أن واشنطن ما زالت تبدي اهتمامًا بمواجهة نفوذ إيران على الأرض، خاصة في الدول والمناطق التي يمكن أن يهدد هذا النفوذُ مصالحها وأمنها. وبدا ذلك جليًّا في الزيارة التي قام بها الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" للعراق، في 27 ديسمبر 2018، ووجه من خلالها رسائل غير مباشرة إلى إيران، على نحو دفع الأخيرة إلى توجيه انتقادات عنيفة ضد زيارته.
ومن دون شك، فإن ما يزيد من تأثير هذا المتغير هو نجاح بعض القوى الإقليمية في المنطقة في توجيه انتباه المجتمع الدولي إلى ضرورة الاهتمام بالتداعيات السلبية التي تفرضها الأدوار التي تقوم بها إيران على الساحة الإقليمية، وفي مواجهة هذه الأدوار على الأرض، وانعكس هذا التأثير -تحديدًا- في حدوث تغير نسبي في مواقف الدول الأوروبية تجاه إيران. فرغم أن هذه الدول ما زالت مصرّة على الاستمرار في العمل بالاتفاق النووي لاعتبارات خاصة بمصالحها، إلا أنها باتت مدركة أنه لم يعد كافيًا لتحقيق الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، وإقناع إيران بتعديل سلوكها، على نحو دفعها إلى مطالبة إيران بالتوقف عن أنشطتها الاستفزازية، على غرار إجراء تجارب خاصة بالصواريخ الباليستية، والتدخل في الأزمات الإقليمية المختلفة.
وقد زاد من حدة الخلافات بين إيران والدول الأوروبية، توافر دلائل عديدة لدى الأخيرة تؤكد تورط الأولى في عمليات إرهابية استهدفت عناصر المعارضة الإيرانية الموجودة على أراضيها، مثل "منظمة مجاهدي خلق" وبعض المجموعات التي تنتمي للقوميات المختلفة، بشكل يمثّل تهديدًا مباشرًا لأمنها ومصالحها، وهو ما حدث في فرنسا والدنمارك وألبانيا.
وفي ضوء ذلك، ربما يمكن ترجيح أن يشهد عام 2019 تصاعدًا في حدة الأزمات التي سوف تواجهها إيران على الساحتين الداخلية والخارجية، خاصة أن مُحفِّزات هذه الأزمات قائمة وبقوة، بسبب إصرار النظام الإيراني على الإمعان في تنفيذ سياساته التي تسببت في تأجيج الاضطرابات الداخلية، وإفراغ الاتفاق النووي من مضمونه، بشكل يضع هذا الاتفاق أمام اختبارات صعبة في العام الجديد، في ظل عدم توصل إيران والدول الأوروبية إلى توافقات حول الآليات التي يمكن من خلالها مواصلة العمل به، وحرص الولايات المتحدة الأمريكية -في الوقت نفسه- على وضع مزيدٍ من العقبات أمامه، وعدم قدرة الصين وروسيا على ملء الفراغ الناتج، سواء عن الانسحاب الأمريكي أو التردد الأوروبي.