جاء الحراك الشعبي في السودان مفاجئًا للنظام الحاكم والقوى والأحزاب الرئيسية بالسودان، إذ تصاعدت وتيرة الاحتجاجات سريعًا منذ تفجرها في 19 ديسمبر 2018 ، وانتشرت عبر المدن السودانية، مدفوعة برفض قطاعات من الشعب السوداني للسياسات والإجراءات الاقتصادية التي أقرتها الحكومة على مدار الأشهر الثلاثة الماضية، والتي تسببت في تداعيات ضاغطة على الأوضاع المعيشية للمواطنين، وهو ما يزيد من صعوبة التنبؤ بمآلات الاحتجاجات وتأثيراتها على النظام السياسي في السودان.
التطورات الراهنة:
مع انطلاق شرارة الأحداث في مدن عطبرة في شمال البلاد، وبورت سودان في الشرق، والنهود في الغرب، اتسعت رقعة الاحتجاجات لتشمل 14 ولاية سودانية من أصل 18 ولاية، وانضم إليها طلبة الجامعات والمدارس، حيث قام المتظاهرون بإحراق عدد من المراكز الحكومية ومقار حزب المؤتمر الوطني الحاكم في عدد من الولايات والمدن السودانية، ورفعوا شعارات مناهضة للسياسات الاقتصادية للحكومة، وأخرى تنادي بالحرية والسلام والعدالة؛ إلا أن قوات الأمن تعاملت معهم بعنف مما أدى إلى سقوط ثمانية قتلى وفقًا للرواية الرسمية للدولة، في حين قالت المعارضة إن عددهم 22 قتيلًا، إضافة إلى عشرات الجرحى، فيما أشار تقرير لمنظمة العفو الدولية إلى وصول عدد القتلى إلى 37 قتيلًا. وسرعان ما ارتفع سقف المطالب لدى المتظاهرين إلى المطالبة بإسقاط نظام الرئيس "البشير"، وهو ما دفع أجهزة الأمن للتصدي لها وتفريق المتظاهرين واعتقال العشرات منهم.
وتتميز تلك الاحتجاجات بأنها قد بدأت عفوية، ولا صلة لها بالقوى والأحزاب السياسية المعارضة، فقد حركتها بعض الحركات الشبابية، مثل حركة "قرفنا" و"شباب من أجل التغيير" غير المسيّسة، والتي تأسست على إثر السياسات الاقتصادية التي تبنتها الحكومة مؤخرًا، وهو ما دفع الأولى إلى الدعوة للاحتجاج والتظاهر عبر عدد من المواقع الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي.
ومع الزخم الذي اكتسبته المظاهرات في الشارع السوداني، تفاعل معها عدد من الأحزاب والقوى السياسية وبعض المؤسسات النقابية في البلاد، حيث أعلنت لجنة أطباء السودان المركزية (كيان موازٍ غير معترف به) الإضراب دعمًا للاحتجاجات ضد النظام الحاكم. فيما دعا تجمع المهنيين السودانيين كوادره في كافة القطاعات المهنية والعمالية إلى مسيرة لتسليم مذكرة لرئاسة الجمهورية تطالب فيها الرئيس "البشير" بالتنحي الفوري عن السلطة، وتشكيل حكومة انتقالية بمهام محددة، وهو ما دفع تحالفي نداء السودان وقوى الإجماع الوطني اللذين اتفقا على توحيد قوى المعارضة ودعم الاحتجاجات في البلاد عقب المسيرة إلى إصدار بيان مشترك يحث على مواصلة التظاهرات والمد الثوري حتى إسقاط النظام وتسليم السلطة لحكومة انتقالية. تلك الحكومة التي دعا إليها "الصادق المهدي" (زعيم تحالف نداء السودان وحزب الأمة المعارض) عقب عودته إلى الخرطوم من الخارج وسط ترحيب من الحزب الحاكم وشكوك في الشارع السياسي السوداني حول وجود صفقة بين النظام الحاكم و"المهدي" من أجل عقد تسوية سياسية متعلقة بانتخابات 2020، مما أصاب عددًا كبيرًا من مؤيديه بالإحباط، ودفع بعض كوادر الحزب من الشباب إلى إعلان استقالتهم من الحزب، قبل أن يتغير موقفه وينادي بتغيير النظام.
وبرغم غياب دور الأحزاب السياسية في الدعوة لتلك التظاهرات، إلا أن بعضها قد أيّد هذه الاحتجاجات، حيث دعا حزب المؤتمر السوداني إلى خارطة طريق لإخراج البلاد من أزمتها الراهنة من خلال تشكيل حكومة تصريف أعمال بعد ثبات فشل النظام الحاكم في إيجاد حلول ناجعة لأزمات السودان. فيما استقبل مقر الحزب الشيوعي اجتماع تحالفي نداء السودان وقوى الإجماع الوطني من أجل دعم الحراك الشعبي.
كما أعلنت حركة العدل والمساواة في دارفور على لسان زعيمها "جبريل إبراهيم" تأييدها للاحتجاجات الراهنة، واعتبرها ثورة رفض للنظام بدليل الهجوم على مقار حزب المؤتمر الوطني، وليست ثورة جياع تنتهي بانتهاء أزمة الخبز، كما أشار إلى أن الحركات المسلحة لن تتدخل في الاحتجاجات التي تشهدها البلاد تحت ذريعة حماية الثورة. فيما أعلن المراقب العام للإخوان المسلمين في اليوم الثاني من اندلاع الاحتجاجات مساندة الإخوان للحراك الشعبي، وأنها تقف صفًّا واحدًا مع المواطن، بينما شنت القنوات المقربة من الإخوان في بعض البلدان هجومًا على الرئيس "البشير"، مما يمثل انقلابًا من الجماعة على "البشير"، ويمكن إرجاع ذلك إلى تبرؤ "البشير" من الإخوان في أحد لقاءاته التليفزيونية في 2016، فضلًا عن الزيارة الأخيرة للبشير إلى دمشق بما يتعارض مع سياسات ومصالح الجماعة.
دوافع الاحتجاجات:
لعب العامل الاقتصادي دورًا حاسمًا في اندلاع تلك الاحتجاجات، فهو بمثابة حجر الزاوية في تجدد الأزمة التي تشهدها البلاد منذ سنوات، بيد أنه يتشابك مع بعض الدوافع الأخرى التي يمكن توضيحها فيما يلي:
1- تدهور الأوضاع الاقتصادية: حيث أثرت بعض القرارات، مثل ارتفاع أسعار الخبز من 1 إلى 3 جنيهات، فضلًا عن وجود أزمة في الوقود ودقيق الخبز والدواء، وعدم توافر السيولة النقدية؛ على تدهور الأوضاع المعيشية في البلاد، وقد تُرجمت إلى احتجاجات خرج إليها المواطنون. هذا إلى جانب التحديات التي تواجه الاقتصاد السوداني خلال الفترة الأخيرة في ظل عدم توافر النقد الأجنبي، وفشل الحكومة في إيجاد حلول جذرية لتلك التحديات، مما دفع الحكومة إلى الاقتراض وتخفيض قيمة العملة المحلية، مما ترتب عليه ارتفاع نسبة التضخم إلى أكثر من 68% وفقًا لبيانات أصدرها الجهاز المركزي للإحصاء في سبتمبر 2018، وتراجع سعر الجنيه السوداني أمام الدولار الأمريكي (الدولار = 47.5 جنيهًا) حسب السعر الرسمي.
2- التعديلات الدستورية: يُضاف إلى ذلك إعلان "البشير" ترشحه للانتخابات الرئاسية في عام 2020 على الرغم من أن الدستور يمنع ذلك، حيث تحركت مذكرة برلمانية من 33 حزبًا ممثَّلين بـ293 نائبًا بالبرلمان لرئيسه لإجراء تعديل دستوري -وتحديدًا على المادة 57- يسمح بتمديد فترة حكم "البشير" المستمر منذ ما يقرب من 29 عامًا.
3- خلافات النخب: يبدو أن هناك خلافات تدور داخل النظام، لا سيما بين رئيس الوزراء ومدير المخابرات الوطنية، بالرغم من نفي الأول صحة ذلك، حيث أشارت بعض التقارير إلى وجود اختلاف في وجهات النظر بينهما بشأن التعامل مع الأزمة الاقتصادية الراهنة، وهو ما تحول إلى معركة مكتومة. ففي حين يرى "معتز موسى" (رئيس الوزراء) وضع سياسات لإقناع التجار والمواطنين بالتعامل مع البنوك، يفضل "صلاح قوش" (مدير المخابرات الوطنية) التعامل الأمني معهم. كما يمتد الصراع بين القيادات في الحزب الحاكم، فهناك محاولات لإفشال سياسات الحكومة، ومحاولة خلق فجوة بينها وبين المواطنين، كما أن هناك بعض الأطراف التي ترفض التمديد للرئيس "البشير"، وهو ما يمكن أن يدلل عليه بتوجيه قائد قوات الدعم السريع السوداني "محمد حمدان دقلو" اتهامات صريحة لمسئولين بالحكومة بالتسبب في أزمة السيولة التي تضرب البنوك منذ عدة أشهر.
4- ضعف المعارضة: تسود حالة من التشرذم والشقاق في صفوف المعارضة، وضعف البنية التنظيمية لها، بما يجعل قدرتها على تحريك الشارع مثارًا للشك، وهو ما صب في صالح النظام الذي استفاد من هذه الحالة في محاولة احتواء عدد من الأحزاب والحركات المسلحة بالدخول معها في اتفاقات سلام، مما ترتب عليه فقدان ثقة الشارع السوداني في المعارضة، والتشكك في مدى قدرتها على إحداث تغيير حقيقي في البلاد.
موقف النظام السوداني:
اعترف النظام السوداني بأنه على دراية بالأزمة الاقتصادية، وأنه يعكف على معالجتها، مع تفهمه للاحتجاجات في الشارع، وفي هذا الإطار قامت الحكومة باتخاذ عددٍ من الإجراءات التي تمثّلت في:
1- بيانات رسمية: حيث صدر أول بيان للحكومة في اليوم الثالث من اندلاع التظاهرات، وقد أكد البيان على تعامل قوات الأمن مع المتظاهرين بصورة حضارية دون قمعها، وأنهم لن يتهاونوا في حسم أي فوضى. في الوقت الذي أكد فيه وزير الإعلام والاتصالات "بشارة أرو"، أن "البشير" لن يستقيل، وأن الشعب لديه الحرية في اختيار رئيسه خلال الانتخابات المقبلة في عام 2020.
كما تمت الإشارة إلى وجود مندسين يقومون بنشاطات تخريبية لزعزعة الأمن والاستقرار في البلاد على حد زعمهم. واتهم "صلاح قوش" (مدير المخابرات الوطنية) حركةَ تحرير السودان بقيادة "عبدالواحد النور" بإرسال عناصر جَنّدَ بعضها جهاز الموساد الإسرائيلي للقيام بأعمال تخريبية وسط الاحتجاجات، وهو ما نفته الحركة. وفي خطاب له في بلدة ود الحداد بولاية الجزيرة في وسط السودان، سخر "البشير" من مطلقي شائعة القبض عليه ووضعه في السجن، وتوعدهم بالملاحقة، ودعا مواطني الولاية بعدم الالتفات لمن وصفهم بالخونة والعملاء الذين استغلوا الأزمة وسعوا إلى التخريب.
2- إجراءات أمنية: قامت الحكومة بمنع صدور صحيفتي "التيار" و"الجريدة"، كما عطلت مواقع التواصل الاجتماعي، وأعلنت حالة الطوارئ في 5 ولايات، كما فرضت السلطات حظر التجوال في ولايات أخرى. وعلقت بعض الولايات الدراسة بالجامعات والمدارس إلى أجل غير مسمى. فيما اعتقلت قوات الأمن عددًا من قيادات المعارضة وغيرهم من المتظاهرين خلال الاحتجاجات. في الوقت الذي أكدت فيه القوات المسلحة السودانية وجهاز الأمن والمخابرات الوطني التفافها وتأييدها للرئيس "البشير".
3- تعهدات اقتصادية: تعهد الرئيس "البشير" بإجراء إصلاحات اقتصادية توفر حياة كريمة للمواطنين. في الوقت الذي أعلن فيه "صلاح قوش" عدم رفع الدعم عن الدقيق والوقود مستقبلًا، وأن هناك إجراءات سوف تتخذها الحكومة ستؤدي إلى انفراجة بحلول يناير 2019، حيث شرعت الحكومة في طرح عطاءات لاستيراد القمح والدقيق، ووقّعت اتفاقًا مع جنوب السودان للحصول على النفط.
4- تأمين الموقف الخارجي: حيث قامت وزارة الخارجية السودانية بتوضيح حقيقة الوضع الراهن في البلاد للبعثات الدبلوماسية المتواجدة في الخرطوم، وأن الحكومة تتفهم دواعي احتجاج المواطنين نتيجة الأزمة الاقتصادية الراهنة، وأنها تعاملت مع الاحتجاجات السلمية بصورة حضارية، وتصدت للمخربين والمندسين، في خطوة استباقية لقطع الطريق أمام أي تدخل محتمل حال تدهور الأوضاع.
سيناريوهات متوقعة:
على الرغم من قيام بعض المحللين بالإشارة إلى أن الاحتجاجات ستتوقف مع تحسّن الوضع الاقتصادي في السودان، إلا أنه على الرغم من كافة التعهدات الاقتصادية لا تزال هذه الاحتجاجات مستمرة. وفي هذا الإطار، يمكن الإشارة إلى مجموعة من السيناريوهات المتوقعة، والتي تتمثل فيما يلي:
1- احتواء التظاهرات: قد لا تقوم الحكومة بالاستجابة لكافة مطالب المتظاهرين في ظل تصاعدها ومطالبتها بتغيير جذري للنظام، والاكتفاء ببعض القرارات الاقتصادية للتهدئة من حدة الأوضاع، وربما يتم احتواء التظاهرات بآليات مختلفة لإعادة الأمور إلى نصابها مرة أخرى، ويدعم هذا السيناريو ما يراه البعض من تأييد مؤسسات الدولة للبشير، فضلًا عن تحييد الموقف الدولي من هذه التظاهرات.
2- انتخابات 2020: فقد يتراجع "البشير" عن الإجراءات الاقتصادية الأخيرة، نتيجة استمرار الضغط على حكومته، وقد يقوم بإعلان قرارات أخرى تشمل عدم تعديل الدستور، وعدم ترشحه للانتخابات القادمة في 2020.
3- اتفاق داخلي: قد يُحاول بعض أعضاء النظام الحاكم الوصول لاتفاق داخلي يحافظ على النظام، ويجنب البلاد سيناريو مظلمًا، وفي هذه الحالة من المحتمل أن يتضمن الاتفاق تغييرًا لرأس النظام مع بقاء بنيته.
ويبدو أن السيناريو الأول هو الأرجح، خاصة مع تعهد "البشير" بإيجاد حلول للأزمة الراهنة، واعتماده على عامل الوقت وسياسة النفس الطويل مع المتظاهرين، ويدعم ذلك افتقاد حركة الاحتجاجات لقائد يقودها، وضعف المعارضة السياسية وعدم قدرتها على الحشد، وأخيرًا التخوف من سيناريو بديل يئول بالسودان إلى مستقبل مجهول.