أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يصدر العدد الثاني من مجلة "اتجاهات آسيوية"
  • أ. د. نيفين مسعد تكتب: (عام على "طوفان الأقصى".. ما تغيّر وما لم يتغيّر)
  • د. إبراهيم فوزي يكتب: (بين موسكو والغرب: مستقبل جورجيا بعد فوز الحزب الحاكم في الانتخابات البرلمانية)
  • د. أيمن سمير يكتب: (هندسة الرد: عشر رسائل للهجوم الإسرائيلي على إيران)
  • أ. د. حمدي عبدالرحمن يكتب: (من المال إلى القوة الناعمة: الاتجاهات الجديدة للسياسة الصينية تجاه إفريقيا)

مخاطر التراخي:

هل تستطيع الولايات المتحدة الانعزال عن العالم؟

11 ديسمبر، 2018


عرض: محمد محمود السيد - باحث متخصص في الشئون العربية

يُعتبر "أوتو فون بسمارك" أحد أبرع السياسيين في التاريخ الحديث، فهو من استطاع توحيد الولايات الألمانية وتأسيس دولة موحدة أو ما يُسمى "الرايخ الألماني الثاني". وكان "بسمارك" يؤمن بأن الإنسان لا يمكنه التحكم في مجريات الأمور والأحداث، ولكنه فقط يستطيع أن يطفو معها ويقودها.

هذا المبدأ هو جوهر أفكار "روبرت كاجان"، المفكر والسياسي الأمريكي، الذي خدم في وزارة الخارجية أثناء ولاية "رونالد ريجان" في أواسط وأواخر ثمانينيات القرن الماضي، وأحد أبرز المحافظين الجدد في السياسة الخارجية الأمريكية.

يؤمن "كاجان" بأن الهيمنة العسكرية الأمريكية، وليست القوة "الناعمة" أو "الذكية"، هي التي تدعم استمرار النظام العالمي الليبرالي تحت قيادتها. ويدرك أنه لا توجد حلول دائمة لمشاكل السياسة الخارجية، وكذلك لا يمكن تجاهل هذه المشاكل أو محاولة احتوائها، لأن القوة الأمريكية هي وحدها التي حافظت على السلام العالمي، وكبحت جماح قوى الشر.

وفي كتابه الجديد الذي صدر مؤخرًا بعنوان: "الغابة تنمو مُجددًا: أمريكا وعالمنا المهدد بالخطر"، يقدم "كاجان" تحليلًا تاريخيًّا لصيرورة العلاقات الدولية، وصولًا إلى فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وتشكل النظام العالمي الليبرالي الذي رعته الولايات المتحدة. ثم يتحدث عن الاتجاهات الانعزالية في السياسة الخارجية الأمريكية التي تبناها الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب"، ومخاطر هذه السياسة على مستقبل النظام العالمي وأمنه.

نشأة النظام الليبرالي 

من المؤكد أن النظام العالمي الليبرالي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية حاليًّا لم يكن يومًا ظاهرة طبيعية أبدًا، ولم يمثل كذلك ذروة العمليات التطورية عبر آلاف السنين أو تحقيق حتمي للرغبات الإنسانية العالمية.

ببساطة، لم تكن العقود السبعة الماضية العامرة بالتجارة الحرة والاعتداد المتزايد بالحقوق الفردية والتعاون السلمي بين الدول (وهي العناصر الأساسية للنظام الليبرالي)، سوى انحراف تاريخي كبير، لأنه حتى عام 1945 كانت قصة البشرية -التي تعود إلى آلاف السنين- عبارة عن فصول طويلة من الحرب والطغيان والفقر، تخللتها لحظات عابرة من السلام والازدهار، وفترات نادرة جدًّا من الديمقراطية، حتى بدا وكأنها أحداث عرضية في مجتمعاتنا الإنسانية.

يقول "كاجان" إن "عصرنا الخاص" -يقصد النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة- لم يفتقر إلى أهواله من إبادة جماعية واضطهاد وبربرية، ومع ذلك ووفقًا للمعايير التاريخية، يمكن القول إنه كان "الجنة النسبية"، لأنه بين عامي 1500 و1945، لم يكن يمر عام دون أن تكون هناك حرب بين الدول الكبرى في العالم وأوروبا، لكن منذ عام 1945، لم يسجل التاريخ حالة حرب واحدة بين هذه القوى الكبرى.

المواجهة التاريخية الأكبر خلال هذه الفترة كانت هي الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، والتي انتهت بهدوء، في سابقة تاريخية نادرة الحدوث. وفي الوقت نفسه، انخفضت -بشكل كبير- معدلات الوفيات الناجمة عن الحروب الصغرى التي نشبت مؤخرًا.

فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تمتع العالم بفترة ازدهار لا مثيل لها. وعلى الرغم مما أصاب الاقتصاد العالمي خلال الأزمة المالية العالمية منتصف 2008، فإنه على مدار أكثر من سبعة عقود وصل معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي إلى 3,5% تقريبًا في العام الواحد. ومنذ عام 1945، خرج نحو أربعة مليارات شخص حول العالم من دائرة الفقر.

كما نما عدد الحكومات الديمقراطية في العالم من حوالي 12 حكومة عام 1939 إلى أكثر من 100 حكومة في يومنا هذا. وتم كبح جماح قوة الدولة لصالح الفرد في أجزاء كثيرة من العالم، وأصبح هناك احترام واسع النطاق للحقوق الفردية. فضلًا عن تحجيم دوافع الشر لدى البشر بشكل أكثر فاعلية عن ذي قبل. ولكن يظل النظام العالمي الليبرالي هشًّا وغير دائم، مثل حديقة تحاصرها قوى الطبيعة، وتهددها دائمًا أعشاب الغابات الضارة، وفقًا لوصف المؤلف.

كيف غيّرت الولايات المتحدة العالم؟

يشير "كاجان" أن من المفارقة أن أسوأ فظائع التاريخ سُجلت في حياة أجدادنا، فقبل 75 عامًا فقط، كان هتلر يدمر أوروبا، وبسبب "ستالين" كان هناك ملايين يتضورون جوعًا بسبب معسكرات العمل الجماعي القسري، وكان الجنود اليابانيون يغتصبون ويقتلون في الصين، كما تم إعدام الملايين بشكل منهجي في غرف الغاز في أوروبا الشرقية والوسطى، وكانت الولايات المتحدة تستعد لإسقاط قنابل نووية على مدن اليابان.

ولكن بعد عقود قليلة من السلام والازدهار والديمقراطية النسبية، أصبح الكثيرون مقتنعين بأن الجنس البشري قد تغير بشكل أساسي، وأنه بعد آلاف السنين من الحرب والفقر والطغيان والعنصرية والوحشية الفردية والجماعية، بات البشر فجأةً أقل عنفًا وأقل اهتمامًا بالحروب وأكثر انفتاحًا على السلام.

ويزعم مُنظّرو العلاقات الدولية أن الآلية التاريخية التي كان العالم ينتقل بموجبها من نظام سياسي دولي إلى آخر (وهي الحروب بين القوى العظمى) قد اختفت إلى الأبد. ويزعم أساتذة القانون أن "طبيعة الصراع" بين الأمم تغيرت بشكل أساسي. وربما يعتقد عدد قليل من الناس اليوم أن الليبرالية كفكرة قد حققت نصرًا لا رجعة فيه بعد انهيار الشيوعية السوفيتية. وحتى في ظل الصعود الحالي المُطّرِد للسلطوية، ما زالوا يعتقدون أن "ماضينا المُظلم لا يمكن أن يتكرر ثانية"، وفقًا للمؤلف.

ولكن هناك فرضية بديلة (وهي الفرضية التي يتبناها كاجان)، وتقوم على أن العالم قد شهد خلال العقود السبعة الماضية تقدمًا مذهلًا، ليس فقط تقدمًا تكنولوجيًّا ولكن تقدمًا بشريًّا أيضًا. ومع ذلك، لم يكن هذا التقدم تتويجًا لأي شيء، فلم يكن نتاج التطور أو توسع معرفة الإنسان أو التقدم التكنولوجي أو انتشار التجارة أو تغير طبيعة البشر، ولكنه كان نتاج مجموعة فريدة من الظروف خلقتها التحولات التاريخية، ليتشكل نظام عالمي جديد، يقوده لاعب جديد على الساحة الدولية (المقصود هنا الولايات المتحدة الأمريكية)، بجغرافيا فريدة ومفيدة، وعدد كبير من السكان المُنتِجين، وقوة اقتصادية وعسكرية غير مسبوقة، وأيديولوجيا قومية تقوم على المبادئ الليبرالية للتنوير.

لقد فضّل النظام العالمي الحالي -بشكل واضح- قيم الليبرالية والديمقراطية والرأسمالية، ليس فقط لأنهم على حق، فمن المفترض أنهم كانوا على حق في ثلاثينيات القرن العشرين حينما تم إقصاؤهم لصالح الفاشية والنازية، ولكن لأن أقوى دولة في العالم منذ عام 1945 تتبنى هذه القيم. فبعد الحرب العالمية الثانية، وبسبب قوة الولايات المتحدة التي لا تُضاهَى، تمتعت هذه المبادئ التنويرية فجأة بقوة دفع لم تكن تمتلكها من قبل، وهو الأمر الذي ساهم في تقدم البشرية. لذا، يمكن القول إن إنشاء النظام الليبرالي كان بمثابة تحدٍّ ضد التاريخ والطبيعة البشرية.

غابة "السلطوية" تنمو من جديد

يرى "كاجان" أن "هناك علامات في كل مكان حولنا بأن الغابة تنمو من جديد، وأن أعشابها الضارة تزحف نحو بستان الليبرالية الذي رعته الولايات المتحدة على مدار العقود السابقة". فالأنظمة السلطوية لا تتمتع بالحياة فقط، ولكنها تزدهر أيضًا. فهناك ديكتاتور روسي وديكتاتوريون أوروبيون يتباهون بكونهم غير ليبراليين، وهناك زعيم صيني يتصور أن أمته هي نموذج للعالم.

وبينما اعتقد العلماء أن الجغرافيا الاقتصادية قد حلت بشكل واضح محل الجغرافيا السياسية، نرى اليوم أن العالم يعود مُجددًا إلى الجغرافيا السياسية، مثلما حدث في أواخر القرنين التاسع عشر والعشرين. فعادت فكرة "العدوان الإقليمي" إلى أوروبا وآسيا، بعد أن تصور أنه أصبح مفهوم تاريخي. وبالمثل عاد للظهور مرة أخرى مفهوم "الدولة القومية".

وفي الوقت نفسه، فإن هناك أزمة ثقة عميقة وممتدة تضرب العالم الديمقراطي، بما في ذلك مهد الديمقراطية الحديثة. فالمؤسسات الدولية الليبرالية -مثل الاتحاد الأوروبي- التي كانت تُعتبر في الماضي طليعة مستقبل ما بعد الحداثة، تتعرض الآن للهجوم من الخارج والداخل. وفي الولايات المتحدة، عادت القوى العنصرية إلى الظهور من جديد لإعادة تشكيل السياسة والمجتمع. وتمكنت حركة مكافحة التنوير من ضرب موسكو وبودابست وبكين وطهران وأجزاء من أوروبا الغربية، حتى وصلت إلى الأمة التي أنقذت الليبرالية قبل 75 عامًا.

مخاطر سياسة "أمريكا أولًا"

ينتقد "كاجان" بشدة المجتمع والساسة الأمريكيين الذي لا يدركون عمق أزمة النظام الليبرالي، وبالطبع لم يقوموا بالاستجابة المناسبة، بل على العكس ما زال بعضهم يتمسك بالافتراضات القديمة المتفائلة، فما زالوا يعتقدون أن الصين يجب أن تفتح نظامها السياسي في نهاية المطاف (وذلك بغض النظر عن الخطوات الحازمة للبكين في الاتجاه المعاكس)، وأن روسيا لا تستطيع أن تستمر في مسارها السياسي والجيوسياسي الحالي دون أن تنهار اقتصاديًّا (على الرغم من وجود عقدين من الأدلة على عكس ذلك)، وأن القيم الليبرالية في أوروبا مغروسة بعمق بحيث لا يمكن اقتلاعها أبدًا.

ليس هذا فحسب، فهناك من بات يُشكّك بعمق في مدى قوة ورصانة النظام الليبرالي، بل وحتى جدواه. ويُصرّ "الواقعيون" على أن الأمريكيين يجب أن يتعلّموا قبول العالم كما هو، وليس كما يريدون أن يكون. وهم يرون أن سياسات الولايات المتحدة على مدار ربع قرن من الزمان كانت تتسم بالفشل والحماقة، ويشمل ذلك الحروب في العراق وأفغانستان وتدخلات العسكرية الإنسانية في التسعينيات وتوسيع حلف الناتو وجهود دعم الديمقراطية في أماكن مختلفة من العالم.

فهؤلاء الواقعيون يطالبون بسياسة جديدة لـ"ضبط النفس"، لأن السياسات الأمريكية الداعمة لنظام عالمي ليبرالي -من وجهة نظرهم- لم تقم بإرهاق واستنزاف الأمريكيين فحسب، لكنها لم تكن مفيدة لهم أو للآخرين. ففي عام 2011، وخلال إعلان "باراك أوباما" عن تخفيض عدد القوات الأمريكية في أفغانستان، قال إنه "حان الوقت للتركيز على بناء الأمة هنا في الوطن". وبعد خمسة أعوام، ردّد "دونالد ترامب" هذه المشاعر وقال للناخبين إن النظام الليبرالي كان سيئًا وحان الوقت لوضع "أمريكا أولًا". وعلى الرغم من أن اسم "ترامب" نادرًا ما يظهر في كتاب "كاجان"، إلا أن الكتاب بأكمله يحمل انتقادًا لاذعًا لمنهج "ترامب" المدمر للدبلوماسية.

وتُشير استطلاعات الرأي إلى أن الأمريكيين يتفقون في الغالب مع هذه الآراء (الواقعية). ففي عام 2016، اعتقد 57% من الأمريكيين الذين شملهم الاستطلاع أن الولايات المتحدة يجب أن "تلتفت لشأنها الداخلي" وتترك بقية العالم يُدير أزماته بنفسه. وكانت هذه النسبة تقتصر على 30% فقط قبل عقد ونصف. وعندما اختار الأمريكيون "ترامب"، اعتقد 41% أن الولايات المتحدة "تفعل الكثير" في العالم، و27% فقط يعتقدون أنها لا تفعل ما يكفي.

ويرى "كاجان" أن هذا التوجه الانعزالي لم يبدأ مع "ترامب" أو "أوباما"، بل يعود إلى ذلك السباق الرئاسي الذي تنافس خلاله "جورج دبليو بوش" و"آل جور" عام 2000، حينما وعد المرشحون بوضع تعريف أضيق للمصالح الأمريكية وتقليص مشاركاتها في الخارج. وقد نشأ هذا الاتجاه قبل حربي العراق وأفغانستان، واستمر رغم أحداث 11 سبتمبر 2001 وتعاظم التهديد المستمر لـ"الإرهاب الراديكالي"، وكذلك التهديدات الآتية من كوريا الشمالية وإيران والصين وروسيا.

وهنا تظهر مجموعة من الأسئلة التي يلح الأمريكيون في طرحها: لماذا يجب أن تكون دولتهم منخرطة بشكل عميق في بقية العالم؟ ولماذا يتعين عليهم إنفاق الأرواح والأموال في مثل هذه الأماكن التي تبدو ميئوسًا منها؟ ولماذا لا يستطيع الحلفاء الأغنياء مثل ألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية الاهتمام بأنفسهم؟ ولماذا يجب على الولايات المتحدة أن تخاطر بالحروب على أمور تبدو بعيدة عن المصالح الاقتصادية والأمنية المباشرة لها؟

يؤكد "كاجان" أن هذه الأسئلة تمتلك قدرًا من الوجاهة، ولا يمكن أن نصف أصحابها بـ"الانعزاليين"، لأنهم لا يريدون أن تقطع الولايات المتحدة كافة علاقاتها مع العالم الخارجي، ولكنهم يريدونها أن تعمل كدولة "طبيعية".

منذ أكثر من سبعة عقود، لم تتصرف الولايات المتحدة كدولة "طبيعية". فعلى مدار التاريخ لم تكن هناك دولة تتدخل في شئون العالم بهذا القدر مثل الولايات المتحدة. إن الغالبية العظمى من الدول الكبرى لم تكن تشعر بأي مسئولية تجاه العالم، ولم تكن تفكر إلا في "مصالحها الضيقة أولًا". وعلى ذلك يرى "كاجان" أن الأمريكيين غير عاديين في رغبتهم في تحمل أعباء أخلاقية ومادية كبيرة من أجل الحفاظ على هذا النظام الليبرالي غير الطبيعي.

إذن، كيف يمكن الإجابة على العديد من الأمريكيين الذين يُشكّكون في فوائد مثل هذا التدخل العالمي الواسع؟

يقول "كاجان" إن تكاليف ومخاطر عدم الاستمرار في لعب هذا الدور ستكون فادحة، وهو أمر يصعب إثباته قبل أن تأخذ الأحداث مجراها، فمن الصعب التنبؤ بمخاطر التراخي. ولكن يمكننا توقع المستقبل إذا نظرنا إلى ماضي ما قبل الحرب العالمية الثانية. فالولايات المتحدة -من وجهة نظر كاجان- لا تواجه خيارًا بين الخير والشر، بل بين سيئ وأسوأ، أي بين الحفاظ على النظام العالمي الليبرالي مع كل التكاليف المعنوية والمادية المترتبة على ذلك، أو السماح له بالانهيار والاستعداد للكوارث الحتمية المقبلة.

* بيانات الكتاب: 

Robert Kagan, "The Jungle Grows Back: America and Our Imperiled World", New York, Alfred A. Knopf, 2018.