جدد المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي رفضه إجراء مفاوضات مع الولايات المتحدة الأمريكية في المرحلة الحالية، مبررًا ذلك بعدم الثقة في قدرة واشنطن على الالتزام بمقتضيات أى اتفاق يمكن أن تنتهي إليه هذه المفاوضات، لا سيما بعد انسحابها من الاتفاق النووي وفرضها عقوبات جديدة على إيران.
ومع ذلك، فإن هذا الموقف قد لا يستمر على المدى الطويل، خاصة أن خامنئي سبق أن أعلن رفضه التفاوض مع واشنطن في الوقت الذي كانت تجرى فيه مباحثات سرية بين الطرفين، مهدت المجال أمام الوصول للاتفاق النووي الحالي. ويدعم ذلك متغيرات عديدة تدفع طهران بشكل دائم إلى تفضيل التفاوض على غيره من الخيارات المتاحة للتفاعل مع الأطراف الرئيسية المعنية بأزمات المنطقة والمنخرطة فيها وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية.
متغيرات وسيطة:
يشن تيار المحافظين الأصوليين، إلى جانب الحرس الثوري، في الوقت الحالي، حملة قوية ضد القوى التي تدعو إلى التفاوض مع الولايات المتحدة الأمريكية، معتبرًا أن ذلك سيكون تمهيدًا لتقديم تنازلات كبيرة من جانب إيران. وبدأت وسائل الإعلام القريبة من الأصوليين، مثل صحيفة "وطن امروز" (الوطن اليوم)، في الترويج لحملة جديدة تشكك ليس فقط في مصداقية تلك الدعوات ومدى توافقها مع مصالح الدولة وإنما أيضًا في "وطنية" مؤيديها.
وفي هذا السياق، كان لافتًا أن الإعلام الإيراني يلقي الضوء في الوقت الحالي على ما يسميه بـ"الأخطاء التاريخية" في التفاوض مع واشنطن، خاصة في فترة حكومة رئيس الوزراء الأسبق الدكتور محمد مصدق، في بداية الخمسينيات من القرن العشرين، حيث اعتبر أن أحد أهم أسباب فشل حركة مصدق، الذي يحظى بتقدير سياسي واجتماعي بارز في إيران، يكمن في ثقته في تداعيات التفاوض مع واشنطن، وتعويله على الدور الذي كان يمكن أن تقوم به الأخيرة لمساعدته في إنهاء نفوذ بريطانيا على النفط الإيراني.
بل إن بعض الاتجاهات داخل إيران باتت تشير إلى وجود تنسيق بين القوى السياسية الداعية للتفاوض والأطراف الخارجية التي تمارس ضغوطًا على إيران من أجل إجبارها على قبول ذلك في المرحلة الحالية.
ورغم ذلك، لا يمكن استبعاد أن تكون تلك الحملة هى بداية مرحلة جديدة قد يقدم فيها النظام بالفعل على دراسة إمكانية الاستناد إلى هذا الخيار. لكن هذا الاحتمال قد يستغرق وقتًا ليس قليلاً، باعتبار أن ثمة اتجاهات داخل إيران تعول على ما يمكن تسميته بـ"المتغيرات الوسيطة" التي قد تدعم موقف إيران دون أن يكون للأخيرة تدخل فيها.
وتتمثل أبرز تلك المتغيرات التي تراقبها إيران بدقة في انشغال إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في الوقت الحالي بمتابعة قضية التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأخيرة وبعض المشكلات الأخرى، التي دفعت الرئيس، في 24 أغسطس الجاري، إلى التحذير من التداعيات المحتملة لعزله والتي قد تؤدي إلى انهيار الاقتصاد وفقًا له، إلى جانب اقتراب موعد الانتخابات النصفية للكونجرس الأمريكي في نوفمبر المقبل.
وربما تطمح طهران في أن تسفر الانتخابات الرئاسية الأمريكية القادمة التي سوف تجرى في عام 2020، عن وصول رئيس جديد إلى البيت الأبيض، بشكل قد يؤدي، في رؤيتها، إلى حدوث تغيير في السياسة الأمريكية تجاهها، لدرجة أن أحد الاتجاهات داخل إيران كان يدعو الأخيرة والدول الأوروبية إلى اتخاذ الخطوات الكفيلة بمواصلة العمل بالاتفاق النووي إلى حين استشراف هوية الرئيس الأمريكي القادم، والذي قد لا يكون بالضرورة، وفقًا له، هو الرئيس الحالي.
خيار مرجح:
اللافت للانتباه في هذا السياق، أن المواقف التي يتبناها المرشد الأعلى علي خامنئي إزاء القضايا الداخلية والخارجية تشير دائمًا إلى أنه حريص على إجراء تغييرات فيها بما يتوافق، في رؤيته، مع ما تفرضه التطورات التي تشهدها تلك القضايا، لدرجة قد تنتج في بعض الأحيان، حالة من التناقض الواضح، الذي قد يكون متعمدًا من جانبه لتوسيع هامش الخيارات المتاح أمامه للتعامل مع تلك التطورات.
ويمثل التفاوض مع واشنطن نموذجًا على ذلك. إذ كان خامنئي حريصًا دائمًا على الترويج إلى أن هذا التفاوض يمثل، في بعض الظروف، "خطوة حتمية" تفرضها مصالح إيران، وهو ما بدا جليًا في تصريحاته التي أدلى بها في 9 يناير 2014، بالتوازي مع المفاوضات التي أجرتها إيران مع مجموعة "5+1" من أجل الوصول للاتفاق النووي الحالي، والتي قال فيها: "أعلنا سابقًا أننا إذا رأينا مصلحة في قضايا خاصة، نتفاوض مع الشيطان (أمريكا) لدرء شره وتسوية المشكلة".
كذلك، لم يترجم خامنئي تهديداته المتكررة بوقف العمل بالاتفاق النووي في حالة اتخاذ خطوات من شأنها التأثير على العوائد الاقتصادية التي كان تسعى إيران إلى الحصول عليها من خلاله. ففي 15 يونيو 2016، وفي خضم السباق الانتخابي للمرشحين للانتخابات الرئاسية الأمريكية، قال خامنئي أن "إيران سوف تحرق الاتفاق النووي وتجعله في خبر كان إذا لم يلتزم به الأمريكيون". وردًا على تهديدات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بـ"تمزيق الاتفاق"، قال خامنئي، في 19 أكتوبر 2017، أن "إيران ستحول الاتفاق إلى فتات إذا مزقه الطرف الآخر".
لكن هذه التهديدات لم تنفذ بالفعل رغم الإجراءات التي اتخذتها واشنطن، وعلى رأسها الانسحاب من الاتفاق في 8 مايو 2018، وإعادة فرض عقوبات جديدة على إيران بدأت الحزمة الأولى منها في 7 أغسطس الجاري، وستصل إلى ذروتها في 4 نوفمبر القادم، عندما تشمل الصادرات النفطية، التي تسعى واشنطن إلى إيصالها للمستوى صفر.
بل إن خامنئي نفسه وجه تعليمات إلى المسئولين بإجراء مفاوضات مع الدول الأوروبية من أجل التباحث حول آليات تعزيز فرص مواصلة العمل بالاتفاق النووي بعد الفراغ الذي أنتجه الانسحاب الأمريكي وسبل التعامل مع العقوبات الجديدة التي فرضتها واشنطن. ورغم أنه وضع شروطًا عديدة لمواصلة تلك المفاوضات، فإن موافقته تمثل في حد ذاتها مؤشرًا على سعيه إلى تفادي السيناريو الأصعب وهو اتخاذ قرار بالانسحاب أيضًا من الاتفاق والعودة إلى تنشيط البرنامج النووي من جديد.
هنا، يمكن القول إن السياسة المتشددة التي يتبناها خامنئي إزاء الولايات المتحدة الأمريكية موجهة في الأساس إلى الداخل الإيراني. وبمعنى آخر، فإن النظام الإيراني دائمًا ما كان يحاول خلال العقود الأربعة الماضية الترويج للعداء الذي تكنه واشنطن تجاهه من أجل تعزيز قواعده في الداخل وإضعاف مواقف القوى الداعية إلى التفاوض مع الأخيرة أو فتح قنوات تواصل يمكن من خلالها الوصول إلى تفاهمات حول العديد من القضايا التى تحظى باهتمام مشترك، على غرار ما حدث خلال مرحلة الحرب الأمريكية على الإرهاب التي انتهت بإسقاط أكبر خصمين إقليميين لإيران وهما نظام "طالبان" في أفغانستان ونظام صدام حسين في العراق عامى 2001 و2003.
وانطلاقًا من ذلك، لا يمكن استبعاد أن يقدم المرشد على تغيير توجهاته الحالية إزاء واشنطن في حالة ما إذا رأى أن الضرورة تحتم الانخراط في مفاوضات جديدة. ومع أنه قال أن إيران لن تتفاوض مع الإدارة الحالية، في إشارة إلى أن التفاوض في حد ذاته قد يكون مسموحًا به في حالة وجود أى إدارة أخرى، بما يعني أن المشكلة بالنسبة لإيران لا تكمن في التفاوض في حد ذاته وإنما في هوية وتوجهات المفاوض الأمريكي الحالي، فإن هذا الخط الأحمر الذي حدده المرشد تم تجاوزه وباعتراف رئيس الجمهورية حسن روحاني، الذي كشف، في 6 أغسطس 2018، عن إجراء مفاوضات مباشرة بين وزير الخارجية محمد جواد ظريف ونظيره الأمريكي السابق ريكس تيلرسون على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2017، بما يعني في النهاية أن تهديدات خامنئي لا تتحول بالضرورة إلى خطوات إجرائية على الأرض.