تخطت احتياطيات الصين من النقد الأجنبي مستوى الثلاث تريليونات دولار في عام 2011. وتعتبر الصين الآن هي أكبر دولة مالكة لاحتياطيات النقد الأجنبي في العالم، بحجم احتياطيات تبلغ 3.18 تريليون دولار، متغلبة بذلك على جميع دول العالم من دون استثناء، ويُعد الارتفاع المستمر في حجم الاحتياطيات النقدية الصينية، سواءً من حيث القيمة المطلقة أو من حيث نسبتها إلى الاحتياطيات النقدية العالمية، موضعًا للتساؤل، ولا سيما حول أسباب هذا الارتفاع مقارنة بمعدلات ارتفاع احتياطيات الدول الأخرى، بل وتحول الارتفاع في الاحتياطيات النقدية الصينية إلى ظاهرة استثنائية ليس لها مثيل في العالم. كما تُعتبر الاحتياطيات النقدية الوفيرة الآن هي وسيلة تستخدمها الحكومة الصينية في تمويل توسعها الاستثماري حول العالم، وتطبيق خططها المتعلقة بمبادرة "الحزام والطريق"، وهو ما يجعل تلك الاحتياطيات بمثابة الآلية الفعالة في يد الصين لترسيخ نموذجها الجديد من العولمة الذي تُطلق عليه اسم "العولمة الصينية".
تطور الاحتياطيات النقدية:
شهدت الاحتياطيات النقدية الصينية تطورات كبيرة خلال الاثني عشر عامًا الماضية، وبالتحديد منذ عام 2006 حتى عام 2018، فكما هو مبين في الشكل رقم (1) تخطت تلك الاحتياطيات مستوى التريليون دولار لأول مرة في عام 2006، مسجلة 1.07 تريليون دولار، وهو ما مثّل في حينه نحو 20% من الاحتياطيات النقدية العالمية التي بلغت 5.25 تريليونات دولار. وكانت هذه أيضًا هي المرة الأولى التي تتعدى فيها نسبة الاحتياطيات النقدية الصينية مستوى 20% فما فوق من إجمالي الاحتياطيات النقدية العالمية. ومن ثم استمرت الاحتياطيات الصينية في الارتفاع في السنوات التالية، إلى أن بلغت 3.84 تريليونات دولار في عام 2014، وهو أعلى مستوى لها على الإطلاق، متجاوزة بذلك ما نسبته 33% من إجمالي الاحتياطيات النقدية العالمية، البالغة 11.59 تريليون دولار آنذاك.
وبرغم تراجعها بشكل نسبي خلال السنوات التالية، فإن الاحتياطيات النقدية الصينية لم تنخفض عن مستوى 3 تريليونات دولار إلا في عام واحد هو عام 2017، حيث بلغت 2.99 تريليون دولار، بما ناهز ما نسبته 26% من إجمالي الاحتياطيات النقدية العالمية التي بلغت 11.43 تريليون دولار في حينه. ومن ثم سجلت الاحتياطيات الصينية ما يقدر بنحو 3.18 تريليونات دولار في عام 2018، بنسبة 27% من الاحتياطيات العالمية البالغة 11.59 تريليون دولار، وهو نفس مستوى الاحتياطيات العالمية لعام 2014.
ومن خلال التطورات التي طرأت على الاحتياطيات النقدية الصينية خلال العقد الأخير، يمكن رصد ملاحظتين هامتين، أولاهما أن هذه الاحتياطيات تبنت نفس الاتجاه العام للتغيرات التي طرأت على الاحتياطيات النقدية العالمية ككل خلال نفس الفترة. وإذا كان ذلك يعني أن الاحتياطيات الصينية تعرضت للتراجع كأحد الخسائر التي تعرض لها الاقتصاد الصيني خلال مراحل الركود المالي العالمي، فإن ارتفاع الاحتياطيات الصينية في وقت ارتفاع الاحتياطيات العالمية مثل مكسباً مهماً للاقتصاد الصيني، إذ أنه يدل على أن هذا الاقتصاد حصل على نصيبه من التدفقات النقدية عبر الحدود الدولية.
أما ثاني الملاحظات، فتتعلق بوتيرة الارتفاعات التي طرأت على الاحتياطيات الصينية خلال الفترة 2000-2014، والتي كانت أعلى منها بالنسبة للاحتياطيات العالمية؛ فبينما بلغ متوسط معدل النمو السنوي للاحتياطيات الصينية نحو 26% خلال تلك الفترة، فإن هذا المعدل لم يتجاوز 14% بالنسبة للاحتياطيات العالمية في الفترة ذاتها. ولذلك فقد كان نحو 38% من حجم الزيادة التي طرأت على الاحتياطيات العالمية خلال الفترة المذكورة هو من نصيب الصين بمفردها.
مصادر الفوائض المالية:
كان العامل الأكثر أهمية الذي ساعد الصين على تكوين احتياطياتها النقدية الضخمة عبر السنوات، هو أنها تحقق وبشكل شبه دائم فائضاً في الموارد المحلية (الادخار القومي الإجمالي مطروحًا منه الاستثمار القومي الإجمالي)، حيث أن "الادخار القومي الإجمالي" في الصين ظل أعلى من "الاستثمار القومي الإجمالي" بها في أغلب السنوات منذ عام 1980 حتى الآن. بل إنه ظل أعلى منه وبشكل دائم بها بداية من عام 1994 حتى الآن. ولذلك فقد حققت الصين فائضًا في "الموارد المحلية"، بلغ متوسطه نحو 3.4% سنويًّا من الناتج المحلي الإجمالي خلال الفترة 1994-2018، انظر الشكل رقم (2).
وبشكل مبسط، فإن حجم الأموال المدخرة على المستوى الكلي في الصين كان أعلى من حجم الأموال اللازمة لتمويل الاستثمار به على مدار العقود الثلاثة الماضية تقريبًا؛ وقد أدى ذلك إلى تراكم المدخرات في الاقتصاد، ومن ثم تكوين الفوائض المالية المشار إليها. وقد بلغت قيمة المدخرات المتراكمة في الصين حتى نهاية عام 2017 نحو 3.3 تريليونات دولار، وهي القيمة القريبة جدًّا من قيمة الاحتياطيات النقدية للصين الآن، والسابق الإشارة إليها.
وإذا كان فائض الموارد المحلية هو المصدر الأساسي الذي تمتلكه الصين لتكوين فوائضها المالية، فإن هناك عوامل مساعدة لها على ذلك، ويأتي فائضها في الحساب الجاري على رأس هذه العوامل، وكذلك إيراداتها المتزايدة من القطاع السياحي، وتدفقات الاستثمار الأجنبي المباشرة الوفيرة المتجهة إليها، إلى غير ذلك من المصادر، وبخاصة مصادر التمويل الآتية من الخارج، في ظل توجه الاقتصاد الصيني إلى المزيد من الانفتاح على العالم الخارجي، مدفوعاً بفائض الإنتاج المحلي الكبير الذي لا يستطيع توفير طلبٍ محليٍّ كافٍ لاستيعابه، هذا بجانب قيام الصين بتيسير قواعد الاستثمار الأجنبي، ومن ثم اجتذاب المزيد من التدفقات الاستثمارية من الخارج.
وقد تمتع الاقتصاد الصيني بقدرات تصديرية استثنائية خلال العقد الماضي، فأصبح أكبر اقتصاد مُصدّر في العالم بداية من عام 2009، متفوقًا على الاقتصاد الألماني، وساعده ذلك على تحقيق فوائض تجارية كبيرة على مدار العقد. وتُظهر بيانات "مكتب الإحصاء الوطني" الصيني أن فائض الميزان التجاري للصين (الخاص بتجارة السلع) بلغ 430.8 مليار دولار في عام 2017، بعد أن سجل مستوى قياسيًّا في عام 2015، بلغ 593.9 مليار دولار. وبرغم انخفاضه في بعض السنوات، إلا أنه حافظ على مستوى لا يقل عن 155 مليار دولار على مدار العقد. وبالتأكيد ساعد الفائض التجاري في تأمين الكثير من احتياجات الاقتصاد الصيني من الإيرادات المالية عمومًا، ومن العملات الأجنبية خصوصًا.
ومع ملاحظة أن الصين لا تُعد مصدرًا كبيرًا للخدمات، فإن ميزان الخدمات الخاص بها يحقق عجزًا متواصلًا، الأمر الذي يمتص جزءًا من فائضها المتحقق في ميزان السلع، الأمر الذي يقلص فائض الحساب الجاري لديها (الذي يشمل ميزان السلع وميزان الخدمات). وقد بلغ فائض الحساب الجاري للصين 265.9 مليار دولار عام 2017. وبرغم انخفاضه في بعض السنوات خلال العقد الماضي (2007-2017)، إلا أنه بقي أعلى من 136 مليار دولار سنوياً. وهو ما مكن الصين من تحقيق فوائض مالية تراكمية بمقدار 695.9 مليار دولار خلال العقد، وذلك من بند التجارة الخارجية للسلع والخدمات فقط.
وبجانب التصدير، فإن الصين شهدت تطورًا كبيرًا على صعيد الإيرادات السياحية خلال السنوات الماضية، حيث تضاعفت إيراداتها السياحية ثلاث مرات خلال الفترة من 2007-2016، فارتفعت من نحو 41 مليار دولار سنويًّا، إلى ما يزيد عن 120 مليار دولار سنويًّا بنهاية الفترة، ما ساعد في دعم الإيرادات العامة للدولة عمومًا، ومتحصلاتها من النقد الأجنبي خصوصًا.
اتجاهات استثمار الفوائض:
تأخذ الفوائض المالية الصينية العديد من الصور، ويتركز الجزء الأكبر منها في صورة أصول مملوكة لصناديق الثروة السيادية الصينية، حيث تمتلك الصين أربعة صناديق سيادية تبلغ القيمة الإجمالية لأصولها نحو 1.68 تريليون دولار، بما يساوي نحو 21.1% من إجمالي أصول صناديق الثروة السيادية حول العالم، وفق بيانات معهد صناديق الثروة السيادية لشهر يونيو 2018. أما عن الجزء المتبقي فهو يأخذ أحد شكلين، فهو إما أنه استثمارات وأصول مملوكة لشركات صينية أخرى، حكومية أو شبه حكومية أو خاصة، أو أنه أصول سائلة لدى البنك المركزي الصيني، سواءً كانت مدَّخرة لديه بشكل مباشر أو كاحتياطيات في القطاع المصرفي الصيني بشكل عام.
هذا بالنسبة إلى الملكية، أما عن قنوات إنفاق الفوائض المالية التي تمتلكها الصين، فإن أغلبها يأخذ صورة استثمارات موزعة على 111 دولة، ما قد يجعلها الاستثمارات الدولية الأكثر انتشارًا حول العالم. وتأتي الولايات المتحدة في مقدمة الدول المستقبلة للاستثمارات الصينية، إذ إنها تحتضن ما يناهز 1.36 تريليون دولار منها، بما يمثل 42.7% من إجمالي الاستثمارات الصينية في الخارج. ويذهب نحو 177.2 مليار دولار، بما يساوي 13% من استثمارات الصين في الولايات المتحدة إلى مجالات الاستثمار المباشرة، فيما تبلغ قيمة استثماراتها غير المباشرة هناك نحو 1.18 تريليون دولار، أو ما يساوي نحو 87% من الإجمالي. وتجدر الإشارة إلى أن الصين تعد أكبر مالك للسندات الحكومية الأمريكية، إذ إنها تمتلك نحو 29.6% من إجمالي قيمة تلك السندات.
وتعتبر أستراليا ثاني دولة مستقبلة للاستثمارات الصينية، لاسيما الاستثمارات المباشرة منها، فهي تستحوذ على 8.6% من الاستثمارات الصينية حول العالم، بقيمة تبلغ 94.3 مليار دولار. فيما تأتي بريطانيا في المرتبة الثالثة، بقيمة 72.9 مليار دولار، وبنسبة 6.7% من الاستثمارات الصينية المباشرة حول العالم. فيما تحتل سويسرا المرتبة الرابعة، باستثمارات تبلغ 60.9 مليار دولار، وبنسبة 5.6% من الاستثمارات الصينية الخارجية، ثم تأتي البرازيل في المرتبة الخامسة بإجمالي 56.6 مليار دولار، وبنسبة 5.2% من استثمارات الصين المباشرة حول العالم.
ختامًا، فإن الفوائض المالية الصينية تُعد أحد المتغيرات الاقتصادية ذات الأهمية الخاصة، سواءً بالنسبة للصين ذاتها أو بالنسبة للاقتصاد العالمي ككل، فهي من زاوية تعد مؤشرًا على قدرة الصين على تحقيق مكاسب مالية على حساب كافة الشركاء التجاريين والاستثماريين حول العالم. ومن زاوية أخرى فهي تعد دليلًا على القدرات التمويلية التي يمتلكها الاقتصاد الصيني، ومؤشر على تفوقه الواضح في ضخ الاستثمارات والاستفادة من الفرص الاستثمارية المتوافرة حول العالم، بما لا ينافسه فيه أي اقتصاد آخر. ومن زاوية ثالثة، فتعد الاستثمارات الصينية أحد مصادر التمويل التي يُعوَل عليها لتنفيذ المشروعات الكبرى في العديد من الدول والمناطق. ويمكن هنا القول أن الفوائض المالية الصينية تعد هي المصدر الرئيسي لتمويل إطلاق مبادرة "الحزام والطريق" التي أطلقتها وشرعت في تنفيذها الصين خلال السنوات الخمس الماضية، وهي مبادرة ذات طابع عالمي شامل، يشترك فيها 75 دولة حتى الآن. ومع كل ذلك يستوجب التأكيد على أن الصين مطالبة دائماً بإيجاد آليات كفؤة لاستغلال فوائضها المالية وتوظيفها بشكل فعال، من أجل تجنب حدوث أزمات مالية باقتصادها، كالتضخم والفقاعات العقارية والاضطرابات المالية، والتي قد لا تقتصر أبعادها السلبية على المستوى المحلي بها، لكن قد تشمل الاقتصاد العالمي كله.