حضرتُ في المملكة المغربية ندوتين حول مكافحة التطرف وتجديد الخطاب الديني، أولاهما بالرباط وقد أُقيمت بالاشتراك بين رابطة العالم الإسلامي (بمكة المكرمة)، والرابطة المحمدية للعلماء بالمملكة المغربية. والثانية في منتدى أصيلة، في موسمه الأربعين. وكانت للمناسبتين ميزة الإفادة من تجارب التصدي والإصلاح خلال العقد الماضي. وتميزت مقاربة منتدى أصيلة بأنّ معظم المشاركين كانوا من الأساتذة والمثقفين والجمعيات المدنية. بينما كان معظم المشاركين في مؤتمر رابطة العلماء المغاربة من علماء الدين.
لقد ركز علماء الرابطة على عمليات تحريف المفاهيم التي قام بها الإحيائيون والجهاديون في مسائل مثل الدين والشريعة والجهاد والولاء والبراء وعلائق الدين بالدولة. ودعوا المؤسسات الدينية وعلماءها لمكافحة هذه الظاهرة المفزعة باستعادة المفاهيم الصحيحة، وبنشر حقائق التأويل من على المنابر وبين الشباب، وإنشاء المعاهد لتدريب الأئمة والمدرّسين على الحوار، وانتهاج أساليب القوة الناعمة لاستعادة السكينة في الدين.
أما مثقفو المنتدى ومدنيوه، فتصدوا في مداخلاتهم للإسلام السياسي وشروره، وتأثيراته السلبية على الدولة، وعلى فهم الدين ووظائفه، لكنهم أسرفوا في التصدي للمسائل ذات البُعد الثقافي، كما اعتبر كثيرٌ منهم أن «العقلية الدينية» كانت بين أسباب التخلف في قطاعات التعليم والصحة والبيئة وإدارة الدولة وطرائق استعمال الدين في الأوساط الشعبية وتفاقُم الخرافة.. ورأى بعضهم أنّ الخرافيات صارت جزءاً من الأصوليات المسبِّبة للتخلف، والحائلة دون التقدم.
وإذا كان الإسلام السياسي ظاهرةً سلبيةً لاعتباره أن الدين يملك حلاً سياسياً للمشكلات، عنوانه: «الإسلام هو الحل»(!)، فإنّ الخرافة والإسلام الشعبي والصوفي لا شأن لهما بالإسلام السياسي. كما أنّ الموروث الثقافي والديني لا علاقة له بالتعصب أو بالجهاديات. فقد انزعج أحد الباحثين من دعاء السفر بالطائرة. كما انزعجت إحداهن من الإسراع في دفن الميت، لانّ «إكرام الميت دفنه»، ورأت في ذلك انسداداً عقلياً وإنسانياً، ولستُ أدري لذلك سبباً. وقد حمّل نصف المشاركين «العقلية الدينية» مسؤوليات تخلف التعليم الديني وغير الديني، وذهب أحد المتحدثين إلى أنّ المسلمين لم يفكروا في التربية منذ أيام ابن خلدون!
وبالطبع، فإنّ يومي منتدى أصيلة عن «الفكر الديني الحاضن للإرهاب»، شهدا أوراقاً ومداخلاتٍ جدية، لكنّ كلام بعض الهواة والناشطين ذكّرني بمقاربات المثقفين العرب في السبعينيات والثمانينيات عن الموروث الثقافي والديني، وطرائق الخلاص منه!
ولا شكّ أننا عانينا ونُعاني من انشقاقاتٍ في الدين، مارست تطرفاً وعنفاً في أوساطنا وفي العالم. لكنّ المشكلات في التربية والتعليم والصحة والبيئة والتنمية والانتظام السياسي والإداري.. كل ذلك لا علاقة له بالتطرف ولا بالعقلية الدينية. فالدول الوطنية هي التي تتولى إدارة هذه الشؤون جميعاً ولا تتحكم فيها الأصوليات ولا العقلية الدينية. والفشل في المعالجة والنهوض والتقدم لا يقع على عاتق الدين أو الموروث، بدليل أننا نرى مجتمعاتٍ ودولاً عربية يشيع فيها التدين العميق، وهي تحقق قفزاتٍ في التنمية والتقدم مثل الإمارات العربية. وها هي دولة مسلمة متقدمة مثل ماليزيا صارت بين النمور في شرق آسيا. بينما تفشل عشرات الدول العربية والإسلامية، في ملفات التنمية والنهوض والتقدم، ولا علاقة للتفكير ولا الإدارة فيها بالدين!
إنّ علينا الاستمرار في مكافحة التطرف الديني ومظاهره. لكن مشكلتنا الرئيسية تظل في العمل دون كلل على تجديد تجربة الدولة الوطنية، فهي تجربةٌ فشلت إلى حدٍ بعيدٍ في أنحاء كثيرة. وبالطبع فإنّ عمليات صنع التقدم بواسطة الدول والمجتمعات ونُخَبها، تتطلب نهوضاً وتنميةً في القطاعات المذكورة، والتي لن تحول دونها العقلية الدينية ولا الخرافات. وإذا ثبت أنّ العودة إلى الطريق السوي صعبة، مثل العودة بلبنان الذي يستعصي وضعه على الدين والعلمانيات معاً، فلا ينبغي أن ننسب ذلك إلى الدين، وقوعاً في الوهم وتهرباً من المسؤولية!
*نقلا عن صحيفة الاتحاد