اقترب النظام السوري من استعادة السيطرة الكاملة على كافة مواقع المعارضة في الجنوب، لا سيما في درعا والقنيطرة، بدعم عسكرى ولوجيستي روسي توازى معه دعم دبلوماسي لفريق "المصالحة" من مركز حميميم العسكري للتوصل إلى اتفاقيات مع المعارضة بهدف تسليم أسلحتها ومواقعها، في إطار تكتيكي لتصفية معاقلها بشكل نهائي بعد تعثرها في اختبار درعا، وهو ما سوف تكون له انعكاسات على خياراتها المستقبلية التى باتت محدودة بدرجة كبيرة.
وتفرض عملية استعادة النظام لدرعا مكاسب استراتيجية عديدة له. فبالإضافة إلى القضاء على المعارضة المسلحة، وبالتبعية إضعاف المعارضة السياسية، فإنه يبدأ وللمرة الأولى منذ اندلاع الأزمة السورية في مارس 2011، في السيطرة على رافد استراتيجي واقتصادي وجيوسياسي يتمثل في معبر نصيب الحدودي مع الأردن باتجاه استعادة مسار علاقاته التقليدية مع محيطه الخارجي، إلى جانب ما يشكله ذلك على مستوى العائد الرمزي الخاص برصيد إضافى لموقعه التفاوضي والسياسي.
لكن فى المقابل، لن تساهم هذه المكاسب بالضروة في استعادة النظام سيطرته على كامل أنحاء البلاد، أو إنهاء المعارك في مواجهة خصومه. ففي مرحلة ما بعد درعا، لا تزال هناك معركة صعبة في إدلب، التي تشكل "خزانًا" لمعارضة من نوع آخر، بالإضافة إلى بعض الجيوب في المناطق الشمالية إلى جانب مناطق غرب الفرات التى تخضع في معظمها لميليشيا "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد).
تصفية تدريجية:
من خلال آلية التمزيق والتشتيت والاستهداف، قسمت روسيا القطاعات الجنوبية التي سيتم التفاوض عليها بعد أسبوعين من التصعيد العسكري غير المسبوق، إلى 6 قطاعات بحسب بيانات رسمية صادرة عن مركز حميميم، يتم التعامل مع كل منها على حدة، بما يعني مبدئيًا أن موسكو تعاملت مع مناطق وفصائل معارضة متباينة وغير موحدة، وهو مؤشر واقعي في ضوء رد فعل المعارضة التى لم تستشرف عملية التصعيد أو كانت لديها تقديرات خاطئة، حيث تأخرت في التعامل مع التحرك العسكري، بعد أن شكلت غرفة عمليات مركزية وغرف فرعية عقب بدء العمليات العسكرية وتمكن قوات النظام من حصارها بشكل تكتيكي، على نحو فرض عليها مسارات انتشار في مناطق جرى عزلها وقطع وصول الإمدادات العسكرية إليها، وأحكم النظام السيطرة النارية عليها، بالتوازي مع استثمار ورقة ضغط حاضنتها الشعبية من خلال حركة النزوح الكبيرة التي قدرتها الأمم المتحدة بأكثر من 300 ألف نسمة باتجاه الجنوب.
شروط استسلام:
تُجرِّد الشروط التي تم تسريبها وفقًا لمصادر محلية والمرصد السورى لحقوق الإنسان، المعارضة المسلحة من قدراتها بالكامل، حيث سيتعين عليها بالتدريج تسليم أسلحتها الثقيلة والمتوسطة، في حين تشير بعض التقارير إلى تسليم الأسلحة الخفيفة أيضًا بالكامل للشرطة العسكرية الروسية، وبالتالى تفقد المعارضة أسلحتها وتتحول طواعية إلى قوات تنسيق لإدارة المناطق بالتعاون مع الشرطة العسكرية الروسية وقوات النظام على الجانب الآخر، بشكل قد يمهد إلى استيعاب بعض عناصرها، تدريجيًا، في صفوف قوات النظام خلال 6 أشهر تتم فيها تسوية أوضاعهم الخاصة بموقفهم التجنيدي، أو فرض الخيار الصعب على الآخرين بالمغادرة إلى الشمال حيث محافظة إدلب التى أصبح معلنًا أنها وجهة المعركة القادمة للنظام وحلفائه، بخلاف صعوبات تتعلق بالاصطفاف الفصائلي فيها من جانب عناصر الجيش السوري الحر.
وتطرح مسارعة قوات النظام إلى السيطرة على معبر نصيب الحدودي الاستراتيجي مع الأردن قبل انتهاء المعارك باتجاه شمال درعا الغربي، دلالات عديدة اقتصادية وسياسية وأمنية. إذ يشكل المعبر رافدًا اقتصاديًا حيويًا في التعامل الحدودي مع الأردن ولبنان، كما يضمن استعادة النظام سيطرته على طريق درعا- حلب، وهو محور استراتيجي بالنسبة للتحركات المستقبلية للنظام بين جنوب ووسط البلاد باتجاه الشمال، حيث يُؤمِّن له هامشًا واسعًا من الحركة.
ومع تحول طبيعة تلك المواقع من مناطق "خفض تصعيد" إلى مناطق "أمن حدود"، فإن ذلك سيؤدي إلى عودة النظام للإشراف عليها، وبالتالي تعزيز فرص استعادة الاتصال مرة أخرى حتى مع إسرائيل، التي تتفاوض مع روسيا للعودة إلى فك الاشتباك وفقًا لاتفاقيات عام 1974 حسب تصريحات وزير الدفاع الإسرائيلي افيجدرو ليبرمان.
مستقبل غامض:
بخلاف المواقع التى استعادها النظام في السابق، والتي كانت تعني تراجع قدرات وخريطة سيطرة المعارضة على التوالي، فإن سيطرته على درعا تفرض تحولات شاملة في الميزان العسكرى الخاص بالجيش السوري الحر تحديدًا. فبحسب خريطة الانتشار العسكري التى ترصدها بعض التقارير، فإن إعادة تموضع قوات النظام في تلك المناطق تعني أن المعارضة ستخسر قطاعيًا ثلث مساحة انتشارها، وهو ما يمثل نوعيًا أكبر خسائرها على المستوى الميداني، على نحو دفعها إلى الاستجابة لضغوط روسيا والموافقة على تسليم أسلحتها.
ومن دون شك، فإن تلك التحولات الميدانية سوف تنعكس سلبًا على المعارضة السياسية، حيث ستتقلص خياراتها المستقبلية في المفاوضات المرتقبة، لا سيما فيما يتعلق بمسار اللجنة الدستورية وفقًا لقرار 2254، وما يفترض أن يليه على جدول الأعمال السياسي المقرر وفق الأمم المتحدة للانتقال السياسي في سوريا.
وفي ضوء ما أعلنته روسيا خلال الأشهر الأخيرة من أن لديها خطة متعددة المحاور تشمل ترتيبات أمن الحدود وإعادة صياغة التوازنات السياسية بشكل يتوافق مع مصالح النظام، بالتوازي مع تراجع الدعم الغربي للمعارضة، فإن ذلك يشير إلى أن الأخيرة سوف تنخرط في المفاوضات القادمة دون أن يكون لديها خيارات متعددة، في مواجهة النظام الذي عززت التطورات الميدانية الأخيرة من موقعه التفاوضي.
لكن في النهاية، يمكن القول إنه على الرغم من أن النظام يقترب من حسم معركة درعا، التي تشكل المعركة الفاصلة في مواجهة المعارضة في الجنوب، إلا أن ذلك لا يعني أنه نجح في إنهاء المعركة الشاملة لصالحه، حيث سيواجه بدوره اختبارات صعبة في الفترة القادمة، يأتي في مقدمتها معركة إدلب التي يسعى إلى حسمها من أجل استكمال خريطة السيطرة على ما يعرف بـ"سوريا المفيدة"، فيما سيتعين عليه الانتقال لاحقًا إلى غرب الفرات باتجاه محاولة استعادة السيطرة على نحو 25% من أراضي البلاد التي تتواجد بها "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) إما في إطار صفقة أو في سياق عملية عسكرية جديدة، فضلاً عن الجيوب الأخرى في مناطق الشمال التي تسيطر عليها القوات التركية.
كما أن مجمل المكاسب التي حققها النظام لا تعني أن المسار السياسي أصبح ممهدًا أمامه، خاصة أنه سيواجه بمواقف دولية مناوئة له، لا سيما من جانب القوى الغربية التي لم تتوصل إلى تفاهمات شاملة بعد مع روسيا، التي تحاول تكريس دورها باعتبارها الطرف الرئيسي في تحديد المسارات المحتملة للصراع في سوريا خلال المرحلة القادمة.