تعرض الاحتياطي الأجنبي لدى البنك المركزي التونسي لتراجع حاد في يناير 2018، حيث هبط إلى أدنى مستوياته منذ 16 عامًا، الأمر الذي ينذر بتعرض الاقتصاد لمزيد من الضغوط في الفترة المقبلة، ويتزامن ذلك مع استمرار اختلالات واسعة في الميزان التجاري وارتفاع مدفوعات الدين العام، بما صعّد من حدة الانتقادات التي وجهت إلى الشاذلي العياري محافظ البنك المركزي السابق وأدى إلى تعيين مروان العباسي بدلاً منه في فبراير من العام نفسه.
ومن دون شك، فإن المستويات الحرجة تهدد قدرة تونس على سداد ديونها أو تلبية معظم احتياجاتها من الواردات، كما ستدفع قيمة الدينار للانخفاض أمام العملات الصعبة. ورغم التحديات التي يمكن أن يواجهها محافظ البنك المركزي الجديد في إعادة بناء الاحتياطي، إلا أنه لن يكون هناك مفر من اتخاذ إجراءات صعبة، على المستوى الاجتماعي، تتعلق بفرض قيود جديدة على الواردات غير الضرورية ومحاربة السوق السوداء، بجانب قيام الحكومة بدور جوهري في مواصلة برنامج الإصلاح الاقتصادي من أجل كسب الثقة الدولية في الاقتصاد ومن ثم تعزيز إمكانية الحصول على التمويل الخارجي لدعم الاحتياطي.
مرحلة حرجة:
لا شك أن هبوط الاحتياطي الأجنبي لدى البنك المركزي لأدنى مستوياته، منذ فترة طويلة، مؤشر خطير يعكس عدم نجاح الحكومات المتعاقبة في تجاوز الصعوبات الاقتصادية التي تعرضت لها البلاد في الأعوام السبعة الماضية، بسبب تصاعد حدة التوترات الأمنية والاضطرابات الاجتماعية.
وكان تدهور الاحتياطي الأجنبي أحد الأسباب التي دفعت الرئيس والحكومة إلى توجيه انتقادات متكررة لأداء محافظ البنك المركزي السابق الشاذلي العياري، وخاصة بعد وضع تونس في قائمة الدول المُعرَّضة لمخاطر تمويل الإرهاب وغسيل الأموال في فبراير الفائت، قبل تعيين مروان العباسي بدلاً منه في محاولة لإنقاذ الأوضاع النقدية للبلاد.
ووفق بيانات البنك المركزي، سجل الاحتياطي الأجنبي 4.85 مليار دولار، بما يكفي لتغطية واردات 82 يومًا مقارنة بـ5.6 مليار دولار تكفي واردات 116 يومًا في الفترة نفسها من العام الماضي.
ويمثل ذلك امتدادًا لتراجع مستويات الاحتياطي الأجنبي لدى البنك المركزي منذ أغسطس الماضي، والذي أصبح منذ ذلك الوقت غير قادر على تغطية الواردات أكثر من 90 يومًا مقارنة بمستويات سابقة فوق 100 يوم من الواردات، وهو ما يضعف من قدرة الدولة على سداد مدفوعات ديونها الخارجية، وعلى استيراد بعض احتياجاتها الأساسية من السلع والخدمات.
عوامل مختلفة:
تسببت متغيرات عديدة في تآكل الاحتياطي الأجنبي لدى البنك المركزي، في الفترة الماضية، ويتمثل أبرزها في استمرار هبوط الصادرات في الأعوام الماضية، مقابل تصاعد الواردات، وهو ما أدى إلى تفاقم عجز الميزان التجاري الذي وصل إلى 5.9 مليار دولار في عام 2016، لكنه يقل بشكل طفيف عن مستوى 6.2 مليار في عام 2015.
وبالطبع، فإن ما يزيد من حدة تلك المشكلة، أن الصادرات الأساسية من الفوسفات تتعرض، بين الحين والآخر، للتوقف نتيجة الاحتجاجات الشعبية التي تشهدها منطقة الحوض المنجمي بجنوب البلاد، والتي تطالب برفع المستوى المعيشي وتوفير الوظائف بهذه المناطق، وكان آخرها في فبراير الفائت. في مقابل ذلك، لم تتمكن صادرات الملابس والمعدات من تعويض تراجع الفوسفات.
كما يبدو أن سداد مدفوعات خدمة الدين الخارجي أحد المتغيرات الأخرى التي تستنزف الاحتياطي الأجنبي، وبحسب وكالة "موديز" للتصنيف الائتماني، فقد وصلت متطلبات خدمة الدين الخارجي السنوية إلى نحو 25% من الناتج المحلي الإجمالي سنويًا، في حين بلغ الدين الخارجي نفسه ما يزيد عن 70% في نهاية عام 2016. وقد دفع هذا الموقف المالي وكالات التصنيف الائتماني، ومن بينها "موديز"، إلى خفض التصنيف الائتماني لتونس إلى B1 بدلاً من BA3 في أغسطس الماضي.
فيما واجهت تونس، على غرار دول أخرى، بالمنطقة تحديًا آخر حد من السيولة الأجنبية المتوفرة لدى البنوك، ويتعلق بتنامي السوق الموازية نتيجة الفجوة بين سعر الصرف في السوقين الرسمية والسوداء، حيث ارتفع حجم تداول السيولة خارج القطاع البنكي، بما فيها النقد الأجنبي، إلى مستوى قياسي بلغ 5.1 مليار دولار. وبالتوازي مع ذلك، أدى إبطاء تنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي إلى تردد المؤسسات الدولية في إقراض تونس بالمبالغ اللازمة لدعم الاحتياطي.
خيارات مكلفة:
يبدو أن مهمة محافظ البنك المركزي مروان العباسي في إعادة بناء الاحتياطي الأجنبي لن تكون سهلة، خاصة في ظل سياق اقتصادي واجتماعي مضطرب قد يؤثر على المضي قدمًا في خطط الإصلاح النقدي والمالي معًا.
وربما يكون من الضروري مواصلة سياسة البنك المركزي السابقة الخاصة بفرض مزيد من القيود على منح النقد الأجنبي لاستيراد السلع غير الضرورية، وهى سياسة تبناها البنك منذ أكتوبر الماضي عبر وضع قائمة من 220 منتجًا تعتبر غير ضرورية لن تتمكن البنوك من توفير العملة الأجنبية لها.
في الوقت نفسه، قد يتطلب محاربة السوق السوداء في الوقت الراهن إجراءات أكثر جرأة مثل تحرير سعر الدينار أمام العملات الصعبة، وإن كان من الصعوبة اتخاذ هذه الخطوة في الوقت الراهن نظرًا لاحتمال تصاعد حدة الاضطرابات الاجتماعية والأمنية.
لكن بإمكان البنك المركزي تبنى نهج تدريجي في تخفيض قيمة العملة، لكى يستطيع جذب العملات الصعبة إلى القنوات الرسمية مرة أخرى، دون أن يقلل ذلك من أهمية تحرير القيود على الحسابات البنكية بالعملة الأجنبية في مرحلة لاحقة.
وبالتوازي مع ذلك، يجب استكمال برنامج الإصلاح الاقتصادي من أجل تعزيز قدرة الحكومة على الاقتراض من الأسواق الخارجية لدعم الاحتياطي. وبحسب المسئولين التونسيين، ستحتاج البلاد إلى تمويلات خارجية بقيمة 3 مليار دولار عام 2018 من بينها إصدار سندات مقومة بالعملات الأجنبية.
وفي الفترة الماضية، اتخذت تونس إجراءات لخفض عجز الموازنة العامة منها رفع أسعار البنزين وبعض السلع الأولية، لكن صاحبها احتجاجات اجتماعية بين الحين والآخر، وهو ما زاد من شكوك المؤسسات الاقتصادية الدولية والأسواق إزاء احتمال عدم قدرة تونس على مواصلة برنامجها الإصلاحي.
ويعد صندوق النقد الدولي أحد أهم المؤسسات التي تنتظر اتخاذ تونس إجراءات إصلاحية جديدة لتحسين وضبط الأوضاع المالية والنقدية، بموجب اتفاق تمويلي تم إبرامه بين الطرفين في مايو 2016 بقيمة 2.9 مليار دولار، وحصلت منه تونس حتى الآن على قسطين فقط بقيمة 320 مليون دولار لكل منهما.
ويتمثل أحد الخيارات الأخرى المتاحة أمام تونس لدعم الاحتياطي في الاقتراض من الأسواق الخارجية، وكان من المعتاد في السنوات الماضية اللجوء للتمويل الخارجي لتوفير النقد الأجنبي، لكن يبدو هذا الخيار مكلفًا في الوقت الراهن، إذ قد تضطر تونس لبيع سندات بالأسواق الدولية بنسبة فائدة عالية خاصة مع خفض تصنيفها الاتئماني، غير أن مواصلة برنامجها الإصلاحي بجانب تغيير محافظ البنك المركزي في هذا التوقيت قد يوجه رسائل إيجابية حول رغبة البلاد في تعزيز المسار المالي والنقدي.
وفد تكون الآفاق الواعدة لقطاع السياحة في البلاد من التطورات الإيجابية التي قد تساعد تونس على توفير النقد الأجنبي. وبحسب وزارة السياحة والصناعات التقليدية، فقد نمت إيرادات البلاد من القطاع السياحي بنسبة 16.3% في عام 2017 لتصل إلى 402 مليون دولار، في حين أنها على الأرجح ستنمو بنسبة 25% في عام 2018، حيث من المحتمل أن تستقبل البلاد 8 مليون سائح تزامنًا مع استئناف شركات السياحة البريطانية رحلاتها في فبراير الفائت.
وختامًا، يمكن القول إن بإمكان تونس إعادة بناء احتياطي النقد الأجنبي، إلا أن تحقيق ذلك الهدف الحيوي سيتطلب من الحكومة والبنك المركزي اتخاذ إجراء إصلاحية سريعة تبدو تكلفتها الاجتماعية والأمنية عالية، لكن تطبيقها يبقى ضروريًا لتجنب مزيد من تدهور الأوضاع الاقتصادية.