استقبلت ليبيا عام 2018 بمجموعة من العقبات في طريق إنهاء أزمتها الممتدة منذ رفض التيار الإسلامي الاعتراف بنتائج انتخابات مجلس النواب الليبي في يونيو 2014 التي أسفرت عن فوز التيار المدني والفيدرالي بغالبية مقاعد المجلس، ودخول المنطقتين الشرقية والغربية في صراع مسلح لا تزال تبعاته ممتدة حتى يومنا هذا رغم الجهود التي بذلتها القوى الإقليمية والدولية، والمبعوث الأممي "غسان سلامة" خلال العام المنصرم (2017)، لكسر حالة الجمود التي أصابت عملية التسوية السياسية للأزمة الليبية، والتي تُوِّجت بإعلانه في 20 سبتمبر الماضي "خطة العمل الجديدة من أجل ليبيا" لتسوية الصراع الليبي.
بيد أن الأزمة الليبية لم تشهد -حتى الآن- انفراجة حقيقية، بل إن الخطة التي أعلنها المبعوث الأممي تواجه مجموعة من العقبات والانتكاسات تعرقل تنفيذها على أرض الواقع، وهو ما يثير التساؤل حول مدى إمكانية نجاحها في إنهاء الأزمة الليبية خلال المدة الزمنية المحددة لها بعام واحد فقط بنهاية العام الجاري.
مستقبل التسوية
تعد "خطة العمل الجديدة من أجل ليبيا" التي أعلنها المبعوث الأممي إلى ليبيا الإطار الحاكم لمسار تسوية الصراع الليبي. وتتكون هذه الخطة من ثلاث مراحل تبدأ بتعديل الاتفاق السياسي (اتفاق الصخيرات لعام ٢٠١٥)، وقد تم البدء في تنفيذ هذه المرحلة باستئناف جولات الحوار الوطني في تونس في 26 سبتمبر 2017، ثم تأتي مرحلة عقد مؤتمر وطني للمصالحة الوطنية الشاملة لدمج المهمشين والمستبعدين من العملية السياسية، وتم تحديد شهر فبراير الجاري موعدًا لهذا المؤتمر، وتنتهي بتنظيم استفتاء على الدستور، وفتح الباب أمام إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية، وذلك في موعد أقصاه سبتمبر 2018.
وفي هذا الإطار، يمكن استشراف مستقبل التسوية السياسية للصراع الليبي خلال هذا العام على النحو التالي:
أولا- تعثر تعديل الاتفاق السياسي الليبي "اتفاق الصخيرات"، والذي يمثل المرحلة الأولى من خطة عمل المبعوث الأممي "غسان سلامة". ويرجع ذلك إلى استمرار الخلافات بين كلٍّ من مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة حول تعديلات الاتفاق، خاصة تلك المتعلقة بالسلطة التنفيذية رغم انعقاد ثلاث جولات للحوار بين لجنتي الحوار المنبثقة عنهما في تونس بتواريخ 26 سبتمبر و15 أكتوبر و15 نوفمبر 2017، حيث يرفض المجلس الأعلى للدولة انفراد مجلس النواب باختيار أعضاء مجلس رئاسة الدولة من قوائم المرشحين لشغل منصب رئيس مجلس الدولة ونائبيه، ويطالب بمشاركته مجلس النواب في الاختيار.
وفي المقابل، أقر مجلس النواب بغالبية أعضائه مقترح المبعوث الأممي لتعديل المواد المتعلقة بالسلطة التنفيذية، والتي من أبرز ما جاء فيها: فصل مجلس رئاسة الدولة عن مجلس الوزراء، وتقليص عدد أعضائه لرئيس ونائبين، على أن يتخذ قراراته بالإجماع، فضلًا عن توليه مهام القائد الأعلى للجيش.
وقد فشلت محاولات "سلامة" في عقد جولات حوار جديدة بين طرفي الأزمة ليخرج "سلامة" في 17 يناير 2018 معلنًا عن أن عمل الأمـم المتحدة في ليبيا يركز حاليًّا على ثلاثة محاور رئيسية هي: الانتهاء من صياغة الدستور الجديد، وإجراء المصالحة الوطنية، تمهيدًا لإجراء الانتخابات، في محاولة منه لدفع خطته إلى الأمام، وإنقاذها من الفشل بعد تعثر تنفيذ أولى خطواتها.
ثانيًا- صعوبة تحقيق المصالحة الوطنية الشاملة بين الليبيين، فبعد أن تم تحديد شهر فبراير الجاري موعدًا لعقد "المؤتمر الوطني الجامع بين الليبيين"، خرج المبعوث الأممي في 23 ديسمبر الماضي ليعلن عن تأجيل موعد انعقاده، راهنًا إعادة الدعوة لانعقاده بشرط "الوصول إلى مستوى معين من المصالحات وقبول الآخر".
وفي 7 فبراير الجاري، صرح سلامة بأن تحقيق المصالحة الشاملة "يتطلب عملًا ليس بسيطًا من المصالحات السياسية لكي يقبل كل ليبي أن يجلس تحت نفس السقف مع الليبي الآخر". ويُعد ذلك اعترافًا ضمنيًّا من قبل المبعوث الأممي بصعوبة تنفيذ أحد أهم بنود خطته، والذي يعد عنصرًا أساسيًّا لتحقيق حد أدنى من السلام الاجتماعي الليبي. وهو ما يعكس في النهاية مدى عمق الانقسام المجتمعي والقبلي في ليبيا، واستمرار سياسة الإقصاء التي يمارسها عدد من القبائل الليبية ضد أنصار نظام العقيد الراحل "معمر القذافي".
وتتجسد صعوبة تنفيذ هذا البند فيما تشهده ليبيا مؤخرًا من منع للنازحين والمهجرين من العودة لمدنهم. ففي مطلع فبراير الجاري، رفضت "مصراتة" عودة نازحي "تاورغاء" إلى بلدتهم بعد أن طُردوا منها على يد قوات مصراتة بسبب قتالهم بجانب "القذافي"، وذلك بناء على الاتفاق المُوقَّع بين الجانبين في أغسطس 2016، والمُصدَّق عليه من قبل المجلس الرئاسي في يونيو 2017. وقام عدد من الجماعات المسلحة التابعة للمدينة بمنع عائلات "تاورغاء" من الدخول إلى البلدة، وطالب ممثلون عن مصراتة بتأجيل عودة النازحين لحين معالجة ملف "تاورغاء" ضمن معالجة شاملة لملفات النازحين والمهجرين في شتى أنحاء ليبيا، وفي مقدمتهم مهجرو مدينة "بنغازي" شرق ليبيا.
وفي المقابل، تمنع تشكيلات مسلحة متحالفة مع قوات المشير "خليفة حفتر" في شرق ليبيا العديد من العائلات من العودة إلى منازلهم في مدينة بنغازي بتهمة دعمهم للإرهاب بعد أن قاتل عدد من أبنائها ضد قوات حفتر، وبرر الناطق باسم الجيش الوطني "العميد أحمد المسماري" في الأول من فبراير الجاري هذا الإجراء بأن أبناء تلك الأسر ارتكبوا جرائم عند بدء عملية "الكرامة" في عام 2014، وغادروا بنغازي خشية الانتقام، وأن هناك عرفًا اجتماعيًّا في البلاد يجري من خلاله إبعاد القاتل وعائلته إلى منطقة أخرى، غير أنه أكد -في الوقت ذاته- ضرورة إجراء مصالحة وطنية شاملة في ليبيا.
ثالثًا- عقبات أمام إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية بنهاية عام 2018، وهي المرحلة الأخيرة من خطة "سلامة"، والتي باتت تراهن عليها القوى الإقليمية والدولية والمبعوث الأممي كمخرج للصراع الدائر في ليبيا بعدما تكونت لديهم قناعة بصعوبة تعديل الاتفاق السياسي وتشكيل سلطة تنفيذية جديدة تقود البلاد خلال فترة انتقالية، وهو ما انعكس في تصريح "سلامة" في مطلع شهر ديسمبر 2017 بقوله: "نحن ذاهبون نحو الانتخابات في 2018، حتى لو لم يتم التوصل إلى اتفاق بشأن السلطة التنفيذية".
عقبات أمام الانتخابات
جاء تصريح "سلامة" في 7 فبراير 2018 بأن هناك شروطًا عديدة ينبغي توافرها لإجراء عملية الانتخابات في ليبيا لم يتحقق منها إلا واحد فقط وهو تسجيل الناخبين؛ ليؤكد وجود عقبات أمام إجراء الانتخابات في موعدها، والتي يتمثل أبرزها في:
أولًا- تعثر عملية إقرار الدستور الليبي الجديد الذي يعتبر خطوة أساسية لإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية في البلاد، حيث توجد عدد من الدعاوى القضائية المرفوعة لإيقاف مشروع الدستور الذي أقرته لجنة صياغة الدستور في 29 يوليو 2017 بحجة أن التصويت على مشروع الدستور تم في يوم عطلة رسمية وهو يوم السبت.
وفي 15 يناير 2018 ألغت محكمة القضاء الإداري بمحكمة استئناف البيضاء شرق ليبيا قرار إحالة مشروع الدستور إلى مجلس النواب، ومن المنتظر أن تصدر المحكمة العليا في طرابلس حكمها بشأن إيقاف مسودة الدستور في 14 فبراير الجاري. وفي الوقت الذي تبنى فيه مجلس الدولة مشروع قانون الاستفتاء على مشروع الدستور في 26 ديسمبر 2017، يرفض مجلس النواب إصدار قانون تنظيم الاستفتاء على مشروع الدستور متبنيًا الحكم القضائي بإيقاف مسودة الدستور.
ثانيًا- المخاوف بشأن عدم توافق أطراف الصراع الليبي حول قانون الانتخابات، والذي يفترض أن ينظم العملية الانتخابية برمتها.
ثالثًا- صعوبة إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية في ظل تردي الأوضاع الأمنية في البلاد، وانتشار السلاح وهيمنة الميليشيات المسلحة على الأرض، فلا تزال تشهد العاصمة طرابلس بين حين وآخر اشتباكات بين الجماعات المسلحة المنتشرة بها كان آخرها في 15 يناير 2018 عندما هاجمت ميليشيا مسلحة تحمل اسم "البقرة" نسبة لقائدها "خلف الله" المكنى بـالبقرة مطار "معيتقية" للسيطرة عليه، وتصدت قوة "الردع الخاصة" التابعة لحكومة الوفاق الوطني لها، مما أسفر عن مقتل نحو 11 شخصًا على الأقل.
كما شهدت مدينة بنغازي تفجيرين إرهابيين في أقل من شهر استهدفا مسجدين في ليبيا، كان أولهما في 23 يناير الماضي وأسفر عن مقتل 41 شخصًا، وآخرهما في 9 فبراير الجاري وأسفر عن مقتل شخص على الأقل وإصابة 65 آخرين.
تحديات التسوية
توجد مجموعة من العوامل ذات الأبعاد الداخلية والإقليمية والدولية تدفع باتجاه تصاعد الصراع الليبي في عام 2018، لعل من أبرزها ما يلي:
أولًا- عوامل داخلية:
1- تهديدات حفتر المستمرة بين حين وآخر باعتماد الحل العسكري لإنهاء الأزمة الليبية، حال فشل المسار السياسي الذي ترعاه الأمم المتحدة، وذلك بالتوجه لتحرير العاصمة طرابلس، وتوليه السلطة من خلال تفويض الشعب الليبي الممثلة إرادته في مجلس النواب المنتخب.
2- وجود عدد من الميليشيات الإسلامية المسلحة المتشددة في الغرب الليبي الرافضة من الأساس للحوار مع "حفتر" وإشراكه في العملية السياسية، والتي قامت باغتيال عميد بلدية مصراتة "محمد إشتيوي" في 17 ديسمبر 2017، بعدما أبدى انفتاحًا على "حفتر"، وقيادته المصالحة مع مدينة "تاورغاء"، وهي الجماعات ذاتها التي منعت أهالي "تاورغاء" من العودة لمدينتهم.
3- التخوف من عدم قبول الأطراف المتصارعة في ليبيا بنتائج الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقرر إجراؤها بنهاية عام 2018 حال تعرض أي منهما للهزيمة، الأمر الذي قد يُدخل ليبيا في حرب أهلية جديدة، مثلما حدث في عام 2014 عندما رفض التيار الإسلامي الاعتراف بهزيمته في انتخابات مجلس النواب التي أُجريت في يونيو 2014.
ثانيًا- عوامل إقليمية:
وتتمثل في اشتداد حدة التنافس الإقليمي بين المحور التركي - القطري الداعم لتيارات الإسلام السياسي في المنطقة والقوى الأخرى المناهضة له وذلك منذ المقاطعة الرباعية العربية لقطر في يونيو 2017، وامتداد هذا التنافس إلى ليبيا، حيث تقدم تركيا وقطر دعمًا سياسيًّا وعسكريًّا للقوى الإسلامية هناك، ولعل جولة الرئيس التركي "أردوغان" إلى دول السودان وتشاد وتونس المجاورة لليبيا في الفترة من 24 إلى 27 ديسمبر 2017 تندرج في هذا الإطار، حيث اعتبرها البعض محاولة من قبل المحور التركي - القطري لتطويق المحور العربي المناهض لتدخلاته في ليبيا، ثم جاء توقيف السلطات اليونانية لسفينة "أندروميدا" في 11 يناير 2018 بعد مغادرتها أحد الموانئ التركية إلى ميناء مصراتة في ليبيا وعلى متنها حاويات محملة بمواد متفجرة تأكيدًا على استمرار المحور التركي - القطري في دعم حلفائه من التنظيمات الإسلامية، ورغبته في تصعيد المواجهة ضد خصومه هناك.
ثالثًا- عوامل دولية:
وتتعلق بالتنافس بين روسيا من جهة والولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين من جهة أخرى على النفوذ في ليبيا، والتخوف من أن يؤدي هذا التنافس لعرقلة حل الأزمة الليبية من خلال استغلال الأطراف الليبية لهذا التنافس للتنصل من التزاماتها. ففي 15 يناير 2018، قررت إيطاليا رفع عدد جنودها في ليبيا إلى 400، ومركباتها العسكرية إلى 130، وفي المقابل تسعى روسيا لمزاحمة النفوذ السياسي والعسكري الأوروبي في ليبيا من خلال الاتجاه لتعزيز نفوذها في الغرب الليبي من خلال البوابة الجزائرية التي زارها وفد روسي في أواخر شهر يناير الماضي برئاسة نائب وزير الخارجية الروسي "ميخائيل بوغدانوف" وضم أعضاء من مجلس الأمن الروسي التقوا خلالها الرئيس الجزائري بوتفليقة ورئيس أركان الجيش الجزائري "قايد صالح" ورئيس الاستخبارات "عثمان طرطاق"، حيث تمت مناقشة تطورات الأوضاع في ليبيا، والتعاون في مجال مكافحة الإرهاب، وذلك بالتوازي مع نفوذها التقليدي في الشرق من خلال دعمها لحفتر.
وختامًا، من الواضح أن السيناريو الغالب في ليبيا خلال عام 2018 هو تصاعد الصراع، واستمرار مسلسل تعثر التسوية السياسية للأزمة، والذي بدأت بوادره بتعثر تنفيذ المرحلتين الأولى والثانية من خطة العمل التي اقترحها المبعوث الأممي لحل الأزمة الليبية المتعلقتين بتعديل الاتفاق السياسي الليبي وعقد مؤتمر للمصالحة الوطنية الشاملة في ليبيا، ليبقى الرهان على إجراء انتخابات برلمانية ورئاسية بنهاية عام 2018 كمدخل لحل الصراع الليبي، وهي الانتخابات التي تواجهها مجموعة من العقبات السياسية والأمنية والدستورية والقانونية قد تحول دون إجرائها، فضلًا عن تخوفات من أن تؤدي نتائج الانتخابات في حد ذاتها -حال إجرائها- إلى تجدد الحرب الأهلية في ليبيا في حال رفض أحد طرفي الصراع الاعتراف بنتائجها.