اتسمت العلاقات التركية - الإيرانية عبر التاريخ بالصراع والتنافس في منطقة الشرق الأوسط، ولعل إرث هذا الصراع، هو الذي يظلل حتى الآن الخلافات بين البلدين في ساحات سوريا والعراق واليمن ولبنان، على أُسس تتداخل فيها الطائفية بالمصالح الاقتصادية والسياسية والنفوذ الإقليمي.
وعلى الرغم من هذا الصدام التاريخي، فإن هناك حرصاً دائماً من الجانبين التركي والإيراني للحفاظ على أمرين أساسيين، أولهما: إقامة أفضل العلاقات الاقتصادية وبناء مصالح مشتركة مهما بلغت درجة الخلافات السياسية، فعلى سبيل المثال، لم يمنع التناقض الحاد في سياسة أنقرة وطهران تجاه الأزمة السورية من تطوير العلاقات الاقتصادية بينهما. وثانيهما: الاتفاق على العمل معاً في مواجهة القضايا والتحديات الأمنية المشتركة، لاسيما تلك التي تتعلق بسيادة الدولتين ومحاربة المشاريع التي تستهدف تقسيم بعض الدول، ومثال على ذلك القضايا الكردية المتفجرة في سوريا والعراق وتركيا وإيران إلى حد ما، فطهران وأنقرة تدركان أن تطور القضية الكردية في أي من الدول المذكورة سينعكس في النهاية على البلدين بحكم وجود أقلية كردية كبيرة بهما؛ إذ إن أكبر وجود كردي هو في تركيا (قرابة 20 مليون نسمة)، وفي إيران (نحو 8 ملايين نسمة).
وفي هذا الإطار، أثارت الزيارة المفاجئة التي قام بها رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو إلى طهران، في الرابع من شهر مارس الجاري، الكثير من التساؤلات عن توقيتها وأهدافها وتداعياتها، وهل ستشكل هذه الزيارة انعطافة في العلاقات التركية – الإيرانية؟ ومدى تأثيرها على التحالفات الإقليمية والوضع في المنطقة؟
أجندة زيارة أوغلو
تضمنت زيارة أوغلو إلى طهران بحث عدد من القضايا مع الجانب الإيراني، وهي قضايا تتجاوز العلاقات الثنائية إلى الوضع في المنطقة والتحالفات الإقليمية، وفي مقدمتها ما يلي:
1- رفض التقسيم:
ثمة قناعة تركية – إيرانية مشتركة بأن الولايات المتحدة وروسيا اتفقتا سراً على تقسيم منطقة الشرق الأوسط، وقد تعززت هذه القناعة منذ إعلان موسكو أنها لا تمانع إقامة نظام فيدرالي في سوريا، وهو ما يعني، حسب البلدين، إقامة إقليم كردي في شمال شرق سوريا على غرار ما جرى لإقليم كردستان العراق. وفي ظل هذه القناعة، ترى أنقرة وطهران أن كلاً منهما سيكون المتضرر الأكبر على اعتبار أن هناك أكراداً في الدولتين، وستتأثر قضيتهم بلا شك بما يجري كردياً في سوريا والعراق.
وفي هذا السياق، جاءت التصريحات المتطابقة لرئيس الوزراء التركي أوغلو والرئيس الإيراني حسن روحاني بخصوص وحدة الرؤية لجهة رفض الفيدرالية من خلال التأكيد على وحدة سوريا والعراق. لكن المشكلة التي تضعف رؤية البلدين المشتركة بهذا الخصوص هي التناقض الكبير في سياستهما تجاه الأزمة السورية من جهة، ومحدودية دورهما أمام قوة الدورين الروسي والأمريكي في المنطقة من جهة ثانية.
2- الملف الاقتصادي:
تشكل تركيا بوابة إيران الاقتصادية إلى الغرب، فيما تمثل إيران بوابة تركيا إلى أقصى الشرق، وذلك بحكم التجاور الجغرافي. ومع دخول الاتفاق النووي الإيراني حيز التنفيذ ورفع العقوبات عن طهران تدريجياً منذ منتصف يناير 2016، ثمة قناعة تركية بأنها ستستفيد من هذا الاتفاق، وبما يعوض خسائرها الاقتصادية جراء الأزمة السورية.
وبناءً عليه، فإن الآمال التركية كبيرة جداً في تطوير العلاقات الاقتصادية مع إيران، سواء في الاستفادة من مرحلة ما بعد الاتفاق النووي لرفع حجم التبادل التجاري بين البلدين إلى نحو 40 مليار دولار عبر مشاريع النقل والطاقة والتجارة، أو في تأمين بديل عن الغاز الروسي في حال لجوء موسكو إلى قطع إمداداته عن تركيا، خاصةً أنه يؤمن نحو 65% من احتياجات أنقرة.
3- الأزمة السورية:
تقف تركيا وإيران على النقيض من الأزمة السورية، ولكل طرف أسبابة ودوافعه واستراتيجيته المختلفة. فمنذ بداية الأزمة، أعلنت طهران دعمها الكامل لنظام بشار الأسد، وهذا طبيعي ومفهوم في ظل التحالف القائم بين النظامين منذ سنوات طويلة، لذا تحركت طهران لدعم النظام السوري على كافة المستويات في حربه ضد معارضيه وخصومه في الداخل والخارج.
وعلى العكس تماماً، تحركت أنقرة في كل الاتجاهات لإسقاط نظام الأسد في سوريا، وانتهجت القيادة التركية لهجة غير مسبوقة في رفع اللاءات وإعطاء المهل والفرص لرحيل النظام السوري أو إسقاطه عسكرياً عبر دعم المجموعات المسلحة.
وهكذا تحولت الأزمة السورية إلى حرب باردة بين تركيا وإيران، ولكن اليوم وبعد خمس سنوات على هذه الأزمة، فإن الجديد بالنسبة لموقف البلدين هو إدراكهما ضعف موقفهما في ظل الاتفاق الأمريكي – الروسي على كيفية التعاطي مع الصراع في سوريا، وهو ما قد يدفع كلاً من أنقرة وطهران إلى اتباع سياسة "تدوير الزوايا" للحد من تداعيات الرؤية الأمريكية – الروسية للأزمة السورية.
4- الوضع في العراق وملف تحرير الموصل:
لا يمكن تصور أي لقاء إيراني– تركي على مستوى رفيع أمنياً أو سياسياً دون حضور الملف العراقي، ولعل الجانب الساخن في هذا الملف حالياً يتعلق بمعركة تحرير الموصل؛ فطهران وأنقرة، على الرغم من الخلافات بينهما، يريدان أن تكون هذه المعركة بإسهام منهما وليست من خلال القوات الأمريكية أو الكردية. فمن ناحية، تخشى إيران أن يكون الدور الأمريكي في معركة الموصل بمنزلة عودة لتكريس نفوذ واشنطن في العراق والتحكم في سياسته عبر حكومة تكنوقراط بدا رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي يتحدث عنها بقوة، وقد يكون الإسهام الإيراني في تلك المعركة من خلال قوات الحشد الشعبي.
ومن جهتها، لا تريد تركيا أن تكون معركة الموصل من خلال قوات البيشمركة الكردية أو قوات حزب العمال الكردستاني، لأنها تعتقد أن المشاركة الكردية بهذا الشكل ستكرس الدولة الكردية على الأرض وتُقوي من موقف كُرد سوريا، وعليه تبحث أنقرة عن مشاركة لقوات عربية سنية وتركمانية، ومن خلال دور تركي عسكري وأمني يضمن لها التحكم في مسار الأحداث بالعراق.
تداعيات زيارة أوغلو
كشفت زيارة أوغلو إلى طهران عن انتقادات إيرانية علنية، للمرة الأولى، لسياسة الحليف الروسي في سوريا؛ إذ كان الرئيس الإيراني حسن روحاني واضحاً في انتقاده الطرح الروسي للفيدرالية السورية، مؤكداً أن إيران تدافع عن وحدة سوريا وسيادتها على كامل أراضيها، كما نُقل عنه أن القيادة الإيرانية أبلغت روسيا أن سيادة بلدان المنطقة على أراضيها مبدأ يحظى بتأكيد طهران، سواء فيما يتعلق بالعراق أو سوريا.
وانطلاقاً من المصالح المشتركة بين أنقرة وطهران، يمكن القول إن زيارة أوغلو الأخيرة فتحت صفحة جديدة في العلاقات بينهما، على أن تتضح ملامحها بشكل نهائي خلال الزيارة المرتقبة الفترة القادمة للرئيس الإيراني حسن روحاني إلى تركيا، والتي لم يتحدد موعدها بعد.
ويبقى السؤال: كيف ستكون تداعيات هذا التقارب التركي – الإيراني على العلاقات التركية - السعودية والخليجية بشكل عام؟ وما تأثيره على العلاقات الإيرانية – الروسية؟
في هذا الشأن، ثمة من يرى أن إيران تعتبر تركيا بوابة للحد من توتر علاقاتها مع السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي، بعد أن وصل هذا التوتر إلى مستوى غير مسبوق، وهو ما بدا واضحاً في الأزمة الخليجية الأخيرة مع حزب الله اللبناني في ظل علاقاته مع إيران. في المقابل، ترى تركيا في إيران أفضل قناة لتخفيف حدة التوتر في علاقاتها مع روسيا، خاصةً أن هناك قناعة عميقة لدى أنقرة بأن الولايات المتحدة والغرب عموماً لا يريدون تحسناً في العلاقات التركية - الروسية في إطار استراتيجية الغرب التي تقوم على استنزاف الجميع بما في ذلك الحليف التاريخي، أي تركيا.
ومن ناحية أخرى، هناك من يرى أن التصور السابق هو مجرد تعبير عن رغبة تركية - إيرانية قد لا تجد صداها في الرياض وموسكو وواشنطن. فبالنسبة للسعودية، مثل هذا التصور قد تكون له تأثيرات سلبية على مسار علاقاتها الجيدة مع تركيا، إذ تعتبر الرياض أن مشكلتها مع طهران لا تتعلق بالحوار والعلاقات بقدر ما تتعلق بالسياسات والمشروع الإيراني التوسعي في المنطقة.
وكذلك فإن موسكو التي رفضت كل الدعوات لإعادة الدفء إلى علاقتها مع أنقرة لن تعطي مثل هذا الشرف لإيران، خاصةً أن الرئيس الروسي بوتين يصر على استجابة نظيره التركي أردوغان لشروطه قبل التفكير في إعادة العلاقات بين الدولتين إلى طبيعتها.
حاصل القول، كانت زيارة رئيس الوزراء التركي داود أوغلو إلى إيران، خطوة لتخفيف حدة التوترات، وتقريب وجهات النظر بين البلدين، خاصةً في ظل التحديات والتطلعات والمصالح المشتركة التي تدفع الجانبين التركي والإيراني إلى إحداث تحول في علاقاتهما، وهو ما قد يؤدي إلى تشكيل محور جديد يغير الكثير من المعادلات الإقليمية.