عرض: إسلام حجازي - مدرس العلوم السياسية المساعد - جامعة القاهرة
يكاد يتفق أغلب الأكاديميين والخبراء المهتمين بدراسات الطفولة على ما يمكن أن تقدمه ثورات التقنيات الرقمية، التي نعيش مع جديد لها كل يوم تقريبًا، من تغيير لقواعد اللعبة بالنسبة للأطفال الذين تعرضوا لظروف قاسية مثل: الفقر، والتمييز العرقي والإثني، والتمييز بسبب النوع الاجتماعي، والإعاقة، والنزوح، والعزلة الجغرافية، وغيرها. وبحسب بعض التقديرات، من المرجح أن تساهم التحولات التقنية المستمرة، التي أصبحت حقيقة من حقائق حياتنا بصورة لا رجعة فيها، في ربط الأطفال بعوالم متجددة من الفرص التنموية المستدامة، وفي العمل في اتجاه تزويدهم بالمعارف والمهارات التي يحتاجون إليها للنجاح في مختلف جوانب حياتهم.
وفي مقابل ذلك، يؤكد البعض أن عدم قيام بعض الحكومات بمحو ظاهرة "الأمية الرقمية"، وتوسيع نطاق إمكانية الوصول للتقنيات الرقمية، قد يخلق انقسامًا جديدًا يمنع الأطفال من توظيف إمكاناتهم وتحقيق طموحاتهم، ويجعلهم أكثر عرضة لمخاطر الجانب المظلم الذي لا يُمكن إنكاره للإنترنت والتقنية الرقمية.
وفي هذا الإطار، تبرز أهمية التقرير المُعنوَن بـ"حالة أطفال العالم لعام 2017: الأطفال في عالم رقمي"، الصادر في ديمسبر 2017 عن منظمة الأمم المتحدة للطفولة، والذي سعى لاستكشاف تجارب الأطفال داخل العالم الرقمي، فضلًا عن اقتراح مجموعة من الإجراءات ذات الأولوية والتوصيات العلمية حول كيفية استفادة المجتمعات من قوة التحول الرقمي لصالح الأطفال الأكثر حرمانًا، والحد من الأضرار عبر حماية الأطفال الأكثر تهمشياً.
حسابات الفرص الافتراضية:
يستعرض تقرير منظمة "اليونيسف" مشهد الفرص الرقمية من حيث صلتها بالأطفال، وتأثيرها عليهم في كل مكان، ولا سيما الأطفال المحرومين بسبب الفقر والاستبعاد والصراعات والأزمات الأخرى. ويسرد التقرير، الذي اعتمد في بعض أجزائه على وجهات نظر الأطفال والشباب التي تم استقاؤها من خلال ورش عمل أقيمت في 26 دولة، عددًا لا يُحصى من القصص والتجارب والأمثلة التي توضّح كيف يمكن أن يغتنم الأطفال في مختلف أنحاء العالم فرصًا للتعلم والمتعة عبر الإنترنت، ولتشكيل مساراتهم الخاصة إلى مرحلة النمو. فعلى سبيل المثال، يقول إيفان باكيدوف، البالغ من العمر 18 عامًا والمصاب بالشلل الدماغي، في الفصل الأول من هذا التقرير: "في اليوم الذي تلقيت فيه مفكرة صوتية متصلة بالإنترنت؛ تغيرت حياتي حرفيًّا".
ويبدو أن الفكرة القائلة بأن التوصيل الرقمي يمكن أن يُحوّل عمليات التعلم، ويفتح آفاقًا جديدة للتطوير أمامها؛ قد جذبت منظمات التنمية، ومُنتجي البرمجيات والأجهزة، والمؤسسات التعليمية، لتجربة وتطوير استخدام المنتجات والخدمات الرقمية الجديدة في القطاعات التعليمية المختلفة، وذلك بهدف تسهيل إمكانية الوصول إلى محتوى تعليمي عالي الجودة عبر تقنيات رقمية جديدة، وبتكلفة أقل بكثير مما كانت عليه في الماضي. وهو الأمر الذي قد يساعد على تحفيز الطلاب عبر جعل عملية التعلم أكثر متعة وقربًا من المتعلم، فضلًا عن قدرة هذه التقنيات على إيجاد فرص للتعلم الشخصي، ومساعدة الطلاب على التعلم بالوتيرة التي تُناسبهم.
وعلى الرغم من ذلك، يُشدد التقرير على أن تقييم مدى إمكانية التوسع في نطاق الفرص الرقمية والفوائد الفعلية التي تجلبها للأطفال، وخاصة في مجالات التعلم والمشاركة والإدماج الاجتماعي، ما زال يمثل تحديًا رئيسيًّا أمام أغلب المجتمعات، وهو الأمر الذي يؤكد الحاجة إلى مزيدٍ من البحث والتقييم، للتوصل إلى فهم أفضل لكيفية الاستفادة من الفرص المتاحة في العصر الرقمي، وفهم أسباب استفادة بعض الأطفال أكثر من غيرهم، بالإضافة إلى أهمية فهم سياقات تجارب الأطفال الرقمية، وتوفير التوجيه والدعم الكافيين، وخاصة للأطفال المحرومين، والمتنقلين، والمستبعدين، والأطفال من ذوي الإعاقة.
تزايد الفجوات الرقمية:
يستكشف تقرير حالة أطفال العالم 2017، الفجوات الرقمية التي تمنع ملايين الأطفال من الوصول عبر الإنترنت إلى فرص جديدة للتعلم، ومن المشاركة في منظومة الاقتصاد الرقمي، والتي من المتوقع أن تساعد في عملية كسر دورات الفقر بين الأجيال، مؤكدًا أن تلك الفجوات الرقمية تعكس فجوات اجتماعية واقتصادية وسياسية أوسع نطاقًا بين الأغنياء والفقراء، والرجال والنساء، والمدن والمناطق الريفية، والمتعلمين وغير المتعلمين. فعلى سبيل المثال، يستخدم نحو 81% من سكان البلدان المتقدمة شبكة الإنترنت، أي أكثر من ضعف النسبة في البلدان النامية (40%)، والتي تفوق بدورها ضعف النسبة في البلدان الأقل نموًّا (15%).
ويُشير التقرير إلى أن الفجوات الرقمية لا تقتصر فقط على الفصل ما بين المتصلين بالإنترنت وغير المتصلين به، وإنما تمتد لأعمق من ذلك، لتشمل كيفية استخدام الناس، بمن فيهم الأطفال، لتقنيات المعلومات والاتصالات، فضلًا عن نوعية تجربتهم على الإنترنت، حيث من الممكن أن يتفاوت هذان الأمران تفاوتًا كبيرًا تبعًا لعوامل كثيرة، منها مستوى مهارات المستخدمين، ودخل الأسرة، وتوافر المحتوى على الإنترنت بلغتهم الأم.
وعلى المدى القريب، يمكن أن يعجز الأطفال غير المتصلين بالإنترنت عن الوصول إلى المواد التعليمية، وفرص التعلم عن بعد، بالإضافة إلى فقدانهم مساحة "تكنو-اجتماعية" هامة، وطرقًا إضافية لاستشكاف صداقات جديدة والتعبير عن ذواتهم.
ومع نمو الأطفال، ودخولهم إلى سوق العمل، قد تؤدي عدم قدرتهم على الوصول إلى الإنترنت إلى فقدان العديد من الفرص الوظيفية حيث تُشير الأدلة المستقاة من دراسات عن السكان البالغين إلى أن فوائد التقنية الرقمية، يجنيها من تتوافر لديهم المهارات اللازمة للاستفادة منها. فعلى سبيل المثال، تشير بيانات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية عن البلدان الأكثر ثراء في العالم، إلى أن خبرة الأفراد في التعامل مع تقنية المعلومات والاتصالات، كان لها أثر كبير على الانخراط في سوق العمل، وعلى مستويات الأجور في بلدان مثل أستراليا والولايات المتحدة الأمريكية. ولهذا، قد يكون من المرجّح أن يحقق البالغون الذين لديهم خبرة في تقنية المعلومات والاتصالات مستويات أعلى من الدخل، حتى لو كانوا يعملون أقل من أولئك الذين لا تتوافر لديهم تلك الخبرات.
خريطة المخاطر السيبرانية:
يُشدد تقرير منظمة "اليونيسيف" على عدم وجود طفل على الإنترنت آمن تمامًا من مخاطر الدخول عليها، وأن هناك استهداف للفئات الأكثر ضعفًا من قبل المتنمرين، ومرتكبي الجرائم الجنسية، ومن يؤذون الأطفال. وبشكل عام، يمكن تصنيف مجموعة المخاطر الواسعة التي يواجهها الأطفال على الإنترنت ضمن ثلاث فئات رئيسية:
1- مخاطر المحتوى: حيث تركز هذه الفئة على تعرض الطفل لمحتوى غير مرحب به أو غير لائق، ويشمل ذلك الصور الجنسية والإباحية والعنيفة، وبعض أشكال الدعاية، والمواد العنصرية والتمييزية، وخطاب الكراهية، ومواقع الإنترنت التي تروج لسلوكيات غير صحيحة أو خطيرة مثل إيذاء النفس والانتحار.
2- مخاطر الاتصال: وتشمل هذه الفئة جميع الحالات التي يتواصل فيها الأطفال مع آخرين في اتصالات محفوفة بالمخاطر، ومنها اتصال الطفل مع شخص بالغ يسعى لتواصل غير لائق معه أو لإغوائه لأغراض جنسية، أو مع أفراد يحاولون دفعه إلى التطرف، أو إقناعه بالمشاركة في سلوكيات غير صحيحة أو خطرة.
3- مخاطر السلوك: تتضمن هذه الفئة تصرفات الطفل بطريقة تُسهم في إنتاج محتوى مثل: قيام الأطفال بكتابة أو إنشاء مواد تحضّ على كراهية أطفال آخرين، أو التحريض على العنصرية، أو نشر صور ومواد جنسية، بما في ذلك الصور والمواد التي أنتجوها بأنفسهم.
آليات مواجهة المخاطر:
يضع تقرير حالة أطفال العالم 2017، خطة عمل مكونة من ست توصيات ذات أولوية لتسخير قوة التقنية الرقمية، بحيث تعود بالفائدة على الأطفال المحرومين، مع منع التهديدات عن الفئات الأكثر ضعفًا. وهي التوصيات التي يمكن إيجاز إجراءات تنفيذها على النحو التالي:
1- تزويد جميع الأطفال بإمكانية الوصول، بأسعار مقبولة، إلى موارد عالية الجودة على الإنترنت، ويمكن أن يحدث ذلك من خلال العمل على خفض تكلفة الوصول للإنترنت، والاستثمار في نقاط الوصول العمومي، وتشجيع إنشاء محتوى ذي صلة للأطفال بلغتهم الأم، بالإضافة إلى كسر الحواجز الثقافية والاجتماعية أمام الوصول المتكافئ للإنترنت، وتزويد الأطفال المتنقلين بإمكانية الوصول إلى الأجهزة الرقيمة والإنترنت، لمساعدتهم في البقاء على اتصال مع الأسر والأصدقاء.
2- حماية الأطفال من الأذى على الإنترنت: وهو الأمر الذي قد يتطلب المزيد من دعم جهود إنفاذ القانون لحماية الطفل، واعتماد وتنفيذ الإطار الاستراتيجي لتحالف "نحن نحميWeProtect " العالمي، وإعادة تصميم نظم الحماية بشكل يعكس ويتلاءم مع القدرات المتطورة للأطفال، بالإضافة إلى تمكين الأفراد الذين يُمكنهم أن يقدموا الدعم للأطفال، وذلك عبر وضع استراتيجيات للوالدين وغيرهم من مقدمي الرعاية، لتطوير المهارات التي يحتاجونها للتدخل إيجابيًّا، وليس مجرد تقييد استخدام الأطفال لتقنيات المعلومات والاتصالات.
3- حماية خصوصية وهويات الأطفال على الإنترنت، ولتحقيق هذا، يجب وضع كافة الضمانات اللازمة لحماية خصوصية الأطفال ومعلوماتهم الشخصية، وضبط إعدادات الخصوصية الخاصة بالأطفال عند الحد الأقصى تلقائيًّا، بالإضافة إلى ضرورة العمل على عدم استغلال البيانات الشخصية للأطفال لتحقيق مكاسب تجارية، واحترام التشفير للبيانات المتعلقة بالأطفال.
4- محو الأمية الرقمية لإبقاء الأطفال مطلعين ومشاركين وآمنين على الإنترنت، ويحتاج هذا الأمر إلى تشجيع عملية محو الأمية الرقمية في المدارس، وتزويد الأطفال بفرص تعلم مهارات تقنيات المعلومات والاتصالات في التعليم غير الرسمي، ودعم تنمية المهارات الرقمية ومحو الأمية الرقمية لدى المعلمين، والتوسع في إنشاء المكتبات الرقمية، بالإضافة إلى نشر القيم والمهارات التي تعمل في اتجاه تشكيل ثقافة رقمية بين الأطفال، تكون قادرة على تمكينهم من الحفاظ على سلامتهم على الإنترنت، واحترام حقوق المستخدمين الآخرين.
5- الاستفادة من قوة القطاع الخاص في النهوض بالمعايير والممارسات الأخلاقية التي تحمي الأطفال وتفيدهم على الإنترنت، ولتحقيق هذا الهدف، ينبغي أن تعمل الشركات، مع واضعي السياسات والمدافعين عن حقوق الطفل، لوضع حد أدنى من المعايير الأخلاقية لخدمتهم، فضلًا عن تشجيعها لفكرة الوصول غير التمييزي، ومنع شبكاتها وخدماتها من نشر مواد تتضمن إساءة معاملة للأطفال، بالإضافة إلى تزويد الوالدين بمجموعة أكثر تكاملًا من أدوات الحماية سهلة الاستخدام، لتمكينهم من توفير حيز آمن لأطفالهم، وخاصة للأطفال الأصغر سنًّا.
6- مشاركة الأطفال في وضع السياسات الرقمية، وهو الأمر الذي يتطلب إعطاء الأطفال والشباب صوتًا في عمليات تصميم وتطوير وتنفيذ وتقييم السياسات الرقمية التي تؤثر على حياتهم، والعمل على تتبع أوجه التفاوت في إمكانية الوصول للإنترنت، والحواجز التي تحول دون ذلك، بالإضافة إلى ضرورة العمل على إدماج القضايا المتعلقة بالأطفال والمساواة بين الجنسين في السياسات والاستراتيجيات الوطنية الخاصة بتقنيات المعلومات والاتصالات.
وختامًا، يؤكد تقرير منظمة الأمم المتحدة للطفولة على تأثير عمليات التحول الرقمي على الطفولة، ويوصي بضرورة وضعها في موقع متقدم من خريطة الاهتمامات العالمية، مؤكدًا الحاجة للمزيد من البحث والدراسة المتعمقة من جانب الحكومات والأوساط الأكاديمية المهتمة في السياقات الوطنية المختلفة، لفتح أبواب المستقبل أمام ما يمكن أن يقدمه الابتكار الرقمي لتوفير فرص تنموية أفضل للأطفال، ومواجهة التهديدات والتحديات التي تؤثر على مستقبلهم.
المصدر:
- United Nations Children’s Fund, The State of the World’s Children 2017: Children in a Digital World, (New York: UNICEF, December 2017), Available at:
https://www.unicef.org/publications/files/SOWC_2017_ENG_WEB.pdf