استعادة معظم مناطق الرقة من «داعش» على أيدي «قوات سورية الديموقراطية» المدعومة من الولايات المتحدة هي حدث بارز في الحرب ضد هذه الجماعة الإرهابية. وعلى رغم أن الرقة ليست ذات أهمية استراتيجية بالنسبة إلى تنظيم «داعش» كمناطق أخرى استولى عليها في الماضي، إلا أن إستعادتها تمثل خسارة رمزية له لأنه أعلن الرقة عاصمة لما سماه «الدولة الإسلامية». إن فقدان الرقة يعني انتهاء مشروع «الخلافة» الجغرافي لـ «داعش»، لكن هذا لا يشير إلى نهايته.
أحد أسباب تمكن «قوات سورية الديموقراطية» من الاستيلاء على الرقة بأسرع مما كان متوقعاً هو الصفقات التى عقدتها مع مقاتلي «داعش» في المنطقة، والتي سمحت تلك القوات بنتيجتها لمقاتلي «داعش» بالفرار من الرقة قبل توغلها في المدينة. وفر بعض مقاتلي «داعش» الذين قبلوا الصفقة في اتجاه البوكمال والميادين في محافظة ديز الزور. هاتان المدينتان ما تزالان من معاقل «داعش»، إذ إن العديد من مقاتليه انسحبوا إليهما بعد فقدان سيطرتهم على أماكن أخرى في سياق الحملة الدولية ضده. وباعتبارهما آخر معاقل لسيطرة «داعش» في المنطقة، فإن التنظيم سيخوض معركة ضارية عندما تبدأ مرحلة استعادة تلك المناطق منه.
وبما أن الرقة لم تكن أبداً مركزاً رئيساً لعمليات «داعش»، فإن خسارتها لا تعني انخفاضاً كبيراً في قدرة الجماعة. كانت في الرقة مراكز إدارية ومحاكم ومكاتب لمسؤولين في «داعش،» لكن القيادة العليا للتنظيم لم تقطن في المدينة، ولم تضع استراتيجياتها من الرقة. وهذا يعني أن قدرة الجماعة على نشر الدعاية والعمليات العسكرية لا تزال قوية نسبياً.
منذ البداية، وجه تنظيم «داعش» عملياته، لا من الموصل أو الرقة، بل من الصحراء بين سورية والعراق، حيث يختبئ قادة «داعش» تحت الأرض. هذه المنطقة أخذها أكثر صعوبة بكثير بالنسبة إلى قوات مثل «قوات سورية الديموقراطية، لأنها منطقة وعرة ومفتوحة والسيطرة عليها والاحتفاظ بها عملية معقدة. كما أن مقاتلي «داعش» الذين لم يسيروا في اتجاه المدن في دير الزور انتهى بهم المطاف في هذه المنطقة. ومن الصعب تقدير أعداد المقاتلين الذين قاموا بذلك، لأن «داعش» منذ أكثر من عامين يتيقظ على نحو متزايد إزاء حركة مقاتليه لأن قيادته تدرك الجهود التي يبذلها خصومه للتسلل إلى الجماعة. وهذا يعني أن تحركات مقاتليه الذين كانوا في الرقة تبقى سرية.
على رغم استعادة الرقة من «داعش»، فإن القضاء على هذا التنظيم لا يزال بعيد المنال. ومن المرجح أن بعض مقاتليه الذين غادروا الرقة سيشاركون في عمليات انتقامية في المنطقة. لن يقوم جميع المقاتلين بذلك، بسبب الصفقات التي توصلوا إليها مع «قوات سورية الديموقراطية». لكن بالنسبة إلى متشددي «داعش»، فإن القصة لم تنته بعد.
التغيير الأكبر في ظل التكوين الجديد لتوزيع القوى في شمال شرق سورية هو التكتيكات التي سيستخدمها. فمع فقدانه المناطق الحضرية، سوف يتحرك على نحو متزايد في اتجاه أن يصبح حركة تمرد. ومن المرجح أن ترتفع الهجمات الانتهازية في المناطق التي فقدها «داعش» الآن. كما أنه لن يتخلى بسهولة عن المناطق الغنية بالنفط في دير الزور، لأنه يعتمد على بيع النفط في السوق السوداء.
إن دور إيران النشط في المعركة ضد «داعش» في دير الزور من خلال نشر الميليشيات الشيعية يؤجج السردية الطائفية التي يستخدمها «داعش» لحشد مؤيديه السنّة. ومع ذلك، فإن لـ «داعش» صلات مع أجهزة المخابرات في النظام السوري، التي لعبت دوراً رئيساً في التأثير في تحركات عناصر التنظيم لمصلحة الجماعات التي ترعاها إيران، كما حدث في لبنان أواخر الصيف عندما وافق مقاتلوه على الحدود اللبنانية السورية على إجلاء سريع بوساطة «حزب الله» والنظام السوري.
في حين لا يزال «داعش» يتمكن حتى الآن من الاحتفاظ بقدرته على توجيه أنشطته من فوق، فإن الحملات العسكرية ضده من جهة وتأثير إيران غير المباشر عليه من جهة أخرى، إلى جانب تزايد وتيرة الانتقال نحو الهجمات الانتهازية، تعني أنه من المرجح أن يتحول «داعش» إلى فروع مختلفة، كل منها له اهتماماته الخاصة. ومن المرجح أن يظل المقاتلون الأجانب الذين لا مكان لهم خارج سورية والعراق ينجذبون إلى أي جماعة يمكنهم الانضمام إليها عملياً.
هذا السيناريو يذكرنا بتطور «القاعدة» الذي أقام فروعاً في مواقع مختلفة، ولكل منها أولوياتها الخاصة. وكما هو الحال مع «القاعدة»، من المرجح أيضاً أن يزيد تنظيم «داعش» من تفعيل مؤيديه في جميع أنحاء العالم للانخراط في هجمات انتهازية كوسيلة للتأكيد على وجوده. وسيستخدم هذه الهجمات الانتهازية كوسيلة للتعويض من فقدان الأراضي في العراق وسورية.
إن الديناميات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في الرقة وغيرها من المناطق التي تم كسبها من «داعش»، سوف تلعب دوراً مهماً في تحديد ما إذا كانت هناك عودة إلى هذا التنظيم أو مجموعات مثله في المستقبل. لذلك، من المهم عدم الترکیز في شكل کبیر علی ھزیمة «داعش» في الرقة کمؤشر إلى زوال هذه المجموعة.
*نقلا عن صحيفة الحياة