تنطوي زيارة العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز إلى موسكو على دلالات شديدة الأهمية بالنسبة إلى النهج الذي تتبعه السياسة الخارجية السعودية في التعامل مع القوى الدولية؛ إذ إن الزيارة التي قام بها العاهل السعودي لروسيا هي الأولى من نوعها على الإطلاق.
ويُعد ذلك أحد المؤشرات المهمة على تغير السياسة الخارجية السعودية والمنطلقات التي تتعامل من خلالها مع الدولة الروسية بعد فترة طويلة من التحفظ النسبي أو الحذر في انفتاح الرياض عليها. وقد اعتُبرت الزيارة مؤشرًا على رغبة سعودية في امتلاك المزيد من الخيارات الأكثر توازنًا في علاقاتها مع القوى الدولية، وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية.
تطور العلاقات الثنائية:
يُشير تاريخ العلاقات السعودية-الروسية إلى محطات من التوتر استمرت عقودًا طويلة، بل إن هذه الزيارة قد سبق الإعلان عنها مرات، وكانت تؤجل في كل مرة، مما يعني أن إتمامها في هذا التوقيت تحديدًا كان أمرًا مهمًّا، ليس للمملكة العربية السعودية فقط، بل للجانب الروسي أيضًا.
وقد عبر المتحدث باسم الكرملين "ديمتري بيسكوف" عن ذلك بقوله: "السعوديون زعماء في العالم العربي.. أملنا الرئيسي هو أن توفر هذه الزيارة زخمًا جديدًا وقويًّا لتنمية العلاقات الثنائية، لأن إمكانات علاقاتنا أغنى بكثير مما يُظهره الوضع الراهن".
ويشير تتبع المحطات الرئيسية للعلاقات بين البلدين إلى أنها كانت منعدمة حينًا، ومحدودة حينًا، كما اتسمت بنوع من التوتر الذي يشوبه العداء، أخذًا في الاعتبار الاصطفافات الدولية والإقليمية المتعارضة للطرفين حتى نهاية الثمانينيات من القرن الماضى، واللافت أن الاتحاد السوفيتي كان أول دولة تعترف رسميًّا في عام 1926 بالمملكة، التي كان يُطلق عليها "مملكة الحجاز وسلطنة نجد وملحقاتها"، ثم أعلن الاتحاد السوفيتي إغلاق بعثته الدبلوماسية في جدة وقطع العلاقات في أبريل عام 1938، بعدما رأى السوفيت أن المملكة لن تتبنى موقفًا ضد الغرب.
وظلت العلاقات مقطوعة حتى استُؤنفت بين الجانبين في 17 سبتمبر 1990، على خلفية الغزو العراقي للكويت ومشاركة الاتحاد السوفيتي في التحالف الدولي الذي طرد القوات العراقية من الكويت؛ إذ شهدت علاقاتهما مزيدًا من التطور، وتبادل مسئولو البلدين الزيارات الرسمية، ومنها زيارة الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز لموسكو عام 2003 (وكان وليًّا للعهد آنذاك)، وزيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى المملكة عام 2007.
وحدث تقدم إيجابي ملحوظ مع الزيارتين اللتين قام بهما الأمير محمد بن سلمان (ولي ولي العهد وقتها) إلى روسيا في يونيو وأكتوبر عام 2015، والاتفاق على استثمار 10 مليارات دولار في إطار شراكة بين صندوق الاستثمارات العامة في المملكة والصندوق الروسي للاستثمارات المباشرة.
وقد تنامى التوجه نحو تكثيف التعاون التجاري والاقتصادي بين البلدين، حيث ارتفع حجم المبادلات التجارية بين البلدين من 235 مليون دولار أمريكي في عام 2005 إلى 926 مليون دولار أمريكي خلال عام 2016، وفقًا لموقع الخارجية السعودية.
رهانات متعددة:
على الرغم من التحالف التقليدي الذي يجمع المملكة العربية السعودية بالولايات المتحدة الأمريكية، والذي كان من مظاهره اختيار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب المملكة لتكون وجهته الأولى في أول زيارةٍ خارجية له بصفته رئيسًا للولايات المتحدة؛ إلا أن السياسة الخارجية السعودية بدأت تتجه منذ سنوات إلى التطلع إلى الولايات المتحدة باعتبارها قوة مهمة وضرورة أساسية في تحالفات المملكة، لكنها ليست الوحيدة. فقد ظلَّت الولايات المتحدة الحليف الأهم والأكبر للمملكة طيلة أكثر من 70 عامًا، لكن السياسة الأمريكية باتت أيضًا تُثير علامات استفهام، فالإدارة الأمريكية شاب سياساتها العديد من مظاهر "التخبط"، خاصةً فيما يتعلق بالتزامها بمقتضيات تحالفها مع المملكة، وتقلص الدور العالمي للولايات المتحدة خلال عهد أوباما على حساب مصالح السعودية في عددٍ من القضايا المهمة بالنسبة إليها.
وبالرغم من المواقف المتعارضة بين روسيا والمملكة في أغلب الصراعات الإقليمية الرئيسية، بدءًا من الحرب في أفغانستان، ومرورًا بالموقف الروسي من إيران، ووصولًا إلى الملف السوري؛ فإن هناك عوامل دفعت إلى إعادة الطرفين النظر في الفتور الذي يكتنف علاقاتهما؛ حيث يبدو أن المملكة تُراجع حالة الاعتماد الكامل على الولايات المتحدة، وذلك في ضوء العديد من التطورات، ومنها: الموقف الأمريكي من إيران، وتوقيع الاتفاق النووي معها، والتوتر الذي شاب العلاقات السعودية-الأمريكية بسبب قانون "جاستا".
وأصبح الحل هو تنويع الرياض لتحالفاتها الدبلوماسية، بما في ذلك إقامة اتصالات مع قوى كانت تُحجِم في السابق عن التعامل معها، أو تقلل من حجم التعامل معها إلى أضيق الحدود، وروسيا إحدى هذه القوى بكل تأكيد، في وقت تتصاعد فيه حدة الأزمات الإقليمية من جانب، مع بطءٍ وعدم وضوحٍ أمريكيين في التعامل مع هذه الأزمات من جانب آخر.
وتنظر المملكة إلى التعاون مع الجانب الروسي بوصفه آلية لتنفيذ رؤية الرياض الاستراتيجية بتنويع خياراتها الدولية من أجل تحقيق التوازن الإقليمي، بالنظر إلى أن الدور الذي تلعبه روسيا في أزمات المنطقة أصبح أمرًا لا يُمكن إغفاله.
وتتسم الصفقة المبدئية التي أعلنها الجانبان الروسي والسعودي لبيع الرياض أنظمة صواريخ "إس 400" الروسية، بأهمية كبيرة. ففيما لا يزال الكونجرس الأمريكي يضع العراقيل والعقبات أمام تسليم الأسلحة التي وقَّع الرئيس ترامب على بيعها للمملكة خلال زيارته للرياض؛ أتى توقيع هذه الاتفاقية التي تضمن أيضًا تصنيعها في المملكة، بالإضافة إلى شراء أنظمة مضادة للدروع من نوع "كورنت-آي إم"، وقاذفات صاروخية من نوع "توس-1 آي"، وقاذفات قنابل يدوية "آي جي إس-30"، ورشاشات كلاشينكوف من نوع "آي كي-103".
بالإضافة إلى اتفاق الطرفين على تأسيس مشروع لتصنيع نظام الدفاع المضاد للطيران إس-400، وصيانة قطعه بالمملكة، مما يكفل للمملكة "نقل تكنولوجيا مهمة".
قضايا متشابكة:
تتبنى المملكة سياسة جديدة -إذن- تهدف إلى أن يكون لدى المملكة عدد من الخيارات المتوازنة، ومن ثم فالسؤال المطروح هو: ما تأثير تطوير المملكة لعلاقاتها مع روسيا على أزمات المنطقة؟ خاصة أن موسكو تمتلك أوراق ضغط مهمة في صراعات الإقليم ومشكلاته وتعقيداته، وأن المملكة تبدو مدركة للدور الروسي الرئيسي والفاعل في المنطقة، وهو ما يمكن توضيحه فيما يلي:
1- الصراع السوري: يُعد الملف السوري من أبرز القضايا التي يمكن أن تتأثر بتطوير علاقات أكثر متانة بين السعودية وروسيا. وتشير التكهنات التي أعقبت الزيارة إلى أنها قد تؤدي إلى تقليص الفجوة بين الجانبين، فروسيا لم تغيِّر موقفها تجاه سوريا، خاصة فيما يتعلق بدعمها لبقاء الرئيس بشار الأسد، ومن جانبها فإن السعودية لم تعد تتحدث كثيرًا عن ضرورة إزاحته، وكان دعم روسيا للأسد ثم تدخلها العسكري القوي لمساندته من القضايا الخلافية بين البلدين.
ويشير بعض المحللين إلى أن المملكة قد تعقد اجتماعًا للمعارضة السورية في الرياض منتصف شهر أكتوبر الجاري، لحثها على إعادة هيكلة مطالبها السياسية، وتوحيد صفوفها.
2- السياسات الإيرانية: يُعد الموقف الروسي من إيران من القضايا الشائكة في علاقة البلدين، ومن بين دوافع المملكة إلى إقامة روابط أوثق مع موسكو محاولة إبعاد روسيا قدر الإمكان عن إيران، مما يقلص النفوذ الإيراني المتزايد في المنطقة.
وقد حاولت المملكة تغيير الموقف الروسي الداعم لإيران عام 2015، عن طريق ضخ استثمارات وصلت إلى ما يقدر بحوالي 10 مليارات دولار في روسيا. ورغم ذلك، فإن هذا الاختراق لم يحدث، وقد تسهم نتائج الزيارة الملكية في تحريك هذا الملف نوعًا بما يخدم المصالح السعودية. وتراهن المملكة على أنها يمكن أن تحظى بمساعدة روسيا في محاولات الحد من النفوذ الإيراني في المنطقة، سواء في سوريا أو اليمن أو غيرهما.
3- الإنتاج النفطي: يعد النفط -بدوره- أحد الملفات المهمة التي يمكن أن تدعم التقارب بين المملكة وروسيا، فالدولتان هما أكبر منتجتين للنفط في العالم، وقد اتفقتا أواخر عام 2016 على تخفيض الإنتاج الكلي بنحو 1.8 مليون برميل يوميًّا من إنتاج النفط العالمي، وتم تمديد الاتفاق إلى أول مارس 2018. واعتُبر نجاح البلدين في تقليص الفائض النفطي العالمي الذي تسبَّب في تراجع أسعار النفط الخام إلى أقل مستوى لها في 13 عامًا، خطوة شديدة الأهمية في علاقات البلدين.
إجمالًا، يمكن القول إنه من الخطأ التعامل مع تطوير العلاقات السعودية-الروسية بوصفها بديلًا للعلاقات السعودية-الأمريكية، ولم يكن من قبيل المصادفة أن الإعلان عن زيارة الملك سلمان إلى روسيا تلاه الإعلان عن زيارة الملك إلى الولايات المتحدة أيضًا في أوائل العام المقبل، لكن الواضح أن المملكة تهدف إلى أن تبني سياستها في المنطقة بصورة أكثر توازنًا، انطلاقًا من مصالحها الوطنية. ومن المتوقع أن يستمر التباين في السياسات بين موسكو والرياض إزاء عدد من قضايا المنطقة وملفاتها، ومنها الملف الإيراني، لكن زيارة الملك سلمان إلى روسيا في هذا التوقيت لا يمكن إلا أن تُعتبر تحركًا استراتيجيًّا سعوديًّا شديد الأهمية.