انتهت زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى المنطقة، والتي شملت المملكة العربية السعودية ثم دولة الكويت وختمها بزيارة لقطر. وكان الهدف الأساسي المعلن لهذه الزيارة رغبة الرئيس التركي في القيام بدور الوسيط في الأزمة الخليجية بين الدول المضادة للإرهاب وقطر. اللافت أنه ومن قبل أن تبدأ هذه الزيارة كانت المؤشرات جميعها تشير إلى أنه من الصعوبة بمكان تصور إحراز الرئيس التركي نجاحًا يُذكر، وألمحت تقديرات إلى أن هدفه من هذه الزيارة ليس القيام بوساطة حقيقية في الأزمة القطرية، بل إن المصالح التركية هي التي تحكم أولويات هذه الزيارة.
ومن اللافت للنظر أنه لم تُعقد مؤتمرات صحفية خلال الزيارة، وأن تصريحات الرئيس التركي التي أعلنها في مطار أنقرة بعد عودته كانت باهتة، وخلت من الإشارة إلى تحقيق أي تقدم. وعدا الحفاوة القطرية المتوقعة بأردوغان، فقد استُقبل بفتور في المملكة العربية السعودية، ودون حماسة كبيرة في الكويت، ولم تصدر عن قادة البلدين أو مسئوليهما أي تصريحات بشأن الزيارة.
ركائز التحالف التركي - القطري:
لا يمكن الحديث عن هذه الزيارة دون الإشارة إلى السياق الذي تمت خلاله، وهو الموقف التركي من "أزمة قطر"، ففي البداية حاولت تركيا تبني موقف محايد نسبيًّا؛ أملا في أن تُثمر الوساطات المختلفة حلاًّ سريعًا، لكن مع تعقد الأزمة وظهور أنه لا أفق قريبًا للحل انتقل الموقف التركي إلى الانحياز لقطر بشكل واضح، حتى وإن حاول إظهار بعض التوازن في التصريحات الرسمية. وعلى الرغم من أن لتركيا علاقات قوية مع المملكة العربية السعودية، فإن العلاقات التركية - القطرية قادت السلوك التركي إلى تبني موقف الانحياز لقطر.
ويمكن الإشارة في هذا السياق أيضًا إلى طبيعة العلاقات التركية - القطرية التي شهدت تطورات كبرى في السنوات الأخيرة حتى بلغت ما يُمكن اعتباره تحالفًا استراتيجيًّا، وهي كالتالي:
1- العلاقات السياسية: تتمثل أهم أسس العلاقات السياسية بين تركيا وقطر في توقيع مذكرة إنشاء اللجنة الاستراتيجية العليا المشتركة في ديسمبر 2014، ثم توقيع اتفاق تأسيس مجلس أعلى للتعاون الاستراتيجي لتعزيز التعاون في المجالات السياسية والاقتصادية، إضافة إلى مجالات الطاقة والأمن والعلوم والتكنولوجيا، وذلك في يناير 2015. من جانب آخر تتقارب مواقف وسياسات البلدين في العديد من قضايا المنطقة، فكلتاهما تدعم تيارات الإسلام السياسي، خصوصًا الإخوان المسلمين.
وقد سعت قطر إلى تعزيز تحالفها مع تركيا ضمن سياسات تقوية مكانتها الإقليمية والضغط على دول الجوار. من جانبها، هدفت تركيا من التقارب مع قطر إلى إيجاد موطئ قدم أمني وعسكري داخل منطقة الخليج العربي.
2- العلاقات العسكرية: تتمثل أبرز ملامح العلاقات العسكرية في توقيع اتفاقية التعاون العسكري في 19 ديسمبر 2014، والتي صدّق عليها البرلمان التركي في 5 مارس 2015، ودخلت حيز النفاذ الفعلي في يونيو 2015. ومن أبرز بنودها: تبادل كلٍّ من تركيا وقطر نشر قواتهما العسكرية، وإقامة قواعد عسكرية لكل منهما على أراضي الدولة الأخرى.
كما وقّعت الدولتان في 2 ديسمبر 2015 اتفاقية للتعاون العسكري في مجال التدريب. وفي 17 ديسمبر 2015، أعلنت تركيا بدء إنشاء قاعدة عسكرية بقطر تضم 3 آلاف جندي من القوات البرية يتم إرسالهم على دفعات، وقوات تابعة لسلاح الجو والبحرية. ومع اندلاع الأزمة القطرية الراهنة، سارع البرلمان التركي، في 7 يونيو 2017، إلى التصديق على اتفاقية تسمح بنشر قوات تركية في قطر، وصادق عليها الرئيس التركي في اليوم التالي.
3- العلاقات الاقتصادية: تأسست العلاقات الاقتصادية التركية - القطرية على الاستثمارات الضخمة من جانب الدوحة في الاقتصاد التركي، فقد بلغ حجم الاستثمارات القطرية في تركيا نحو 20 مليار دولار، حيث تُعد قطر ثاني أكبر دولة مستثمرة في تركيا. فيما تبلغ قيمة المشروعات الاستثمارية التي نفذتها شركات تركية في قطر نحو 15 مليار دولار، كما استوردت تركيا نحو 1.2 مليار متر مكعب من الغاز القطري المُسَال في عامي 2014 و2015، ثم وقّعت اتفاقية أخرى في ديسمبر 2015 لمد تركيا بالغاز بشكل منتظم.
ودفعت هذه العلاقات أردوغان إلى أن يصرح يوم 7 يونيو بأن الإجراءات التي اتخذتها "دول الرباعية العربية" ضد قطر "غير صحيحة"، وأن مقاطعة الدوحة "عمل لا إنساني وحُكم بالإعدام"، ثم أكد في 25 يونيو تأييد تركيا لموقف قطر من قائمة المطالب الـ13 التي اعتبرها "تخالف القوانين الدولية" وفق رؤيته، مما يؤكد انحيازه الكامل للمواقف القطرية.
من جانب آخر، استقبلت أنقرة في نهاية يونيو الماضي وزير الدولة القطري لشئون الدفاع خالد بن محمد العطية، حيث التقى نظيره التركي فكري إشيق، والرئيس رجب طيب أردوغان، لبحث تطورات الأزمة القطرية، وكأن تركيا هدفت إلى بث رسائل للدول العربية بأنها متمسكة بتحالفها مع قطر، ولن تتنازل عن إنشاء قاعدتها العسكرية فيها.
ولهذا لم يقتصر الدعم التركي لقطر على الجانب السياسي فقط؛ بل امتد ليشمل جوانب اقتصادية مختلفة من خلال توفير ما تحتاجه قطر من مواد غذائية وشحنها جوًّا، حيث سعت أنقرة لاستغلال "الأزمة القطرية"، للسماح للمنتجات الغذائية التركية بالنفاذ للأسواق القطرية. وفي هذا السياق، يمكن الإشارة إلى ما ورد في حديث أمير قطر الشيخ تميم قبل أيام في أول ظهور تلفزيوني له منذ الأزمة، من إشادة بالموقف التركي.
دوافع جولة أردوغان:
كان الهدف التركي المعلن لهذه الزيارة، والذي صرح به أردوغان في مؤتمر صحفي في مطار أتاتورك بإسطنبول قبيل بدء جولته الخليجية، هو الوساطة في الأزمة القطرية، حيث أشار أردوغان إلى أن "المحطة الأولى لزيارتنا هي السعودية التي تحولت علاقتنا معها إلى علاقة استراتيجية في كل المجالات. وسأبحث مع الجانب السعودي قضايا بينها الملف السوري، ونحن عازمون على مواصلة تعزيز العلاقات مع المملكة"، وتابع: "تقع على عاتق المملكة العربية السعودية مسئولية أكبر من بقية الدول من أجل حل أزمة الخليج". كانت الوساطة إذن هي الهدف المعلن، من منطلق أنه "ليس من مصلحة تركيا أن تمتد الأزمة القطرية أكثر من ذلك"، وفقًا لما قاله أردوغان أيضًا.
لكن واقع الأمر يُشير إلى أن الحسابات الحقيقية لتركيا من هذه الزيارة مختلفة، على النحو التالي:
1- تحقيق التوازن في العلاقات: هدفت الزيارة إلى تحقيق قدرٍ من الاتزان في موقفها من أطراف الأزمة، خاصة الجانب السعودي. ومن ثم سعى الرئيس التركي إلى تفادي تدهور العلاقة مع المملكة بالدرجة الأولى وباقي الدول المضادة للإرهاب.
2- إقامة حوار مع السعودية: تهيمن على نظام الحكم في تركيا -معنويًّا- رغبةٌ في التأكيد على أنه لا تزال لديه القدرة على الحوار مع المملكة على الرغم من موقف أنقرة كحليف مقرب للدوحة خلال الأزمة القطرية.
3- العودة للمحور السني: يهدف الرئيس التركي إلى إعادة تركيا إلى المحور السني الذي تقوده المملكة في مواجهة المحور الإيراني الذي يتمدد في العراق وسوريا واليمن.
4- تعزيز العلاقات الاقتصادية: تسعى أنقرة للحفاظ على العلاقات الاقتصادية بين تركيا والدول المضادة للإرهاب، فقيمة الاستثمارات السعودية المباشرة في تركيا تقارب 2 مليار دولار، بينما تبلغ قيمة استثمارات دولة الإمارات نحو 4.1 مليارات دولار.
إخفاق دبلوماسية أنقرة:
لم تُحقق جولة أردوغان أيًّا من أهدافها الأساسية؛ حيث إن المقدمات الأساسية للزيارة والسياقات التي تمت فيها قادت إلى النتيجة شبه الطبيعية، وهي الإخفاق، بل إن الإعلام الإقليمي والعالمي لم يتعامل معها باهتمام يُذكر، نتيجة القناعة الضمنية بصعوبة تحقيق الرئيس التركي أي تقدم، خاصة أنه يعلن منذ البداية عن انحياز واضح لقطر، ومثل هذا الانحياز هو بالضرورة معول هدم لأي جهود للوساطة، لأن الأساس الذي يُمكن أن ترتكن إليه الوساطة هو الحياد، وأن يقف الوسيط على مسافة واحدة من أطراف الأزمة وهو ما غاب عن الموقف القطري.
وقد ذهبت أغلب التحليلات التي تناولت الزيارة إلى أنها لن تأتي بجديد، ولن تحقق أي تقدم في تحقيق المصالحة التي تسعى أنقرة إليها، وهو ما حدث بالفعل، فقد تسبب التأييد الصريح لقطر في وقوف تركيا موقف العاجز عن تقديم أي تقدم ملموس.
ووفقًا لتقديرات عدة، فإن الموقف المتشكك من نوايا تركيا كان السائد في تعامل المملكة العربية السعودية مع الزيارة، وهو ما قد يفسر الاستقبال البروتوكولي الفاتر في المملكة للرئيس التركي على غير المعتاد، حيث تم استقبال الرئيس التركي من قبل الأمير خالد الفيصل بن عبدالعزيز آل سعود، مستشار خادم الحرمين الشريفين، أمير منطقة مكة المكرمة.
ختامًا، أخفقت الجولة التركية في تحقيق أهدافها، أو تحقيق أي تقدم حقيقي في الأزمة القطرية، ولم يُضِفْ الرئيس التركي إلى مسارات التفاعلات في هذه الأزمة أي جديد يُذكر، وغادر الرئيس التركي قطر آخر محطة في جولته، دون أن يتم الإعلان عن نتائج الجولة أو حتى ما دار في لقائه بأمير قطر من مباحثات، مما يعكس تصدع وانهيار فاعلية الدبلوماسية التركية التي باتت تفتقد للمصداقية.